آخر أسير لبناني في إيران لجأ إلى بغداد 1982 وشارك مع القوات العراقية في حرب الخليج

«الشرق الأوسط» تروي قصة حسين قيس البعثي الهارب من لبنان مع 63 من رفاقه

TT

لم تكن صابرة قيس ذات العشرين ربيعاً لتعلم ان زوجها حسين قيس الذي غادرها في الاول من مارس (اذار) 1982 للراحة في بغداد سيصبح اسيراً في ايران وانها ستمضي 20 سنة دون ان يرى ابنته نسرين التي كانت حاملاً بها في ذلك الوقت، وابنه علي الذي اصبح شاباً بعد ان كان رضيعاً يوم غادر والده ولم يعد. الا ان الامل بعودة حسين ـ الذي كان معدوماً طوال السنوات الماضية ـ بات احتمالاً وارداً اليوم بعد اهتمام رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري بالامر وتلقيه وعداً من الرئيس الايراني محمد خاتمي بالافراج عنه في وقت قريب.

وهذه هي قصته من بداياتها:

كان حسين قيس ابن بلدة نحلة (قضاء بعلبك) في الثلاثين من عمره حين شد الرحال مع ثلاثة وستين من رفاقه المنتمين لحزب البعث العربي الاشتراكي الموالي للعراق باتجاه بغداد هرباً من ملاحقة الحركات والمنظمات المتحالفة مع سورية لهم، حيث شهدت تلك الفترة، مع احتدام الحرب اللبنانية، صراعاً دامياً بين جناحي البعث، العراقي والسوري، كانت الغلبة فيه للجناح الثاني الذي الغى الجناح الاول بعد مطاردة اعضائه وتصفية بعضهم واسر عدد كبير منهم.

ويعتبر حسين قيس احد قياديي الجناح «المغضوب عليه» -آنذاك- في منطقة البقاع. وقد سبق ان اعتقل على يد عناصر من احدى الحركات المدعومة من دمشق وأخضع للتعذيب ونزعت اظافره. لذلك آثر الفرار من لبنان، كما فعل عدد من رفاقه في مناطق اخرى. وقد ابلغ زوجته بالامر، آملاً بالا تطول غيبته اكثر من شهر ريثما تهدأ الاجواء.

وتروي الزوجة التي فارقها زوجها ولم يمض على زواجها منه سوى سنة وعشرة اشهر، انها تفهمت موقف زوجها وشجعته على ذلك حفاظاً على حياته. الا انها صدمت بعد ايام حين علمت انه اسر مع ثلاثة وستين لبنانياً آخرين من بينهم شقيقها احمد، على يد «الحرس الثوري» الايراني خلال قتالهم الى جانب القوات العراقية في منطقة ديزفول الايرانية اثناء حرب الخليج .

وتقول صابرة ـ واسمها خير معبر على وضعها ـ : «شاهدت صورة زوجي اسيراً مع رفاقه في احد المنشورات التي تصدرها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين التابعة للعراق. وقد نُصحت يومها بألا اراجع في الموضوع حتى لا يصيبني سوء. وقد بقيت على هذه الحال لسنوات، انصرفت خلالها لاعالة طفلي علي الذي كان رضيعاً في شهره الحادي عشر، ومولودتي نسرين التي انجبتها بعد اربعة شهور على رحيل والدها. كان زوجي تاجراً بسيطاً يعتاش من بيع الخضار والفاكهة. وحين بت وحيدة نزلت بنفسي الى الحقل وعملت في القطاف. ثم ابتعت حاوية ورحت ابيع فيها بعض المواد الغذائية وغيرها. وقد تمكنت، بفضل ذلك وبمساعدة الاهل، من تعليم ولدي علي الذي نال شهادة في الفندقية واتمت نسرين المرحلة الثانوية من دراساتها. ولا بد ان انوه في هذا المجال بالدعم والعون اللذين تلقيتهما من «حزب الله» وكذلك بالمساعدة الكريمة التي مدها لنا مدير مدرسة (ماذر سكول) في صيدا بجنوب لبنان السيد جورج صيقلي».

وتعرض «ام علي» المراحل التي قطعتها للتوسط من اجل اطلاق سراح زوجها فتقول انه كان عليها ان تتأكد اولاً من بقائه على قيد الحياة بعد ان انقطعت اخباره لسنوات «وحصل، مع بداية التسعينات، ان وفق الشيخ سعيد شعبان، رئيس «حركة التوحيد الاسلامية» في طرابلس بشمال لبنان، في الافراج عن خمسة من افراد المجموعة اللبنانية المأسورة في ايران، فقصدته طلباً للمساعدة. وكان جوابه أنه اخذ حصته بهذا الخصوص. ونصحني باللجوء الى قياديين ومسؤولين في منطقتي». وتشير صابرة في هذا الصدد الى ان النائب وليد جنبلاط تمكن هو ايضاً من تأمين اطلاق عدد من الاسرى من ابناء منطقته.

