بوتين غاضب من سياسة «الكيل بمكيالين» الأميركية تجاه العلاقات الروسية بكوريا وإيران

TT

كشفت التصريحات التي توالت اخيرا عن كبار ممثلي القيادات السياسية والعسكرية في موسكو، بشأن حقيقة توازن القوى مع الولايات المتحدة، عن ابعاد استراتيجية الكرملين، وموقفه من خطة الادارة الاميركية حول الخروج من معاهدة الحد من الانظمة المضادة للصواريخ الموقعة في عام 1972.

وكانت القيادات الروسية قد اعلنت اكثر من مرة ان روسيا ستجد الرد المناسب، اذا اقدمت واشنطن على تنفيذ مخططها، واعلن سيرجي ايفانوف وزير الدفاع ان لدى بلاده الحلول الجاهزة، والتي تغنيها عن شرور ومتاعب الانزلاق الى سباق التسلح. وكشف كبار العسكريين عن بعض من هذه الحلول.

ولم يأخذ الكثيرون ما قيل بهذا الصدد على محمل الجد حتى اعلن الرئيس فلاديمير بوتين عما يدور في اذهان خبرائه.. قال بوتين ان روسيا تحصل في حالة خروج واشنطن من معاهدة 1972 على حق تزويد صواريخها برؤوس نووية متعددة وعلى نحو يتسم بنبرة ساخرة، واضاف: «اذا كانوا يقولون ان المنظومة الوطنية المضادة للصواريخ ليست موجهة ضد روسيا، فانني اريد القول انه اذا اقدمنا على مثل هذا الرد فانه لن يكون موجها ضد الذين قاموا بصناعة هذه المنظومة الوطنية المضادة للصواريخ».

وذلك يعني ان لروسيا خطة تزويد صواريخها بثلاثة او اربعة او خمسة رؤوس نووية. وقال بوتين ان احدا لن يستطيع التصدي للصواريخ الروسية المتعددة الرؤوس خلال الاعوام الخمسين، وربما المائة المقبلة.

ولعل ذلك تحديدا ما يثير قلق الولايات المتحدة على نحو يعيد الى الاذهان ملحمة «حرب النجوم» والجدل الذي احتدم حولها بين الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل جورباتشوف ونظيره الاميركي رونالد ريجان.

ويقول الخبراء ان مقاومة هذه الصواريخ بالغة الصعوبة، ان لم تكن مستحيلة. فالدرع الاميركي وايا كانت قدراته لن يكون قادرا على حماية اراضي الولايات المتحدة من بقايا الرؤوس النووية التي تنفصل عن الصواريخ الحاملة، الا اذا تحولت الى منظومة شمولية لابد من نشرها بطول كل الحدود الروسية حتى يتسنى ضرب الصواريخ فور اطلاقها من قواعدها داخل اراض روسيا.

ويعيد المراقبون الى الاذهان توقيع معاهدة «ستارت 2»، في مطلع التسعينات عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي يقول الخبراء العسكريون انها تكفل حماية الولايات المتحدة من الصواريخ العابرة للقارات حيث اتفق الجانبان على الالتزام بعدم انتاج الصواريخ متعددة الرؤوس وتدمير القديم منها.

لكن موسكو كانت قد اصرت انذاك على تسجيل ان هذه الاتفاقية ـ المعاهدة جزء مكمل لمعاهدة 1972، وهو ما نص عليه القانون الروسي الذي صدق الدوما بموجبه عليها. وذلك ما يستند اليه بوتين لدى تأكيده ان موسكو ستعلن في حالة تنفيذ واشنطن لمخطط اقامة منظومتها الوطنية، حق تزويد صواريخ «توبول ـ M» طويلة برؤوس نووية متعددة.

واذا كان كولن باول وزير الخارجية الاميركي رغم ماضيه العسكري، كرئيس لهيئة الاركان، قد سارع بالرد على ذلك بقوله انه لا يعيره اهمية، فان ذلك يمكن ان يتسق مع ما يقال حول ضعف استعداده واعداده كعميد للدبلوماسية الاميركية، وإنْ كان هناك من يقول ان المصاعب المالية التي تواجهها روسيا لن تجعلها قادرة على المضي في مثل هذه «الخطط»، نظرا لضخامة التكاليف اللازمة لانتاج صواريخ «توبول ـ M» وصيانتها.

التكافؤ النووي وقد يكون ذلك صحيحا وهو ما اكده بوتين حين دعا، وعلى اساس التكافؤ مع الولايات المتحدة، الى تخفيض الترسانة النووية حتى 1500 رأس نووية بدلا من 3000 ـ 3500 رأس نووية حسبما تنص «ستارت 2»، لكن الصحيح ايضا ان تاريخ روسيا كان ولا يزال يؤكد ان حماية الدولة والدفاع عن مقدراتها وأمنها يظلان في مقدمة اهتماماتها، مما تجسد في صناعة «توبول ـ M» في الوقت الذي عاشت فيه روسيا اسوأ فتراتها الاقتصادية في اعقاب الانهيار، ويوم كان ابناؤها لا يتقاضون مرتباتهم الشهرية.

