سجن كريستتش في لاهاي صفعة مخزية لمنكري التطهير العرقي في البوسنة

TT

تمناه الكثيرون وصلوا من اجله، وإن كان القليلون قد توقعوه.. ولذا عندما صدر الحكم ضد الجنرال الصربي السابق راديسلاف كريستتش في لاهاي اول من امس شعر الناس بحدث تاريخي يتبلور امام اعينهم. هذه هي المرة الاولى في اكثر من نصف قرن تؤكد فيه محكمة دولية ان التطهير العرقي قد حدث بالفعل، في قلب اوروبا، حاملة لواء الحضارة الحديثة.

وقبل ان يصدر الحكم على كريستتش وجه الاتهام الى عدد اخر من الضباط الصرب والكروات بالتطهير العرقي وظهروا امام محكمة لاهاي. الا انه لم يدن اي منهم بتهمة التطهير العرقي، بالرغم من انهم جميعا، في النهاية، حكم عليهم بالسجن لفترات طويلة بتهم جرائم ضد الانسانية.

ان التطهير العرقي ذو طبيعة خاصة. فهو يرمز الى قمة الشرور التي يمكن للانسان ان يرتكبها باسم العرق والدين والنظريات العنصرية. واعتبر التطهير العرقي جريمة لأول مرة في مؤتمر الامم المتحدة الذي عقد في عام 1948، وفي ذلك الوقت لعبت دولتان اسلاميتان هما مصر وايران دورا ناشطا في عملية تبني هذا القرار.

وبالرغم من ذلك فإن معدي المؤتمر كانوا راغبين في منع ابتذال كلمة التطهير العرقي. ولذا فقد تقدموا بتحديدات معقدة ومتشددة للتطهير العرقي يصعب اثباتها. فلكي يحدث التطهير يجب وجود النية. ولذا فلا يمكن ان يكون ذلك فردا او تهديدات متفرقة او انفعالية. ويجب ان تكون النية مرتبطة بجماعة واضحة او سلطة يسهل تعريفها، ويجب ان يكون مستهدفا لتدمير كل او جزء من جماعة قومية او عرقية او عنصر او دينية.

وبعدما يتم اثبات النية، يجب اثبات اتخاذ تحركات لترجمتها الى واقع ملموس. فالتطهير العرقي ليس محددا بالقتل الجماعي، بل يمكن تطبيقه بطرق اخرى. وهو يشمل منع جماعات معينة من انجاب الاطفال، وسحب الاطفال منهم اذا انجبوهم، وتطبيق قيود ديموغرافية تهدف الى «قتل» جماعة الضحايا عبر خفض اعدادها.

ويمكن ممارسة التطهير العرقي على شكل فرض ظروف معيشية صعبة على مجتمع ما بحيث يجبر على الهجرة. ومثل هذه الظروف المعيشية الصعبة يمكن ان تشمل الافتقار الى الوظائف، والحرمان من التعليم والرعاية الصحية، والحرمان من الحصول على مناصب معينة في المجالات السياسية والاقتصادية او العسكرية ومنع التطور الطبيعي لثقافة هذا المجتمع.

ومن هذا المنطلق يمكن للمرء ان يؤكد ان التطهير العرقي ضد المجتمع المسلم في البوسنة الذي يمثل نصف عدد السكان، قد بدأ قبل فترة من الحرب التي شنها الصرب ضد حكومة سراييفو الشرعية.

فمنذ عام 1993 حذر العديد في المجتمع الدولي، ومنهم هذه الصحيفة التي قامت بحملة دولية كبيرة لتأييد البوسنة، من ان التطهير العرقي يجري في البوسنة على قدم وساق. الا ان الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي، استمرا في رفض مثل هذه الاتهامات، واتبعا سياسات شجعت، في واقع الامر، الصرب.

