بعد عشر سنوات من سقوط الإمبراطورية السوفياتية.. الروس لا يخفون حنينهم للماضي الاشتراكي.. وبعضهم يحلم بالعودة إليه

TT

لم تعد الايادي التي ساهمت في تفكك الاتحاد السوفياتي ترتجف، بل انها تحشد قواها لمحاولة اخرى، كما قال غينادي ياناييف وقد اشعل لفافة التبغ السابعة او الثامنة خلال ساعة واحدة. تلك الايادي تشعر اليوم بالقوة، كما هو حال نبرتها وعقلها المدبر، وكما هي قناعتها ايضا.

منذ عشرة اعوام حاصر ياناييف، الذي كان يومها نائبا لرئيس الاتحاد السوفياتي، مبنى الكرملين واستولى عليه من ميخائيل غورباتشوف (الرئيس السوفياتي الاسبق)، املا في الاستيلاء على السلطة، بينما كانت يداه ترتجفان امام عدسات مصوري وكالات الانباء العالمية. كان السبب في هذا الارتجاف هو التوتر وليس الكحول، كما يقول اليوم، اذ انه ما يزال على قناعة بان ما قام به حينها كان عملا صائبا. كما ان المجتمع الروسي ليس واثقا بان الرجل اخطأ.

فاولئك الرجال الذين دبروا الانقلاب الفاشل في اغسطس (آب) عام 1991 الذي عجل بانهيار الامبراطورية السوفياتية، ووضع نهاية للحرب الباردة، لا يقبعون في السجن كما انهم ليسوا في المنفى او يشعرون بالعزلة.. انهم لا يشعرون بالخجل لما قاموا به، بل انهم يشغلون مناصب رفيعة مثل ياناييف، الذي يشغل مكتبا فخما في مبنى ضخم شمال موسكو حيث يترأس احدى الهيئات.

فالرجل الذي كان احد المتآمرين يرأس اليوم حزبا سياسيا صغيرا. وآخر يرأس لجنة في البرلمان، وثالث ما يزال يعمل حاكما لاحد الاقاليم الروسية المهمة.

قال ياناييف: «لم اتلق اية اهانة خلال الاعوام العشرة الماضية من مواطن عادي.. واحيانا اتحدث مع الناس في «مترو الانفاق» او في موقف للحافلات، حيث يقتربون مني ونتبادل الحديث لساعة من الزمن، ويتسائلون: لماذا لم تسحقوا (الرئيس الروسي السابق) بوريس يلتسين؟ ولماذا لم تعتقلوا غورباتشوف؟ انظروا ماذا فعلا بالبلاد».

* آخر الشيوعيين

* هكذا يتحدث آخر الشيوعيين عن الدور الذي يمكن ان يلعبه في حياة الناس، مشيرا الى عمق مشاعرهم تجاه ما حاولوا القيام به، والى ما وصلت اليه الاوضاع منذ ان اطيح بالاتحاد السوفياتي. ويبدو ان الروس لم يعترضوا كليا على ما فعله «المتآمرون» كما انه لم يستوعبوا بعد ما اعقب الماضي.

وها هو الرئيس فلاديمير بوتين، الضابط السابق في جهاز المخابرات السوفياتي (كي. جي. بي) يعيد استخدام النشيد الوطني السوفياتي السابق، رغم بعض التعديل في الاداء، ويدعو احد زعماء الانقلاب، المدير السابق لجهاز المخابرات، فلاديمير كريوشكوف، لحضور حفل تنصيبه رئيسا لروسيا. وخلال الشهر الماضي، نقل جثمان فلاديمير لينين من موقعه في الساحة الحمراء، مستندا الى فكرة ان ذلك قد يثير غضب الروس، لان الاجراء سيشير الى «انهم ظلوا يقدسون مبادئ واهية». وخلال الاسبوع الماضي قرر حاكم مدينة فولجوغراد استعادة اسمها الذي اشتهرت به خلال العصر السوفياتي، وهو ستالينجراد.

في ظل هذه الاجواء، يشعر اولئك الذين خططوا لانقلاب اغسطس عام 1991 بعدم حاجتهم للتعبير عن اسفهم او خجلهم لما فعلوه طوال ايام حياتهم. حيث قال ياناييف بثقة: «ربما انني اشعر بالذنب تجاه الانقلاب، فقط لانه لم ينجح». واضاف: «لم نتقبل ابدا حقيقة اننا كنا مذنبين، فقد قمنا بعملنا من اجل مصالح البلاد».