لكن هناك ايضا من الجانب الاخر من يقول ان ما تعلنه موسكو لن يكون كافيا لمواجهة ما تملكه الولايات المتحدة من صواريخ عابرة للقارات يبلغ عددها اليوم 739 صاروخا وفق معاهدة «ستارت 2» التي قد يسمح الخروج منها للولايات المتحدة بزيادة حجم قدرات قواتها البرية، ما لن تستطيع روسيا مواجهته، ولا سيما بعد تقليص عدد مصانع انتاج العبوات النووية من ستة مصانع الى مصنعين فقط. ولعل ذلك تحديدا، فضلا عما قيل بشأن احتمالات تحديث الصواريخ من طراز pcm 54 والعودة الى صواريخ «اس اس 18» والصواريخ البحرية، يعني الانزلاق الى جولة جديدة من سباق التسلح.

وعمد بوتين الى تفسير مبررات وأبعاد مثل هذه التوجهات لدى لقائه مع عدد من الصحافيين الاميركيين عقب ندوته من لوبيليانا بعد اجتماعه مع نظيره الاميركي جورج بوش. فقد فند في هذا اللقاء الكثير مما يتعلق بمخاوف الولايات المتحدة ومنها ما يندرج تحت بند «المزاعم» والادعاءات التي يمس بعضها الدولة الروسية بشكل مباشر.

قال بوتين: «فلنفترض اننا نعلم ما يقال حول الخطر من جانب ما يسمونها «بالدولة المنبوذة».. هل تعلمون ماذا يوجد من تسليح لدى ما يسمى «بالمنبوذة»... وهذه ليست مصطلحاتنا انها مصطلحات اميركية بالدرجة الاولى. واذا كان هناك من لا يعرف اقول انها الصواريخ السوفياتية سكود. وماذا تكون الصواريخ سكود؟ انها نفس الصواريخ الالمانية «فاو ـ 1» و«فاو 20» التي جرى تحديثها، اي تلك الصواريخ التي استخدمتها المانيا ابان سنوات الحرب العالمية الثانية، والتي اصابت بها لندن. وبالمناسبة فان كوريا الشمالية مضت في مجال تحديثها الى ما هو ابعد من الاخرين. لكن هناك حدا يمكن تجاوزه في مجال التحديث وهو ما تحقق بالفعل (اي لا يمكن تحديثها الى ما هو ابعد من ذلك».

واستطرد الرئيس الروسي في حديثه ليؤكد ان نفقات سباق التسلح تتطلب 50 ـ 60 مليار دولار لان الامر يتعلق ببناء منظومة حديثة للدفاع الصاروخي تصبح في حاجة الى نوعية مغايرة بما في ذلك الوقود الجديد، وميادين تجارب الصواريخ باهظة التكاليف، مما يعني عمليا الحاجة الى اقتصاد مغاير وقاعدة علمية وتقنية متميزة.

وكشف عن جهود الولايات المتحدة التي تقترب في بعضها من اعتبار روسيا «ولاية منبوذة» ايضا مشيرا الى ظهور محطة التجسس الاميركية الجديدة «جلوبوس 2». اضافة الى «جلوبوس 1» في النرويج، على مقربة مباشرة من الحدود الروسية لرصد التجارب الصاروخية ومسارات تحليق الصواريخ الروسية.

وفي الوقت الذي تواصل فيه واشنطن محاولاتها للحد من علاقات روسيا مع عدد من الدول التي تضعها في عداد «المنبوذة» مثل كوريا الشمالية وايران كشفت المصادر الروسية العديد من مشروعات التعاون في هذه البلدان من جانب الولايات المتحدة. واشار بوتين صراحة الى تعاون الكثير من الدول الغربية مع كل من ايران وكوريا الشمالية وقال: «ليس سرا ان الدول الاوروبية تطور بنشاط علاقاتها مع ايران، وقدمت المانيا الى ايران قرضا قيمته مليارا مارك، وتجري اوساط رجال الاعمال من الولايات المتحدة اتصالاتها مع الشخصيات الشرعية في ايران. واذا كان ذلك سرا بالنسبة للبعض فليس بالنسبة لنا فنحن نعلم من واين ومتى يلتقون. وقد اشرت الى الاسماء في حديثي مع الرئيس بوش».

واضاف بخصوص بناء الولايات المتحدة محطة نووية كهربائية في كوريا الشمالية بالقول: «ان روسيا تقيم مثل نفس المحطة في ايران، وذلك ليس مرتبطا باحتمالات انتاج الاسلحة النووية». فلماذا اذن تعتبر واشنطن كوريا الشمالية من الدول المنبوذة التي تشكل خطرا لها؟

وكشف ايضا عن علاقات واشنطن مع ايران التي تبعث باخصائييها للتدريب في الولايات المتحدة حسب القوانين الاميركية التي تسمح عمليا بتغيير البرامح الدراسية المعلن عنها لدى بدء التدريب.

ولعل ما قاله بوتين بشأن سياسات واشنطن غير خاف على أحد من منظور ادراك الجميع لطابعها المزدوج وتمسكها بنهج «الكيل بمكيالين» وهو امر يلقي بظلاله الكئيبه على توازن القوى واستراتيجية العلاقة بين واشنطن وبقية اعضاء المجتمع الدولي ممن يقفون على طرفي نقيض مع نظام العالم احادي القطب، ومحاولات الالتفاف حول الشرعية الدولية والامم المتحدة.