التصوير ممنوع في أفغانستان حتى لحديقة حيوانات كابل

لماذا تحمل «جواز سفر الكفار»؟ أول سؤال واجهني عند الحدود الأفغانية

TT

مقبرة خاصة للأفغان العرب في طورخم الحدودية * مترجم من الخارجية لكل صحافي مقابل 30 دولارا يوميا على طريق الموت بين بيشاور وكابل (1) كابل: محمد الشافعي طلب حيدر خان سائق السيارة التي اقلتني من بيشاور الى كابل من الراكبين ان يردوا وراءه دعاء السفر ثلاث مرات «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وانا الى ربنا لمنقلبون» وذلك قبل ان تنطلق في طريق صخري وعر طوله نحو 550 كيلومتراً، غير معبد محفوف بالمخاطر من كل جانب، وسط الجبال العالية على الجانبين ونهر بانشير بطبيعته الهادرة الذي يضفى نوعا من الحياة على المكان. انه نفس الطريق الذي سلكه عشرات الآلاف من المجاهدين العرب للمشاركة مع اخوانهم الافغان لاخراج الاتحاد السوفياتي السابق من البلاد.

طلبت من السائق ان يتوقف بعد معبر طرخم الحدودي. قال لى «يرقد تحت الثرى في مقبرة الافغان العرب مصريون وسوريون وخليجيون جمعتهم كلمة واحدة».

وطلبت من السائق التوقف لأخذ بعض الصور الفوتوغرافية، قال لي بعربية ركيكة «احترس من العمامة السوداء»، لم افهم، قال لي: جماعة طالبان، فاذا القوا القبض عليك فأول اجراء سيفعلونه هو تحطيم كاميرتك، هذه مسائل حساسة لا تحتاج الى جدل. واضاف انهم جاءوا «لاعلاء كلمة الشريعة الاسلامية»، بعد 4 سنوات من التدمير والخراب والتحالفات بين الاحزاب الافغانية بين حكمتيار ومسعود ودوستم، استخدمت فيها تلك الاحزاب القصف المدفعي والصاروخي للمدن الافغانية. واضاف: يعد دخول طالبان كابل العاصمة في 26 سبتمبر (ايلول) 1996، تاريخاً محفوراً في القلوب، لانه يعلن عصراً جديداً من الامن والاستقرار في البلاد.

واوضح السائق لي حتى حديقة حيوانات كابل «وحشي باغ كابول» فانك لا تستطيع ان تصور الحيوانات التي تتضور جوعا فيها، قلت له بدهشة حتى الحيوانات قال لي نعم لانها من ذوات الروح، حسب مفهوم طالبان. على طول جانبي الطريق ما بين بيشاور وجلال اباد وسورابي، كانت خيام الشعر تتناثر وتعبر دون رتوش عن مأساة الشعب الافغاني الذي يتضرر من الفقر والجوع دون مساعدات حقيقية من منظمات الاغاثة الانسانية باستثناء خدمات قليلة يقدمها الصليب الاحمر وجمعية احياء التراث الكويتية، وجمعية سعودية، وتلك المساعدات لا تفي بحاجات الافغان في حياة حرة كريمة، بعيدا عن مذلة السؤال التي تلحظها في عيون الصبية والبنات الذين يتسولون امام المطاعم في جلال اباد وكابل.

سارت السيارة في طرق متعرجة صخرية، وكان من المستحيل ان افهم عمق المشهد الانساني، دون المرور على معسكرات المهاجرين، وان تشاهد كيف يعيش الانسان، في صورة بائسة، وفقر شديد. لا يمكن ان تعرف البعد الحقيقي لهذا المشهد، دون ان تمزجه، وتضعه من خلال مناظر الاطفال الصغار خارج خيام الشعر، وان تتأمل ملابسهم المهترئة، وصنادلهم الممزقة.

على الطريق والمطبات الصعبة كان رأسي يرتطم بسقف السيارة، وتنطلق كلمة آه من داخل صدري بعفوية شديدة، اشتعال احاسيس ومشاعر يبدو انها تكون قد ماتت، مع الخوف من الموت وحب الحياة، وتذكر الماضي. يشعر الانسان في تلك المواقف بقيمة العمر، قيمة كل يوم عاشه، تصبح الايام الصعبة والمريرة، اياماً حلوة، نوعاً من التسامح مع النفس ومع الدنيا، قبل الدخول الى الخطر ومواجهة الموت في كل لحظة، وكل خطوة على طريق الموت بين بيشاور وكابل.