ما تزال الاحداث التي شهدتها تلك الايام الثلاثة تثير عواطف الروس. حيث خطط كريوشكوف، وحاول ياناييف الشيوعي المتعصب الاطاحة بغورباتشوف لاعاقة برنامجه «البروسترويكا» الذي ادى الى تفكيك الاتحاد السوفياتي.. وبدلا من ان تفلح مساعيهما حدثت ثورة، قادها يلتسين، وادت الى نهاية الحكم الشيوعي الذي استمر سبعة عقود من الزمن.

* الحنين للاشتراكية

* حينها اعرب 4 في المائة فقط من سكان موسكو عن تأييدهم لمجموعة ياناييف، بينما وصف 62% منهم انفسهم بانهم مؤيديون لانصار يلتسين. لكن استطلاعا للرأي نشرت نتائجه الاسبوع الماضي اشار الى ان 14% من السكان الذين شملهم الاستطلاع يعتقدون بان مدبري الانقلاب كانوا على حق، فيما قال 24% انهم اخطأوا، ولم يحدد البقية موقفهم بدقة. يضاف الى ذلك ان 10% فقط يعتبرون اليوم ان فشل الانقلاب يعد انتصارا للديمقراطية. ويقول اوليج شينن، الذي كان احد المشاركين في الاحداث: «نشعر بالدعم وهذا الدعم يتزايد يوما بعد يوم». كان شينن عضوا بالمكتب السياسي للحزب الشيوعي خلال عام 1991، وكان احد اعضاء الوفد الذي ذهب لاحضار غورباتشوف من مكان احتجازه، وهو الآن يرأس جماعة شيوعية ويتوقع ان ينهض الاتحاد السوفياتي مجددا، حيث قال «يمكنك اعتبار ما حدث هزيمة مؤقتة».

اما اندريه كوسياكوف، الذي عمل ذات يوم حارسا شخصيا ليلتسين خلال احداث عام 91، فقال: «ماذا كان سيحدث لو ان الانقلاب وقع خلال عام 1960، كان يمكن ان يوضع مدبروه امام جماعة من الرماة لاعدامهم». واضاف بانه كان يجب على الاقل ان يُمنعوا من الظهور امام الملأ، «ولكوننا لم نفعل ذلك يبدو انهم لم يدركوا انهم ارتكبوا جرما».

غورباتشوف من جانبه هو الآخر له رأي في المسألة، حيث يسخر من اولئك المتآمرين لسعيهم من اجل اعادة كتابة التاريخ بالقاء اللوم عليه. حيث قال «بالفعل، لم تعد اياديهم ترتجف اليوم، وقد اعتادوا ترديد الاكاذيب». واضاف «انهم الآن يخبئون اياديهم، وباتوا يستخدمون القفازات عندما يتحدثون.. لقد باتوا مكشوفين ومروجي اكاذيب، فلا تصدقوهم».

* نهاية غير محتملة

* استيقظ العالم صباح يوم 19 اغسطس عام 1991، ليفاجأ باعلان مجموعة ضمت حينها نائب الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الدفاع ومدير وكالة المخابرات السوفياتية وكبير موظفي مكتب غورباتشوف، بانهم شكلوا لجنة للتعامل مع حالة الطوارئ واعادة الانضباط والنظام.

لقد قالوا كذبا ان الرئيس يعاني من المرض، بينما كانوا قد قطعوا عنه خطوط الاتصال، واستولوا على الاسرار المتعلقة بالشفرة النووية، وعزلوه في مسكنه الصيفي على ساحل بحر القرم. وخلال محاولتهم تلك لم يتمكنوا من القاء القبض على يلتسين، الذي كان حنيها رئيسا لجمهورية روسيا، والتي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي.

وقد فاجأهم يلتسين بالهرولة نحو البيت الابيض، الذي كان حينها مقرا للبرلمان، والصعود فوق دبابة عسكرية وحشد الشعب الى جانبه. وحينها اسفرت الاحداث عن تجمع اكثر من 50 الف شخص في محيط البيت الابيض، وبعضهم كانوا يحملون اسلحة، وقد عقدوا العزم على التصدي للمحاولة، خاصة بعد مقتل بضعة رجال في مواجهة مع رجال الجيش امام مبنى السفارة الاميركية في موسكو.

