العائدات النفطية تشكل 40% من موازنة السودان لكنها لا تظهر على الحياة الإقتصادية العامة

* وزارة الطاقة لا ترى عائدات النفط الذي تقوم بتصديره، فالجزء الأكبر يذهب لتغطية الديون * وجود الميليشيات في مناطق النفط أقوى من وجود الجيش

TT

السر سيد أحمد شكلت فاتورة النفط عبئا كبيرا على واضعي السياسة الاقتصادية في السودان طوال العقدين الماضيين، خاصة اثر ارتفاع اسعار النفط، الامر الذي جعل كل عائدات الصادرات لا تغطي تلك الفاتورة. ولهذا جاء بدء تصدير النفط في اغسطس (آب) 1999 بمثابة تخفيف لذلك العبء. وبالفعل سجل الربع الاخير من العام ظهور عائدات البترول في دخل الدولة اذ بلغت 275.9 مليون دولار، او 4، 35 في المائة من جملة عائدات الصادر، ارتفعت في العام التالي الى 60 في المائة، كما شكلت 40 في المائة من ايرادات موازنة العام الحالي.

وبالرغم من هذا التطور، الا ان العائدات النفطية ليس لها اثر واضح على الحياة الاقتصادية العامة رغم دخول نحو خمسة مليارات دولار للاستثمار في قطاع الطاقة والتعدين، الامر الذي اثار الكثير من التكهنات عن ان اموال النفط لا تدخل خزينة الدولة وانما يتم التصرف بها عبر وزارة الطاقة وحدها.

عندما حملت هذه الملاحظة الى المهندس حسن محمد علي التوم، الامين العام لوزارة الطاقة، اجاب انه عند بدء التصدير، اصر وزير المالية وقتها الدكتور عبد الوهاب عثمان ان تذهب الايرادات الى حسابات بنك السودان مباشرة بدلا من الاقتراح الاولي ان تتولى وزارة الطاقة التحصيل من العملاء، ولهذا فوزارة الطاقة لا ترى حتى عائدات النفط الذي تقوم بتصديره.

وزير المالية عبد الرحيم حمدي رسم صورة تفصيلية موضحا ان جزءا من عائدات الحكومة، التي كانت العام الماضي 500 مليون دولار يتوقع لها هذا العام ان ترتفع الى 600 مليون بسبب زيادة الانتاج، تذهب الى تسديد بعض الديون وعلى رأسها: التسديد للصين مقابل نصيب السودان في مصفاة الخرطوم، التي دفع السودان فيها 50 مليون دولار فقط من اصل 300 مليون، اذ ان المشروع يقام مناصفة بين البلدين. ولهذا يدفع السودان عشرة ملايين دولار سنويا لتسديد ديون المصفاة. وهناك ايضا التسديد للمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد وصندوق النقد العربي وبنك التنمية الافريقي، حيث تم العام الماضي دفع مبلغ 137 مليون دولار يتوقع ان ترتفع هذا العام الى 300 مليون دولار، كما تم تحويل مبلغ لبناء احتياطي صغير من العملات الاجنبية لدى بنك السودان بلغ 90 مليونا، وذلك لمساندة سعر الصرف ومقابلة احتياجات الواردات، وكذلك الى الاسهام في تغطية فجوة الايرادات. ولهذا فهناك تأثير بصورة غير مباشرة من خلال توفير فاتورة استيراد المشتقات النفطية، تحسن وضع الميزان التجاري واجتذاب مستثمرين اجانب، وهي آثار ستكون اكثر وضوحا بعد قيام الشركات الاجنبية باسترداد الاموال التي انفقتها على بناء الصناعة النفطية وزيادة نصيب الحكومة. وضعت حكومة الانقاذ موضوع استغلال الثروة النفطية على رأس اولوياتها، وبالفعل تمكنت في العام 1992 من الاتفاق مع شركة «شيفرون» الاميركية على السماح لشركات اجنبية بالعمل في مناطق امتيازها بعد تمنعها عن العمل تحت ذرائع امنية منذ العام 1985. وفي يونيو (حزيران) من ذات العام، اي بعد اربعة اشهر وافقت «شيفرون» على بيع امتيازها لشركة «كونكورب» التي يملكها رجل الاعمال السوداني محمد عبد الله جار النبي، واتضح فيما بعد ان تلك الشركة واجهة للحكومة السودانية.

