عقبات تواجه العدالة البلجيكية الساعية لمعاقبة مجرمي الحرب والإبادة

TT

ربما كانت اهم مظاهر النظام القضائي البلجيكي الجديرة بالملاحظة هي ضعف ايمان البلجيكيين به خلال الاعوام الماضية. اما السلطات البلجيكية فانها، وعلى نحو متكرر، لم تصب جهدا كبيرا في الكشف عن قضايا حساسة مثل جريمة قتل نائب رئيس الوزراء التي لم يعرف من ارتكبها في عام 1991، وقضايا الارتشاء او نشاطات من ادين باغتصاب 4 اطفال واستطاع الخروج بعد مدة من سجنه تحت الرقابة. وقادت هذه الفضحية في عام 1996الى احتجاجات واسعة بلورت نظرة عامة البلجيكيين الى نظامهم القضائي التي تتصف باللامبالاة وعدم الكفاءة.

لهذا السبب فان ارتداء النظام القضائي البلجيكي ثوب الابداع، بمقاضاة المتهمين بارتكاب جرائم حرب في ارجاء العالم داخل محاكمه، يبدو امرا يدعو الى الدهشة. فبموجب قانون صدر في عام 1993 اصبح بمقدور المحاكم البلجيكية النظر في جرائم الابادة البشرية او الجرائم ضد الانسانية بغض النظر عن اماكن وقوعها.

ويمثل ذلك جانبا من الاتجاه المتزايد للمحاكم المحلية بالانخراط في ما يوصف بـ«النظام القضائي العالمي». وحتى اليوم قادت اوروبا زخم التحرك باتجاه استخدام القوانين المحلية في تشجيع تطبيق اتفاق جنيف لعام 1949، الذي يحدد اعمال الحرب ومعاملة اللاجئين، في المقابل ليس هناك من قوانين اميركية تسمح بمثل هذا الامر.

وبادرت بريطانيا في عام 1998 الى احتجاز الرئيس التشيلي السابق اوجستو بينوشيه بموجب طلب اصدره قاض اسباني ينظر في انتهاكات لحقوق الانسان، واطلق سراح بينوشيه البالغ 85 عاما لاسباب صحية، وعاد الى تشيلي. وفي 2 يوليو (تموز) الحالي احتجز الفريدو استيز، الذي قيل بأنه كان يقود فرقة ارتكبت اعمال قتل خلال «الحرب القذرة» التي جرت في الارجنتين من عام 1976 وحتى عام 1983، في مطار بيونس آيريس وفقا لطلب من محكمة ايطالية تحقق في حوادث اختطاف. وفي مطلع الشهر الماضي غادر وزير الخارجية الاميركية السابق هنري كيسنجر باريس بعد سعي قاض فرنسي الى استجوابه حول اختفاء 5 من المواطنين الفرنسيين خلال الانقلاب العسكري المدعوم اميركيا في تشيلي عام .1973 وفي هذا السياق علق السناتور البلجيكي فنسنت فان كيكنبورن قائلا «ان النظام القضائي يمر بمرحلة تحول بعبورنا الى عصر العدالة المعولمة». ربما يكون هذا صحيحا، ولكن الصداع الدبلوماسي الذي تعاني منه بلجيكا جراء الانخراط في «العدالة المعولمة» يدفعها الى اعادة النظر في ذلك. اذ شاب التوتر علاقاتها مع اسرائيل، مثلا، بعد التأكيدات الاخيرة على تحقيق احد القضاة البلجيكيين المحليين في دور رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون في مذابح المخيمات الفلسطينية في لبنان عام .1982 وكانت الميليشيات المسيحية المتحالفة مع اسرائيل هي التي ارتكبت اعمال القتل عندما كان شارون وزيرا للدفاع. ويرى رولف فالتر محرر مجلة «دا ستاندرد» الصادرة في بروكسل، ان «هذا القانون طموح للغاية واهدافه سامية... ولكن من الواضح ان احدا لم يتنبأ بعواقبه». وهناك مزيد من المتاعب بالانتظار، فالسلطات البلجيكية تجري تحقيقات في نحو عشر من القضايا المرفوعة ضد عدد من الزعماء السابقين والحاليين مثل الرئيس العراقي صدام حسين والدكتاتور التشادي السابق حسين حبري والرئيس الايراني السابق هاشمي رفسنجاني ومسؤولين في نظام الخمير الحمر الكمبودي وجنرالات غواتيماليين ووزير الداخلية المغربي السابق ادريس البصري. وفي اول ادانة صادرة وفق القانون البلجيكي المذكور، اصدرت هيئة المحلفين البلجيكيين حكمها في الشهر الماضي على 4 اشخاص، بينهم راهبتان كاثوليكيتان، لدورهم في اعمال العنف الاثنية التي جرت في رواندا في عام .1994 ويسمح القانون البلجيكي لكل من تعرض للاذى، او اقربائهم، برفع قضايا ضد من اعتدى عليهم امام العدالة البلجيكية. وينظر في التهم المرفوعة قاض قبل اصدار قرار بفتح تحقيق رسمي حولها. ويقول المحامون المتخصصون بحقوق الانسان ان ما تصدره المحاكم البلجيكية من احكام يعتبر مكملا لجهود المحكمة الجنائية الدولية ومحاكمات الامم المتحدة لمواجهة المذابح الجماعية التي ارتكبت في يوغوسلافيا السابقة ورواندا. غير ان بعض المنتقدين يقولون ان التحقيق في جرائم الحروب ينبغي النظر اليه على انه جانب من برنامج الاصلاحات السياسية والقضائية للحكومة التي ترمي الى تحويل بلجيكا الى «دولة نموذجية». يقول الكاتب ديرك جان بهذا الصدد «اعتقدت الحكومة الجديدة ان هذا القانون سيضع بلجيكا على الخارطة»، ويتابع القول «ولكن كثيرين اعتبروه... بمثابة مهرب من المشاكل المحلية بالهجوم على السياسيين في ارجاء العالم».