احد المناظر التي لا يمكن للمرء ان ينساها عن تلك الاحداث، هو المؤتمر الصحافي الذي ظهر فيه ياناييف ويداه ترتجفان وقد تبين للروس والصحافيين الغربيين بأن مدبري الانقلاب ليست لديهم الرغبة او المقدرة على النجاح في مسعاهم. فبعد فشلهم الذريع يوم 21 اغسطس، عاد غورباتشوف الى موسكو، لكن يلتسين كان بطل الساعة. وخلال عدة اشهر تمكن من تفكيك الاتحاد السوفياتي، ومن اجبار رئيسه على الاستقالة من منصبه.

وتم القاء القبض على مدبري الحركة الانقلابية وتقرر عزلهم من اللجنة التي اسسوها، ووضعوا في السجن بانتظار محاكمتهم، لكنهم حصلوا على حريتهم نهاية المطاف وقرر البرلمان العفو عنهم في ما بعد. وباستثناء الجنرال فالنتين فارينيكوف، الذي رفض العفو واصر على محاكمته، حيث قررت المحكمة الغاء التهم الموجهة ضده واطلاق سراحه.

ويبدو ان روسيا لم تخلع عنها بشكل نهائي ماضيها الشيوعي، اذ ما تزال هناك بعض مظاهر العصر الشيوعي، ابتداء من النجوم الحمراء التي ما تزال تضيء سماء موسكو فوق قصر الكرملين الى اشكال المطرقة والسندان التي ما زالت جلية في مسرح البولشوي، وتماثيل ستالين التي ما تزال قائمة في معظم ساحات المدينة تقريبا. وحتى الباعة في سوق «اربات» العتيق، الذي يعد اشهر ساحات التسوق في موسكو، ما زالوا يعرضون للبيع اوعية للزهور عليها نقوش تشبه وجوه جوزيف ستالين. وما زال المسؤولون في الاقاليم يحتفظون بسلسلة من الكتب والمؤلفات الماركسية اللينينية في مكتباتهم الحكومية.

* ماذا تخيلوا؟

* يتأمل ياناييف ورفاقه في العقد الذي يفصلنا عن تلك المحاولة، ويطرح علينا رسالة مختلفة، رسالة متعلقة بالدفاع عن انفسهم. حيث قال: «توقعنا ان تفكك الدولة وان يتمكن القوميون من تقسيمها، الى درجة ان البلاد ستتحول الى دولة تديرها عصابات المافيا.. توقعنا ان يزداد الناس فقرا وان تظهر طبقة تتولى سرقة الثروات الطبيعية للبلاد. ولسوء الطالع حدث كل ما توقعناه. وحذرنا الناس من وقوعه بالفعل على ايدي الديمقراطيين، وبنسبة تفوق ما توقعناه».

اكثر اولئك الذين شاركوا في المخطط الانقلابي نجاحا في عالم اليوم هو فاسيلي ستارودوبتسف، الطيار الحربي السابق الذي انتخب مجددا خلال الربيع المنصرم لدورة ثانية حاكما لاقليم تولا، بعد ان هزم منافسيه العديدين الذين كان من بينهم حفيد (الرئيس السوفياتي السابق) ليونيد بريجنيف.

وكغيره من المشاركين في المؤامرة، يفكر ستارودوبتسف بشكل مختلف في ما يتعلق بالاخطاء التكتيكية التي ارتكبها شخصيا، فبينما يعتقد آخرون انه كان عليهم اعتقال يلتسين، قال ستارودوبتسف ان العامل الرئيسي تمثل في وسائل الاعلام: «لقد كان ذلك هو خطأنا الجسيم، فبدلا من بث موسيقى «بحيرة البجع»، كان علينا ان نشرح للناس ما كنا نقوم به».

وذلك خطأ يأمل في اصلاحه حيث ظهر مؤخرا مع غيره من «المتآمرين»، ليعلن تشكيل لجنة تتولى اعادة الاعتبار لهم. وخلال مقابلة صحافية اجريت معه في مكتبه، قال: «لقد اردنا حماية الدستور والحفاظ على رأي الناس.. اردنا الدفاع عن شعبنا ضد التجارب الوحشية التي كانت تجري عليه، ولا يمكن ادانتنا لاننا فعلنا ذلك».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»