ثم جاءت الخطوة الثانية لتكوين كونسورتيوم من الشركات الاجنبية والبداية بشركة «ستيت» الكندية وفرعها «اراكيس» التي يملكها رجال اعمال باكستانيو الاصل، وتم فيما بعد تكوين الكونسورتيوم الذي شاركت فيه شركة النفط الصينية الوطنية و«بتروناس» الماليزية الى جانب «سودابت» السودانية، والثلاث الاخيرة تتعامل مع المشروع من منطلق استراتيجي، وليس تجاريا فقط. لكن «اراكيس» لم تستطع المضي قدما في المشروع للمتاعب المالية التي كانت تحيق بها وفشلها في توفير مشاركة من ممولين مهتمين بالمشروع، الامر الذي فتح الباب امام شركة «تاليسمان» الكندية لشراء حصة «اراكيس» بمبلغ 227 مليون دولار كندي وذلك في العام 1998. واتخذت «تاليسمان» قرارها بالدخول في المشروع للاحتياطيات النفطية التي توجد فيه، ولمحدودية المنافسة بسبب تدهور اوضاع السوق النفطية في ذلك الوقت وبسبب الالتزامات الاستثمارية الكبيرة التي تصاحب المشروع والشروط المالية الملائمة. بعد استخلاص الامتياز النفطي من «شيفرون» وفتح الباب امام كونسورتيوم الشركات الاجنبية، اصبح الهم الرئيسي تأمين المنطقة عسكريا وامنيا. الخطوة الاولى كانت باحداث نقلة نوعية وجمع الفصائل التي انشقت عن الحركة الشعبية لتحرير السودان في تحالف معلن مع الحكومة، وهو المجهود الذي توج باتفاقية الخرطوم للسلام في ابريل (نيسان) 1997 مع ستة فصائل صغيرة، على ان الامر لم ينته هنا وانما بدأ فاولينو ماتيب، وهو احد قيادات قبيلة النوير العسكرية، ويتعاون مع الجيش السوداني منذ السبعينيات حيث يحمل رتبة لواء، في احكام سيطرته على منطقة ولاية الوحدة، حتى تمكن بعد عامين تقريبا من طرد العناصر العسكرية التي كانت تتبع لمساعد رئيس الجمهورية وقتها الدكتور رياك مشار، وهو ما دفعه في النهاية الى العودة الى صفوف التمرد مرة اخرى، وهي الممارسات التي وصلت قمتها عندما تم اغتيال بعض الوزراء الاقليميين التابعين لمشار، حيث اشارت اصابع الاتهام لماتيب، الذي لم تتم مساءلته عما جرى.

ماتيب الذي يحظى بمساندة حكومية نجح في تثبيت دعائم الامن في الولاية التي تنتج النفط، لكن تأمين الصناعة النفطية يبدو معتمدا على هذه الميليشيا القبلية اكثر من اعتماده على الدولة المركزية. وهناك اشارات الى احتمال تغير الاوضاع مستقبلا. فماتيب في اواخر الخمسينيات من عمره، الامر الذي يقلل من فاعليته العسكرية مستقبلا، خاصة ان مسؤوله العسكري الاول بيتر قاديت، وهو من قبيلة النوير ايضا، انسلخ بقواته ليبدأ حملة تنسيقية مع حركة قرنق.

وفي تقدير عبد الرسول النور احد قيادات حزب الامة والحاكم السابق لاقليم كردفان، ان منطقة الانتاج النفطي في الجنوب والغرب اصبحت ميدانا للوجود العسكري لثماني مجموعات: فهناك قوات ماتيب في ولاية الوحدة، وبيتر قاديت في اللير، جنوب بنتيو بأكثر من 45 كيلومترا، ثم قوات رياك مشار قرب ميوم، وقوات تتبع لقرنق شمال فاريانق وبنتيو، ثم قوات الدفاع الشعبي التي تتمركز في منطقة ابيي والقوات المتحركة، قوات الحركة الشعبية في منطقة جبال النوبة التي كان يقودها يوسف كوة، ثم التنظيم العسكري لغرب السودان الذي يقوده عبد القادر حامد مهدي، وهو تنظيم جديد يتحدث عن متاعب ابناء الغرب هذا الى جانب الجيش، الذي يعتبر هو وقوات الحركة الشعبية الاضعف وجودا عسكريا في هذه المنطقة، حيث يبدو للميليشيات القدح المعلى.

وكانت مجلة «الايكونومست» في عدد 12 ابريل الماضي قد رسمت صورة مماثلة عندما تحدثت عن التغيير الذي شهدته تلك المنطقة، ففي الماضي استثمرت الحكومة الخلافات والاشتباكات القبلية بين الدينكا والنوير خاصة بعد انشقاق الحركة الشعبية في مطلع العقد الماضي، وكذلك بين البقارة والدينكا، لكنها ومنذ العام 1999 وبدء تصدير النفط، بدأت تشجع على اخلاء مناطق الانتاج من السكان. وان الحركة الشعبية ليس لديها القدرة ولا الوحدة على منع ذلك، وتضيف المجلة انه من جملة ست مجموعات ميليشيات محلية في تلك المنطقة، فان واحدة فقط على صلة بالحركة الشعبية. المنطقة التي تجري فيها العمليات الانتاجية هي ذات المنطقة التي كانت تعمل فيها «شيفرون»، ويقول المسؤولون السودانيون انه اذا كانت هناك عمليات تهجير للسكان من اجل المضي قدما في العمليات الانتاجية فلابد ان تكون عمليات التهجير هذه قد جرت ايام عمليات «شيفرون»، وليس هناك سجل او تغطيات اعلامية لهذا الجانب.