وتتابع صابرة قيس سرد ما قامت به من جهود وتحركات لاستعادة زوجها فتقول: «عملاً بنصيحة الشيخ الراحل سعيد شعبان التقيت رئيس «حزب الله» آنذاك الشيخ عباس الموسوي الذي وعدني الاهتمام بالامر والبحث في قضية زوجي خلال زيارته المقبلة الى طهران. وقد حصلت الزيارة بالفعل في العام 1992، لكنني لم اتمكن من معرفة ما سمعه من المسؤولين الايرانيين في ما يخص زوجي، بعد عودته الى لبنان اذ ان يد الغدر الاسرائيلية اغتالته على طريق جبشيت في جنوب لبنان بقصف سيارته بواسطة الطائرات الحربية . وبعد حادث الاغتيال بادرت طهران الى اطلاق سراح من تبقى لديها من الاسرى اللبنانيين باستثناء اثنين، زوجي واسير آخر يدعى عمر شبلي.وكان في عداد الذين اطلق سراحهم شقيقي احمد قيس الذي كان اول من اكد لنا وجود «ابو علي» بصحة جيدة قبل نقله الى سجن آخر في العام 1987».

ويكشف الاسير العائد من طهران احمد قيس وقائع الاسر لـ «الشرق الاوسط» فيقول انه لدى وصوله وصهره حسين الى بغداد في الاول من مارس (اذار) 1982 وضعا في معسكر للتدريب حيث امضيا فيه حوالي الاسبوعين قبل ان ينقلا الى الجبهة العراقية ـ الايرانية لمقاتلة الايرانيين في منطقة ديزفول ـ عين خوش الايرانية التي احتلتها القوات العراقية في بداية الحرب قبل ان يستردها الجيش الايراني في عملية عسكرية واسعة جرى خلالها اسر عدد كبير من افراد الجيش العراقي، كما اسر اللبنانيون الاربعة والستون .

واشار احمد قيس هنا الى ان جميع الاسرى باتوا ليلتهم في الخطوط الخلفية قبل ان ينقلوا صبيحة اليوم التالي الى الاهواز ومنها الى طهران حيث اودعوا سجن الداودية شمال المدينة. الا ان وشاية بحق صهره حملت السلطات الايرانية على نقله الى سجن آخر تردد انه في مدينة مشهد.

وتعود صابرة قيس الى تفاصيل قصتها المأساوية فتقول: «بعد ان كبر ولداي كان لا بد لي من الانتقال الى بيروت لمتابعة تحصيلهما العلمي. وقد اقمت بادئ الامر داخل مرآب في منطقة حي السلم في الضاحية الجنوبية بعد ان حولته الى سكن ومتجر لبيع بعض المواد الغذائية والعاب الاطفال. ثم ما لبثت ان عثرت على بيت للايجار بالقرب من المرآب فانتقلت اليه ولم يكن مضى على وجودي فيه سوى اشهر قليلة».

وتعدد «ام علي»، على مسمع من ولديها علي ونسرين، اسماء الذين اتصلت بهم طلباً للمساعدة في الافراج عن زوجها فتقول: «قصدت الشيخ محمد يزبك عضو مجلس الشورى في «حزب الله» الذي عرَّفني بدوره الى سفير ايران السابق لدى لبنان همايون علي زادة الذي وجدت لديه كل اهتمام. والتقيت النائبين في الحزب عمار الموسوي وابراهيم بيان، وكذلك ابراهيم امين السيد الذي كان رئيس كتلة نواب «حزب الله» في البرلمان اللبناني حتى العام 2000. وقد وعدني الاخير، اثناء خوضه الانتخابات النيابية في العام 1996، بأن يبذل قصارى جهده في هذه المسألة، الا انه عدل عن ذلك بعد انتهاء الانتخابات. ومع ذلك لم أيأس فواصلت تحركي واجتمعت بالنائب محمود ابو حمدان الذي كان مسؤولاً عن حركة «أمل» في البقاع. كما تسنى لي ان ازور وزير الخارجية آنذاك فارس بويز الذي لقيت منه كل تفهم واستعداد طيب للمساعدة. وقد اوعز الى مسؤولين في وزارة الخارجية بأن يعدوا تقريراً عن الموضوع بعد الاستماع الي والى اقوال واحد من الاسرى الذين جرى الافراج عنهم بعد اغتيال الشيخ عباس الموسوي. وقد صارحني مسؤول في وزارة الخارجية بصعوبة القضية، الا انه اكد اهتمام الوزارة بالمسألة واتجاهها لاجراء كل ما يلزم بهذا الشأن».

وتلفت الزوجة الصابرة الى ان معظم الذين اتصلت بهم او التقتهم اشاروا عليها بضرورة طلب المساعدة من امين عام «حزب الله» الشيخ حسن نصر الله، مؤكدين لها أن المسؤولين الايرانيين لا يمكن ان يرفضوا طلباً لنصر الله، فسعت للقائه ووفقت في الاجتماع مرتين بوالد الشيخ حسن نصر الله وبشقيقته، فأوعز اليها الاول بشرح قضيتها في كتاب يرفعه الى نجله ففعلت.واضافت « وفيما ابلغني والد الشيخ حسن نصر الله باعتذار ابنه عن عدم تمكنه من مقابلتي لاسباب امنية، اكد لي اهتمامه بالقضية واعطاءه توجيهات لمسؤول مكتب «حزب الله » في طهران عبد الله صفي الدين لمتابعة المسألة.

