بوش مجبر على إبقاء خمس القوات الأميركية في 100 بلد حول العالم للحفاظ على مصالح بلاده

TT

انتقد الرئيس الاميركي جورج بوش، عندما كان مرشحا رئاسيا، ما وصفه بـ«النشر المفرط» للقوات الاميركية في الخارج. اما الآن وبعد توليه الرئاسة، فانه بات يواجه الواقع الصلد من ان سحب القوات الاميركية بالفعل واعادتها الى وطنها امر اصعب بكثير مما يبدو عليه. ومن جملة اسباب ذلك صعوبة اخماد الحرائق الجيوسياسية الاقليمية المندلعة في وقتنا الحاضر، والبلقان خير دليل على ذلك، حيث يتسع نطاق عمليات الجيش العسكري هناك ليصل الى مقدونيا التي ستصبح البلد الثالث الذي توجد فيه قوات عسكرية اميركية في هذه المنطقة، وكل هذا تحت بصر بوش وسمعه. من الاسباب الاخرى ان العديد من العمليات العسكرية الضخمة يهدف للحفاظ على الالتزامات الامنية الاساسية للولايات المتحدة. وبالطبع يمكن خفض حجم قوات سلاح الجو الاميركية المشاركة في تثبيت مناطق حظر الطيران فوق العراق، او سحب آلاف الجنود الاميركيين من شبه الجزيرة الكورية، ولكن الاقدام على مثل هذه الخطوات ربما يكون علامة تغيير في المواقف الاميركية في العالم، حتى ابعد مما يمكن ان تذهب اليه كثير من مراجعات السياسات الدفاعية للادارة الجديدة.

ويكتب مايكل اوهانلون المحلل في معهد بروكنز موضحا في مقال له في مجلة «الشؤون الخارجية» قائلا: «ان الاغلبية العظمى من قوات الجيش الاميركي المرسلة في مهمات الى الخارج لا تشارك في عمليات حفظ السلام في البلقان او في اي مكان آخر... بل انها تحمي لب مصالح الولايات المتحدة وحلفائها من خلال مهمات طويلة ومعقولة».

ويؤكد كبار جنرالات الجيش الاميركي وادميرالاته في كل شهادة لهم امام الكونغرس ان قوات الجيش الاميركي موزعة على نطاق شاسع اليوم. ففي اي يوم من ايام السنة هناك زهاء 121 الف جندي و87 الفا من افراد سلاح الجو و99 الفا من افراد البحرية وقوات المارينز موزعة في مهمات دائمة او مؤقتة في الخارج، حسب كبار مسؤولي الجيش الاميركي. وهذا يشكل ما مجموعه 20% من القوات العسكرية الاميركية.

ومن بين حوافز الانضمام الى الجيش بين الشباب الاميركيين، الرغبة في رؤية العالم، اذ يتوقع من العاملين رجالا ونساء في هذا الجيش قضاء حوالي 20% من مدة خدمتهم فيه خارج الولايات المتحدة. ويحاول البعض رفع هذه المدة، وهناك قسم محدد من البحارة الاميركيين يحاولون قضاء مدة خدمتهم عائمين. ولذا فان قوات البحرية قد تواجه صعوبات في تحقيق اهداف الكونغرس الرامية الى تقليص اعداد القوات الاميركية في الخارج، حسب الادميرال ويليام فالكون نائب مدير عمليات البحرية في كلمة له امام لجنة تابعة للكونغرس في يونيو (حزيران) الماضي.

ولا تضطلع القوات الاميركية الا بالقليل من الاعمال في العديد من مناطق وجودها في الخارج، ولها وجود مهم في 100 بلد على الاقل، ولكن الحجم الاكبر من تلك القوات موجود في بضع مناطق حيث تقضي التقييمات المختلفة لهيئة الاركان المشتركة بان العلاقات مع الحلفاء او العمليات الجارية فيها ذات اهمية بالغة للامن القومي الاميركي.

وربما يكون التوازن العسكري بين الالتزامات طويلة الامد وعمليات حفظ السلام قصيرة الامد اوضح ما يكون في القارة الاوروبية. فرغم ان الاتحاد السوفياتي يكاد يكون خبرا من اخبار الماضي، الا ان القوات الاميركية المتمركزة في اوروبا لا يزال عددها يصل الى 100 الف جندي، هذا بعد خفضها عما كانت عليه في اوج الحرب الباردة عندما كانت تصل الى 300 الف جندي.