وفي كتاب عن عمليات الاكتشافات النفطية في مناطق مختلفة عن العالم بينها السودان، صدر العام 1995، كتب آلان مارتيني وجيمس بايني، وهما موظفان سابقان في «شيفرون» فصلا تحدثا فيه عن منطقة الامتياز الذي حصلت عليه الشركة ووصفاها انها تمتد من الصحراء في الشمال الى منطقة السدود في الجنوب، وبين هذين النقيضين توجد منطقة حشائش مفتوحة تقطعها غابات ذات اشجار شوكية. ثلثا هذه المنطقة الجنوبية تغمرها المياه التي تبدأ في الهطول من مايو (ايار) كل عام ولفترة تتراوح بين ثلاثة وخمسة اشهر. والمنطقة لا تمتاز بالتنوع الجغرافي، وانما القبلي كذلك، حيث يشكل بحر العرب احد روافد النيل، احد الخطوط الفاصلة، فالى الشمال منه يعيش البقارة وهم الذين يتحركون بقطعانهم من البقر والاغنام خلف المياه والمرعى شمالا وجنوبا حسب الموسم. جنوب بحر العرب يوجد الدينكا وبعدهم النوير، وهما من القبائل النيلية. وبسبب الخلافات حول المرعى، فان البقارة والدينكا في حالة نزاع مستمر عبر القرون.

هذه الصورة تشير الى ان سكان المنطقة في الاساس بدو سواء من الدينكا او النوير الذين يتحركون في مسافة ضيقة، بينما المسيرية يتحركون في مساحة 250 كيلومترا، كما يقول عبد الرسول النور وتزداد الحركة في فصل الصيف، خاصة من قبل المسيرية الذين يتحركون جنوبا بحثا عن المياه ويمكن ان تصل اعدادهم الى 100 الف نسمة، هذا الى جانب وجود مستنقعات عديدة تجعل من الصعب اتباع نمط من الحياة يقوم على الاستقرار، خاصة مع عدم وجود بيئة زراعية وانما رعاة يتحركون مع قطعانهم، والمنطقة ملائمة للمرعى اكثر منها للزراعة، ويسمح لاصحاب المواشي بالمرور عبر حقول النفط.

المجال الوحيد الذي تعترف الحكومة فيه بأثر المشروع على السكان عندما نزعت اراضي البعض لصالح مد خط الانابيب، وهي عملية استغرقت 18 شهرا بين عامي 97/1999، وتم تقسيم مسار الخط الى عشرة قطاعات، كما تم اتباع منهج يقوم على اثبات حالات التعويض للملاك، عبر الاستعانة بالعمد والمشايخ، وبلغ عدد الذين تم تعويضهم سواء بنزع اراضيهم او بسبب التأثير على محاصيلهم 1872 شخصا، بلغت جملة التعويضات التي سلمت لهم 787، 458، 176 دينارا او (ما يزيد قليلا على سبعة ملايين دولار) وخلصت اللجنة الي تقدير قيمة كل الملكيات والمرافق المتأثرة بمسار خط الانابيب من «هجليج» في وسط غرب السودان الى ميناء بشائر على ساحل البحر الاحمر، وتم اعداد خرائط للمسار وكذلك دفع التعويض نقدا ومباشرة للمتضررين.

ويشير المسؤولون ايضا الى جانب الخدمات الاجتماعية الذي بدأ في التحسن خاصة في ميداني الصحة والتعليم، وهو العنصر الذي بدأ يجذب السكان، وابرز مثال على ذلك مستشفى الفتح المبين وطاقته 39 سريرا في منطقة هجليج، ويكاد يكون المستشفى الوحيد في السودان الذي يقدم خدماته مجانا من استقبال المرضى في العيادات الخارجية حتى اجراء العمليات، وكلفت خدماته العام الماضي مليار جنيه (حوالي 400 الف دولار)، كما قال الدكتور عبد الفتاح عبد الله. فقد تمت مقابلة اكثر من 95 الف مريض واجراء 900 عملية كبرى واكثر من اربعة آلاف عملية صغيرة.

الى جانب تأمين منطقة الانتاج، فان الحكومة بالاتفاق مع الشركات عملت على حماية منشآت الصناعة النفطية خاصة خط الانابيب الذي يمتد على مسافة 1610 كيلومترات، حيث دفن الخط عميقا تحت الارض، وهو يرتفع فقط قرب اي واحدة من محطات الضخ الست، ثم يعود الى باطن الارض مرة اخرى. ولهذا فان اول تخريب تعرض له الخط جاء قرب عطبرة، حيث توجد احدى المحطات ويرتفع خط الانابيب فوق سطح الارض.

(في الحلقة المقبلة غدا: ملامح الصناعة النفطية السودانية)