في داخل السيارة كان هناك احد الافغان العرب تحدث لي بلهجة خليجية، قال لي بعد الحاح ان اسمه ابو محمد وهو من انصار طالبان، ودلل على ما يعتبره العدل والامان الذي تنعم به افغانستان منذ وصول طالبان الى الحكم بقوله اختفاء الهجمات التي كانت تشن على محلات الصرافة في دافغانة وسط كابل او شهرنو المدينة التجارية، اما المشاجرات التي تنشأ بين الناس بصفة عشوائية فان الاطراف تتدخل لحلها قبل وصول جماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن تدخلهم يعني اقامة الحد والقصاص الشرعي.

وقال ان من حسنات طالبان القضاء على الانحرافات التي تورط فيها انصار شاه مسعود ورباني وقلب الدين حكمتيار وعبد رب الرسول سياف وغيرهم من المجاهدين والقادة الميدانيين الذين ملأوا سمع وبصر العالم بجرائم اغتصاب النساء والاطفال وقطع الطرق، ولكني اسأله هل سيطعم الشعب امنا واستقرارا، وهو الشيء الذي رأيته من حالة فقر غير عادية في شوارع جلال اباد قبل الوصول الى كابل فالمنازل والمصانع مهدمة. وقبل الدخول الى معبر طورخم الحدودي وهو نقطة العبور الى الاراضي الافغانية، كان عليّ الاستيقاظ في السادسة صباحا للذهاب الى «خيبر هوس» المقر الرئيسي للشرطة الباكستانية في بيشاور لاصطحاب شرطي من قبل بيشاور، ومعه اوراق مرور لتسهيل مأموريتي، واكد السفير الافغاني في بيشاور نجيب الله ضرورة الالتزام بتلك التعليمات لضمان امني وسلامتي حتى الوصول الى الحدود الافغانية، لأنني سأمر في منطقة القبائل وطولها نحو 30 كيلومتر، وهي منطقة لا تخضع للنفوذ الفعلي لباكستان.

وكان من حظي ان يكون معي الشرطي الباكستاني عبد الله مالك في رحلة الـ25 كيلومتراً حتى الحدود الافغانية، وهي عملية ستتكرر في طريق العودة، وعبد الله مالك بعرف العربية الركيكة فقد عمل كهربائيا في خميس مشيط بالسعودية قبل عودته النهائية الى بلاده منذ خمس سنوات، ووصف له عبد الله مالك اسباب وجوده معي في رحلة الذهاب الى بيشاور، فقال لي: على جانبي الطريق في منطقة القبائل يوجد تجار السلاح والمخدرات، وهي مافيا قوية لا سلطان عليها، وهناك مخاوف دائمة من وجود اجانب في هذا الشريط، الذي يزدحم بالمهاجرين الافغان في منطقة كاشجراي التي يوجد فيها نحو 200 الف من المهاجرين الافغان. وتحدث عن المخاوف الحقيقية من احتطاف الاجانب في تلك المناطق، وكنت في حالة مزاجية طيبة، وما ان بدأ يتحدث عن احتطاف الاجانب حتى وقع الرعب في قلبي، وبدأت اتساءل مع نفسي من سيتقدم للافراج او السؤال عني، لكنه سرعان ما طمأنني عن وجود تفاهم متبادل مع زعماء القبائل، على استتباب الامن والاستقرار، واشار على مجموعة من المتاجر قال انها تبيع المخدرات على جانبي الطريق دون تدخل من الشرطة. واخذ الشرطي مالك يشرح لى على الطريق الحصون العسكرية التي نمر بها مرورا بممر خيبر الذي يعتبر البوابة التى مر منها الطامعون في اراضي باكستان وشبه القارة الهندية، واما منطقة حصن «علي ماجد» فتوجد لوحة تذكارية، عليها اسماء الغزاة والفاتحين الذين مروا من هذا المكان اليونانيين 327 عاما قبل الميلاد، والمغول من 1526 الى عام 1736 مرورا بجنكيز خان وتيمورلنك، ثم الاستعمار الانجليزي من عام 1826 الى عام 1947، حتى حصلت باكستان على استقلالها في نفس العام.

وقبل السفر بيوم واحد الى بيشاور التقيت عبد الله الشامي وهو شاب في الخامسة والعشرين، خبير في الكومبيوتر، خصصه لى ابو مصعب وهو احد قادة الافغان العرب في بيشاور، لمساعدتي على تجهيز اموري للسفر الى البلاد البعيدة، افغانستان كما احب ان اطلق عليها. وعبد الله الشامي يجيد العربية والبشتو والاردو فهو يعيش في بيشاور منذ 15 عاما، ويحلم عبد الله بالهجرة الى احدى الدول الاوروبية. لماذا تحمل جواز الكفار؟! وكثيرا ما دخل عبد الله الشامي الى كابل وقندهار مثل باقي المجاهدين العرب بدون هويات او وثائق سفر، وهو ما لاحظته عند معبر طورخم الحدودي، عشرات ممن يلبسون اللباس الافغاني يدخلون ويخرجون بدون النظر الى هوياتهم، يكفي اجادتهم للبشتو او الفارسية. سألت عن مقر الجوازات الافغانية لختم جواز سفري بختم الدخول الى «امارة افغانستان الاسلامية»، فأشار عليّ من حمل حقائبي الى كوخ طيني، ودخلت ووجدت احد طلبة العلم يجلس على جانبه الايمن، وقال لي: انت عربي، فأجبت بنعم فقال لي اي جواز هذا الذي تحمله قلت له جواز بريطانيا، قال لي بالعربية تحمل جواز الكفار، اصابني بالصدمة قلت له: قدر الله وما شاء فعل، المرة القادمة سأحضر بجوازي المصري، قال لي: تكون فعلت خيرا ان شاء الله، يكفيك التشبه بملابسهم، وابتسمت وختم جوازي بختم الدخول، وبدأت في عملية البحث عن سيارة اجرة تقلني الى كابل، وكنت بالنسبة للسائقين اشبه بصيد ثمين.