ادت مذبحة سريبرنيتسا عام 1995 الى مقتل عشرات الآلاف من المسلمين البوسنيين وتشريد ما يزيد على نصف مليون شخص. وما حدث للمسلمين هناك يطابق تماما جوانب التعريف الذي حددته الامم المتحدة للابادة الجماعية، غير ان القوى الاوروبية رفضت مصطلح الـ«ابادة» حتى بعد حدوث مذبحة سريبرنيتسا. لذا فإن قرار محكمة لاهاي يجب ان ينظر اليه كصفعة في وجه السياسيين الاوروبيين الذين انكروا الجريمة البشعة بسبب اعتبارات حزبية. والحكم الصادر بحق الجنرال السابق كريستتش ليس كافيا بالتأكيد. فبعد اثبات حدوث عملية الابادة الجماعية في حالة سريبرنيتسا، بات من المهم كشف كل تفاصيل وظروف تلك الجريمة حتى يتم تحديد الاطراف الاخرى المسؤولة عن وقوعها، سواء كان ذلك بصورة مباشرة او غير مباشرة.

ومعلوم ان سريبرنيتسا كانت «ملاذا آمنا» اقامته الامم المتحدة عندما ابادت القوات الصربية 8آلاف من سكانه،كلهم من الرحال والصبيان فوق سن العاشرة. وجاء الكثير من المسلمين الى سريبرنيتسا من القرى المجاورة على اعتقاد ان قوة الامم المتحدة، التي كان يقودها الجنرال الفرنسي موريلون، ستوفر لهم الحماية. فإذا لم يكن لديهم هذا الاعتقاد، ربما توجهوا مع بقية اللاجئين المسلمين الذين فروا من سراييفو.

وقبل بضعة ايام من وقوع المذبحة خاطب الجنرال موريلون جمعا من السكان في سريبرنيتسا مؤكدا لهم ان قواته ستوفر كامل الحماية للمدنيين ضد أي خطر يتهددهم، ولكن بمجرد وصول القتلة الصرب بقيادة كارادجيتش والجنرال راتكو ملاديتش، غادر موريلون الى فرنسا ولم يعد ثانية.

اما القوة الهولندية التي كلفت بحماية سريبرنيتسا فقد انسحبت الى طرف من اطراف المدنية،وانشغل افرادها بمشاهدة التلفزيون ولعب الورق في الوقت الذي حاصر فيه رجال كريستتش المدينة ونفذوا مذبحتهم ضد المسلمين. وشاهد افراد القوة الهولندية القوات الصربية وهي تطرد نساء واطفال سريبرنيتسا تحت تهديد السلاح. اما ممثل الاتحاد الاوروبي في المدينة، فقد غادر سراييفو بتاكسي بعد وقوع المجزرة.

كان علم الامم المتحدة لا يزال يرفرف فوق سريبرنيتسا فيما كان الصرب يقتلون رجالها ويغتصبون نساءها. وتمثل سريبرنيتسا واحدة من اكبر المذابح التي تعرض لها المسلمون في اوروربا منذ سقوط غرناطة قبل خمسة قرون. وطبقا لتأكيدات «رابطة أسر ضحايا سريبرنيتسا»، فإن حوالي 600 جندي صربي شاركوا في عملة الابادة، فيما اشرف كريستتش وميلاديتش وكارادجيتش على العملية التي استمرت 12 ساعة وشجعوا القتلة.

ويعيش كارادجيتش وملاديتش في يوغوسلافيا حاليا، ووجهت لهما المحكمة اتهاما رسميا، غير انه من الضروري ان توجه التهم الى كل الرجال الذين نفذوا المذبحة، اذ لا يمكن تبرير ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بـ«تنفيذ اوامر عليا»، ولمصلحة مستقبل سياسي معافى للمجتمع الدولي، ومستقبل التعددية الدينية والثقافية للقارة الاوروبية على وجه الخصوص، يجب كشف كل الحقائق والملابسات حول مذبحة سريبرنيتسا.