وحصل في تلك الفترة من العام 1998 ان تلقت رسالة من رومانيا موقعة من مواطن عراقي كان سجيناً في ايران اكد لها فيها معرفته بزوجها الذي كلفه بمراسلتها وابلاغها انه يتطلع الى اليوم الذي يتم الافراج عنه ويعود الى بيته واهله . وتتابع الزوجة الملهوفة لرؤية زوجها قائلة: «مع مجيء الرئيس اميل لحود الى الحكم في العام 1998 والحديث عن صندوق للشكوى في قصر بعبدا سارع ابني علي فكتب الى رئيس الجمهورية متمنياً عليه العمل على الافراج عن والده». ويقول علي هنا انه لم يكتف بهذه الرسالة فحسب بل كتب رسالة اخرى اودعها الى العسكريين المتمركزين عند الحاجز الاول للقصر الجمهوري لتسليمها الى الرئيس لحود، الا انه لم يتلق اي جواب على هاتين الرسالتين «علماً ان الرئيس لحود طالب السلطات الايرانية باطلاق سراح السجين الآخر مع والدي عمر شبلي. وقد استجيب طلبه وعاد شبلي منذ اشهر الى ربوع الوطن، ليصبح والدي حسين قيس السجين اللبناني الوحيد لدى الجمهورية الاسلامية الايرانية».

«ومع ذلك لم ايأس» تكررها صابرة قيس التي لم تفقد صبرها، بصوت ممزوج بالحزن والعزم. وتضيف: «حين تولى رفيق الحريري رئاسة الحكومة الثانية في عهد الرئيس لحود، اعلن عن عزمه على زيارة طهران. فسارعت الى الاتصال بالسراي الحكومي للقائه، الا ان احد معاونيه طلب الي أن ابعث برسالة مفصلة الى رئيس الحكومة ابين فيها المراحل التي قطعتها في سبيل الافراج عن زوجي وقد اعد ولداي هذه الرسالة. وكانت فرحتي كبيرة جداً حين قرأت في بعض الصحف اللبنانية، وبعد عودة الحريري من طهران في يناير (كانون الثاني) الماضي، أنه اثار، على هامش اللقاء الذي عقد بينه وبين الرئيس الايراني محمد خاتمي، قضية زوجي وتلقى وعداً بالافراج عنه خلال ايام».

ماذا حصل بعد ذلك؟ نسأل صابرة فتجيب: «الايام اصبحت اشهراً وبقي الوعد وعداً. وقد راجعت السفارة الايرانية التي رحبت بي واعلمتني أن لا مانع سياسياً من اطلاق سراح زوجي لكن على الدولة ان تطالب به. كذلك حرص المسؤول الاعلامي في السفارة ابراهيم الحرشي على الاتصال بي من حين لآخر للاستعلام عن كل جديد. و«الجديد» هنا كان في استقبال الرئيس الحريري لي في السراي الحكومي بمساعدة الوزير بشارة مرهج والحاج فيصل عبد الساتر، وتأكيده على الاهتمام باطلاق سراح زوجي. وحين فاتحته بعزمي على السفر الى ايران لهذه الغاية، نصحني بألا افعل ذلك لعدم جدوى الزيارة في ذلك الوقت حيث كان الايرانيون منهمكين في الانتخابات الرئاسية. كذلك ابلغني الرئيس الحريري عزمه الذهاب الى طهران لتهنئة الرئيس خاتمي باعادة انتخابه. ووعدني باعادة طرح الموضوع معه، آملاً بأن يأتي بزوجي معه حين يعود الى بيروت».

وتتوقف صابرة عن الكلام للحظات قبل ان تضيف: «شهر مضى على عودة الرئيس الحريري من طهران من دون ان يعود زوجي. ولقد حاولت الاستفسار من رئيس الحكومة عما جرى فلم اوفق بعد. الا ان الوزير بشارة مرهج طمأنني منذ ايام وقال لي بالحرف: كنت مجتمعاً بالرئيس الحريري منذ دقائق ولقد سمعت منه ما يدعو الى التفاؤل بعودة زوجك حسين قيس في وقت قريب جداً. واكد لي الرئيس الحريري أنه تلقى وعداً قاطعاً من الرئيس خاتمي باطلاق سراح حسين بعد اتمام بعض الاجراءات القانونية».

وتختم صابرة حديثها قائلة: «ها أنا متفائلة بعد الذي سمعته من الرئيس الحريري. ولا بد ان اكون اكثر تفاؤلاً بعد نشركم قضيتي في صحيفتكم «الشرق الاوسط» لعلمي أن كلمتها مسموعة ومقروءة في العالم العربي فأرجو مساعدتكم في اعادة زوجي الي والى علي ونسرين اللذين لا يعرفان والدهما الا بالصورة».