وتشتمل القوانين المعمول بها في 125 دولة من دول العالم على قوانين ذات صبغة عالمية، حسب كرستوفر هال من منظمة العفو الدولية. غير ان الامر الجدير بالملاحظة في حالة القوانين البلجيكية، يتلخص في نقطتين هما انه يسمح بعقد محاكمات جنائية لاشخاص غير بلجيكيين، وانه لا يوفر اي حصانة للزعماء الاجانب.

وغياب تلك الحصانة هو ما دفع الى توتير العلاقات البلجيكية ـ الاسرائيلية، وما حمل المنتقدين على القول بأن هذا البلد الصغير ربما انتهى به الحال الى العزلة. ويقول فالتر ان «من المتوقع قدوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى هنا في اكتوبر (تشرين الاول) المقبل»، ويتابع «ان كل ما نحتاجه ان يرفع شيشاني قضية ضده في محكمة بلجيكية فيتوقف الرئيس عن زيارته الى هنا».

وفي ظل ما اعترى وزير الخارجية البلجيكي لويس مايكل من حرج اثر تعكر العلاقات مع اسرائيل، يتوقع من لجنة حكومية اصدار توصياتها مع نهاية هذا الشهر بتعديل القانون المذكور لايقاف اي تحقيقات مستقبلية مع رؤساء دول حاليين قبل البدء في الاجراءات القانونية المطلوبة.

ان بلجيكا بلد صغير يعجز عن تحمل نفقات التحقيق في جرائم ارتكبت في بلدان اخرى، فلا يوجد في وحدة الجرائم ضد الانسانية سوى 3 من افراد الشرطة المكلفين بالتحقيق في القضايا المرفوعة الى هذه الوحدة. ويعلق السناتور الين دستكس قائلا «لا ينبغي ان يتوقع اي شخص من بلجيكا ان تصبح المكان الذي تعقد فيه محاكمات لست من جرائم الحروب في كل عام».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»