بريطانيا أمة تنعم بالرخاء.. وامبراطورية غابت الشمس عن تخومها

TT

تجمع استطلاعات الرأي البريطانية على ان الناخبين سيمنحون رئيس الوزراء البريطاني توني بلير وحزب العمال نصرا باغلبية كبيرة في الانتخابات العامة التي تجري اليوم. ولا يثير هذا التوقع الدهشة اذ ان بلير الذي يحظى بشعبية واسعة يقود امة تنعم بالرخاء والاستقرار.

فالمؤشرات الاقتصادية تعد الافضل خلال الاعوام الاربعين الماضية، اما آيرلندا الشمالية التي كانت تشتعل عنفا ودما في السابق حلت فيها صناديق الاقتراع محل الرصاص، وغدت شوارع العاصمة لندن تنعم بالامن بعد الخوف الذي كان يهيمن عليها جراء قنابل مقاتلي الجيش الجمهوري الايرلندي التي كانوا يزرعونها في سلال القمامة.

كما يفاخر البريطانيون اليوم بانتاجهم الثقافي والفني مثل فيلم «هاري بوتر» المرتقب وفيلم «بريدجيت جونز دايريز» وبرنامج المسابقات «ويكست لينك» التي حولت بريطانيا الى قوة ثقافية عالمية من جديد. غير ان هذا البلد الواثق من نفسه يعاني من تشوش كبير ازاء مكانته في العالم. اذ تستولي الحيرة على البريطانيين ازاء اي شطر من العالم ينبغي عليهم ان يولوا وجوههم، فهناك من يحث بريطانيا على ان تدير ظهرها الى الاتحاد الاوروبي وتنضم الى اتفاقية التجارة الحرة لدول اميركا الشمالية.

كما يتساءل البريطانيون عن «معنى ان تكون بريطانيا» كما يقول فيرنون بوجدانور استاذ العلوم السياسية في جامعة اوكسفورد، ويمضي موضحا: «هل سنظل نفس البلد ان اندمجنا مع الاتحاد الاوروبي، واستبدلنا بعملتنا عملة الاتحاد الموحدة؟ وهل سنقدر على استيعاب اعداد ضخمة من المهاجرين؟ وهل ما زال شعب بريطانيا يتضمن اسكوتلندا وآيرلندا الشمالية وويلز؟».

وكان زعيم المعارضة البريطانية وليم هيج قد حاول استغلال ازمة الهوية هذه في حملته الانتخابية بتحذيره من ان منهج توني بلير في الحكم سيحول بريطانيا الى «بلاد اجنبية».

وبفضل الاغلبية الكبيرة في البرلمان، نجح بلير في ايجاد نظام تشريعي في كل من اسكوتلندا وويلز وآيرلندا الشمالية. كما استطاع اقناع المواطنين بالميثاق الاوروبي لحقوق الانسان في القانون البريطاني، مانحا البريطانيين بذلك اول قانون مكتوب لحقوق الانسان. كما منح التخويل اللازم لتحديد معدلات الفائدة للبنك المركزي البريطاني. واقتلع مئات اللوردات وحملة الالقاب الموروثة من مجلس الاعيان، منهيا بذلك حق توارث المقاعد البرلمانية بتوارث الالقاب.

ويتباين الشعور «بانجاز المهمة» جراء التغييرات الدستورية المديدة التي قام بها بلير مع الاجماع العام على ان معاناة الحكومات المحافظة الاخيرة من الانقسامات حالت دون تمكنها من تحقيق اي شيء للبلاد. وفي الواقع، فان ضعف المعارضة كان من بين الميزات الاضخم لحملة بلير وحزب العمال.

فحزب المحافظين، حزب وينستون تشرشل ومارجريت ثاتشر، الذي حكم بريطانيا معظم القرن الماضي يعاني اليوم من زعيم لا يتمتع بالشعبية هو وليم هيج (40عاما) الذي لم يستطع التخلص من ظل ثاتشر. كما ان الحزب المنقسم على نفسه بين المعتدلين والفئات الاشد محافظة عجز عن كسب تأييد الناخبين خلال حملته الانتخابية. وفي انتخابات عام 1997لم ينجح الحزب الا في كسب 31 % من اصوات الناخبين، وتشير استطلاعات الرأي الى انه لا يزال يحوم حول هذه النسبة اليوم. وفي استطلاعات الرأي الاربعة الاخيرة ظل حزب العمال متقدما بحوالي 16 الى 23 نقطة على حزب المحافظين قبل يومين من اجراء الانتخابات.

وحاول هيج خلال الحملة الانتخابية طرح شعار «الحزب الذي سيخفض الضرائب في بريطانيا»، غير انه سرعان ما اكتشف ان تخفيض الضرائب يأتي في آخر اولويات الناخبين. اذ اوضحت الاستطلاعات ان عموم الناخبين يرغبون في تحسين مستوى البنية التحتية من مدارس ضعيفة الاداء وسكة حديد متصدعة ومستشفيات الحقبة الفيكتورية المهلهلة التابعة للخدمات الصحية العامة. وهذا ما دفع هيج الى التحول الى مرتع خصب آخر هو «القلق العام» ازاء مكانة بريطانيا في العالم.

فنصف سكان بريطانيا اليوم عاصروا بريطانيا وهي القوة الاستعمارية الاكبر في العالم. غير ان تلك الامبراطورية لم تعد موجودة الآن، وباتت تبحث لها عن دور عالمي يتناسب مع مكانتها كرابع اغنى دولة في العالم. وكان بلير قد وصف بريطانيا بانها بمثابة «جسر» بين الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي، غير ان هيج حذر من ان يدفع ذلك بريطانيا الى الميل كثيرا نحو اوروبا. اما الرمز الاساسي الذي يتكئ عليه هيج في موقفه المتشكك من اوروبا فيتمثل بمعارضته الشديدة لالغاء الجنيه الاسترليني واستخدام اليورو، الذي صدر في يناير (كانون الثاني) عام 1999، وسيجري تداوله في 12دولة اوروبية في الاول من يناير من العام المقبل. وشدد المحافظون على شعار «الحفاظ على العملة البريطانية»، الى حد ان كل يافطة ولوحة اعلانية انتخابية تابعة لهم تحمل شعار «انقذوا الجنيه الاسترليني».

اما بلير فانه تعمد الا يكون واضحا في موقفه تجاه اليورو خلال حملته الانتخابية. وهو يقول انه يدعم «من حيث المبدأ» فكرة تداوله في بريطانيا غير انه سيترك الحسم في هذه المسألة الى استفتاء شعبي قد يجري خلال العامين المقبلين.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»