وكانت تقاريرقد افادت بأن وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد ينظر خفض عدد تلك القوات لتوفير نفقاتها المالية. ورحب بعض المحللين خارج الحكومة بذلك واعتبروه فكرة حسنة. وفي ظل عمل الاتحاد الاوروبي الآن على تشكيل قواته الدفاعية الخاصة، يمكن للولايات المتحدة تخفيض وجودها العسكري في القارة الى ثلاثة ارباع ما هي عليه الآن، من دون الاضرار بمصالحها، حسب لورانس كورب من مجلس العلاقات الخارجية.

ولكن هذا ما لا يفكر فيه الجيش الاميركي، فعلى ضوء المطالبات بعمليات حفظ السلام، ودعم القوات العاملة في الخليج، ومتطلبات حلف شمال الاطلسي (الناتو) المتواصلة، فان اعداد القوات الاميركية الراهنة «يجب النظر اليها على انها في ادنى حدودها المطلوبة»، كما قال جوزيف رالستون، الجنرال في سلاح الجو، ورئيس قيادة القوات الاميركية ـ الاوروبية، امام الكونغرس أخيرا.

ويظل البلقان هو البقعة الاسخن في اوروبا، إذ اصر رامسفيلد هذا الاسبوع على ان توسعة نطاق عمليات الولايات المتحدة ومدها الى مقدونيا لن يعني زيادة عدد القوات الاميركية في المنطقة، اذ تضطلع بهذه المهمة القوات الاميركية الموجودة حاليا في كوسوفو. كما ان اعداد القوات الاميركية في المنطقة اقل بكثير مما كانت عليه اواخر التسعينات في اوج الازمة في تلك المنطقة، بسبب انخفاض اعدادها في البوسنة من حوالي 20 الفا الى 3500 جندي حاليا.

ولكن عملية البلقان باتت شكلا من اشكال العمليات الاميركية شبه الدائمة، وهي في نفس الوقت من جملة العمليات التي كانت تأمل دوائر المحافظين في تخفيض بوش عدد المكلفين بها عند تسلمه الرئاسة. ويشير جاك سبنسر من مؤسسة التراث الى ان «الامر المهم الآن هو ما سيفعله في المستقبل، فهل سيواصل الزامنا بالوجود في اماكن ليست من جملة المصالح الحقيقية للولايات المتحدة؟».

اما بالنسبة لسلاح الجو والبحرية الاميركية فان اكثر بقاع العالم التي تشهد تمركزا لها فيها هي منطقة الخليج، اذ تعمل القيادة المركزية الاميركية في تلك المنطقة من خلال 30 سفينة حربية و175 طائرة مقاتلة و25 الف جندي. ولو لحق اي تغيير في السياسة الاميركية تجاه المنطقة، فانه قد يفضي الى عودة اعداد كبيرة من الجنود الاميركيين الى وطنهم، حسبما يقول اوهانلون من معهد بروكنز. وهو يوصي بتخفيض اعداد القوات الجوية الموجودة في منطقة المتوسط. وفي ما يتعلق بتقليص اعداد القوات الاميركية العاملة في الخارج، فان «الجدل الاشد سيتركز على المنطقة حيث تضطلع القوات الاميركية هناك بمهمات ملموسة».

الى جانب ذلك، فان آسيا هي الأخرى تظل منطقة ذات وجود عسكري اميركي مهم. ومن بين القوات الاميركية المنتشرة هناك 20 الفا من قوات المارينز المحشورين في جزيرة اوكيناوا اليابانية، وهناك 27 الف جندي في كوريا. ويرى اوهانلون ان تقليص اعداد المارينز في اوكيناوا ربما كان امرا معقولا، وهو يصفهم بانهم مثل من لا حيلة له في البقاء في مكان رغما عنه، ولكن آسيا تظل منطقة تتميز بانها ذات مصالح استراتيجية كبرى بالنسبة للولايات المتحدة، وليس بسبب اي خطر متصور من بروز صين قوية فحسب.

ويمكن إنهاء الالتزامات العسكرية الاميركية طويلة الامد تجاه كوريا الجنوبية اذا دبت الحرارة في علاقاتها مع كوريا الشمالية، ولكن كوريا الشمالية ترفض حتى الآن اصرار ادارة بوش على تضمين اي محادثات جديدة حول تدشين علاقات اوثق مناقشة مسألة القوات العسكرية التقليدية وكذلك البرنامج النووي لها.

*خدمة «كريستيان ساينس مونيتور» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»