وفي الفندق الذي اقمت فيه، ولا يربطه بعالم الانتركونتننتال سوى الاسم فقط، وأسعاره الغالية بالدولار لا تتناسب مع مظاهر الفقر في الشوارع المحيطة به، وهو من الشروط التى وضعتها الخارجية الافغانية بالنسبة للمراسلين والصحافيين القادمين الى كابل، وهي ضرورة الاقامة في الانتركونتننتال، واصطحاب مرافق وهو مترجم من الخارجية، تدفع له اجره اليومي بالدولار ايضا، وكذلك استئجار سيارة من الفندق تأخذ الصحافي او المراسل الى خراب ودمار العاصمة الافغانية، ولكن المجحف حقا هو شعور الصحافي ان هذا المرافق، ما هو الا رقيب مسلط فوق رقبة الصحافي، فممنوع تصوير الناس في الشوارع، وممنوع التحدث اليهم او الاقتراب منهم كانهم مواقع عسكرية سرية، وبين كل جملة واخرى يؤكد المترجم ان جماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يراقبوننا ويسيرون وراءنا في سيارة ذات زجاج مظلل، انها نوع من الحرب النفسية لأفهم اسبابها، لوضع الصحافي تحت ضغوط معينة، طوال زيارته الى افغانستان. اما الفندق فحدث ولاحرج، فرغم انه بني منذ 32 عاما، لكن كما يشرح مديره المسن شفيع الله رحمات ان الفندق تعرض لحرب طوال عشرين عاما من الفئات المتصارعة على الحكم، واستخدم الطابق تحت الارضي الرئيس السابق رباني للحماية من القصف المدفعي، ويعاني الفندق من مشاكل شتى في الاتصالات.

عين الرقيب في كابل ومن الغريب حقا ان تجد العاملين في الخارجية الافغانية يطلبون من الصحافيين العرب ان يكونوا متعاطفين مع قضية الشعب الافغاني، ولكن تسأل عن التسهيلات الممنوحة للصحافيين للكتابة بحيدة عما تراه في الشوارع من مظاهر بؤس وخراب، لا شيء على الاطلاق سوى المترجم او الرقيب غير المرغوب فيه الذي تدفع له يوميا 30 دولاراً، وكان من نصيبي ان يصحبني في شوارع كابل عيسى خان، وهو مترجم افغاني يجيد الانجليزية بطلاقة، وخريج جامعة بيشاور الباكستانية، لكن عقله متشدد في امور التصوير، اكثر من جماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان من المثير واللافت للانتباه ان التقي في ردهة الفندق شابين خليجيين يرتديان الملابس الافغانية، طلب شفيع الله رحمات مدير الفندق مساعدتي في الترجمة من العربية الانجليزية، فقد كانا يريدان نصب هوائي هاتف مرتبط بالاقمار الصناعية، على السطح المجاور لغرفتهما وفي اليوم التالي التقيت في ردهة الفندق، ابو فارس الليبي وهو رجل طيب يمتلئ بالحماسة والايمان ذو لحية تفوق لحى جماعة طالبان وعمامته سوداء. بعد ان تقدمت بالحديث اليه استنكر بشدة ملابسي الافرنجية، وقال انها ملابس الكفار، واعطاني درسا في ضرورة الالتزام بالدين، وقص عليّ قصته مع الجهاد الافغاني، منذ السفر الى السودان، حتى مشاركته في المعارك، ضد القوات السوفياتية، وحاليا ضد قوات احمد شاه مسعود، وقال لي ابو فارس انه قبل دخوله الاسلام والالتزام كان يشرب الخمر، ولكن الله عفا عنه، وعلمت من زميله ابن الجراح وهو شاب خليجي في الخامسة والعشرين من العمر، كان يجلس معنا أن احد الشبان اسمه عبد الله البلوشي قتل منذ 24 ساعة في الساعة السابعة على الجبهة الشمالية.