واشنطن تحتاج إلى تطمين مخاوف روسيا والصين وأوروبا بعد قرار بوش الانسحاب من اتفاقية الصواريخ المضادة للصواريخ

TT

في بيان مفاجئ ومقتضب من مزرعته في تكساس، توصل الرئيس الاميركي الحالي جورج بوش الى قرار بشأن واحد من اهم العناصر الرئيسية في النظام الامني العالمي. ويعتقد المحللون ان القرار، الذي يعتبر واحدا من اهم القرارات التي يتخذها رئيس اميركي خلال ثلاثين عاما، يستحق اهتماما خاصا من الدول الحليفة للولايات المتحدة ليس في اوروبا فقط وانما في آسيا والعالم العربي.

والقرار هو المتعلق بالانسحاب من «اتفاقية الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية»، التي وقعتها واشنطن مع الاتحاد السوفياتي السابق في ذروة الحرب الباردة عام .1972 وتقوم الاتفاقية على اساس فكرة طورها وزير الدفاع الاميركي السابق روبرت ماكنمارا منتصف عقد الستينات. وبموجب هذه الاتفافية وافقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق على انتاج واعادة نشر عدد كاف من الرؤوس الحربية لتدمير بعضهما بعضا في حالة اندلاع نزاع نووي حراري. ويطلق على فكرة ماكنمارا «التدمير المتبادل» وهي قائمة على افتراض ان الدولة التي تدرك انها ستتعرض الى التدمير التام، حتى اذا نجحت في تدمير عدوها، ليس لها مصلحة في اطلاق شرارة حرب نووية حرارية. وتنص اتفاقية عام 1972 على امتناع الطرفين الموقعين عن تطوير نظام مضاد للصواريخ الباليستية للتأكد من بقاء الخوف من الدمار لدى الطرفين كرادع رئيسي. ومع ذلك ظلت الرغبة تراود كلا من موسكو وواشنطن باستمرار في انشاء آلية دفاعية لتدمير الصواريخ التي تطلق باتجاه كل منهما قبل ان تصل الى هدفها. وكان السوفيات خلال حقبة نيكيتاو خروتشوف اول دولة تجري تجارب اولية وذلك قبل سبع سنوات من اتفاقية الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية. اما الولايات المتحدة، فقد بدأت بحث الفكرة منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي إبان ولاية الرئيس السابق جيمي كارتر، غير ان الفكرة لم تدرج كأولوية وطنية إلا في عهد الرئيس السابق رونالد ريغان.

وظل النظام الدفاعي المضاد للصواريخ، والذي كان يعرف باسم «مبادرة الدفاع الفضائي»، موجها ضد الاتحاد السوفياتي السابق. وبنهاية عام 1991 تفكك الاتحاد السوفياتي ولم يعد له وجود، غير ان الفكرة لم تمت، فحتى الرئيس السابق بيل كلينتون، الذي كان معارضا للمبادرة، ابدى اهتماما صوريا بها عقب فوزه بالرئاسة عام .1992 ولكن كان من الواضح ان كلينتون لم يكن يعتزم انشاء مثل هذا النظام الدفاعي.

وحول الرئيس الحالي جورج بوش «مبادرة الدفاع الفضائي»، التي اطلق عليها في البداية «مبادرة الدفاع الوطني»، الى اولوية مهمة لإدارته في مجال الدفاع. وتغير اسم البرنامج مرة اخرى الى «مبادرة الدفاع الصاروخي» وذلك عقب شكوى حلفاء الولايات المتحدة في اوروبا من ان كلمة «وطني» ربما تعني استثناءهم من هذا النظام. وخلال فترة الاشهر الستة الماضية قام وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد بجولة في الدول الاوروبية وبعض العواصم الآسيوية لطمأنة حلفاء الولايات المتحدة على ان النظام الدفاعي عبارة عن «مظلة» ستشملهم ايضا. ثمة سؤالان في حاجة الى اجابة.

اولا، ضد من سترفع هذه المظلة؟

تقول واشنطن ان النظام ليس ضد روسيا التي تعتبر «صديقا وشريكا» في الوقت الراهن. وحاول القادة الاميركيون طمأنة الصين بأن النظام ليس ضدها هي الاخرى، غير ان الحقيقة هي ان الولايات المتحدة اذا نجحت في انشاء هذه «المظلة»، فإن ترسانة روسيا والصين النووية بكاملها ستصبح غير فاعلة ضد الاهداف الاميركية. فالرؤوس الحربية النووية الروسية والصينية المحمولة على الطائرات والسفن أو الغواصات ستصبح معرضة لخطر البحرية وسلاح الجو الاميركيين. الجدير بالذكر ان الولايات المتحدة لا تملك دفاعات ضد أي هجوم بصواريخ باليستية تحمل رؤوساً حربية نووية وكيماوية او بكتيرية. وتدعي روسيا والصين انهما اذا فقدتا وسائلهما الخاصة بتهديد الولايات المتحدة لن يكون هناك ما يحول دون تخويف واشنطن لهما في المجالات الاقتصادية والسياسية دون اثارة نزاع نووي.

ويعتقد الاميركيون ان هذا المنطق غريب، ويرون كذلك انه بالإمكان طرح حجة مماثلة ضد امتلاك الولايات المتحدة لأي قوة بحرية وجوية لمنع أي هجوم بحري او جوي. كل ما تفعله «مبادرة الدفاع الصاروخي» هو التأكيد على ان الولايات المتحدة تواجه خطر حرب. ويزعم الطرف الاميركي ان النظام المقترح ليس له مقدرة على شن هجوم على أي طرف وان كل ما يفعله هو تدمير الصواريخ الموجهة ضد الولايات المتحدة قبل وصولها لأهدافها. وتعارض فرنسا «مبادرة الدفاع الصاروخي» لسبب مختلف تماما، فباريس تعتقد ان مثل هذا النظام الدفاعي سيحول من الولايات المتحدة من «قوة عظمى» الى «قوة تنفرد بالتفوق» لا تخاف احدا. علاوة على ما سبق تعتقد فرنسا ان هذا التطور سيؤدي الى ايجاد نوع جديد من القوة العسكرية تتفوق فيه الولايات المتحدة على كل القوى النووية الاخرى مثل فرنسا وبريطانيا والصين وروسيا. وحاولت واشنطن تبديد هذا المخاوف باقتراح انضمام روسيا والدول الاوروبية الغربية لنظام الدفاع الصاروخي، غير ان هذه مسألة يسهل الحديث حولها لكنها صعبة التنفيذ، اذ ان روسيا لا تملك المال اللازم للصرف على مثل هذا الآليات الدفاعية المكلفة، فالحكومة الروسية لا تستطيع ان تدفع مرتبات موظفيها دعك من انفاق ملايين الدولارات على سباق تسلح ضد الولايات المتحدة التي تتمتع بالثراء. وستجد الكثير من الدول الاوروبية الثرية صعوبة في رصد الموارد المالية اللازمة للانفاق على هذا المشروع. وحتى اذا وجدت الموارد المالية، فإن النتيجة ستتركز في اعتماد روسيا ودول الاتحاد الاوروبي على الامدادات والتكنولوجيا العسكرية الاميركية. الاميركيون قالوا من جانبهم ان روسيا والدول الاوروبية يمكن ان تطور بنفسها انظمة الدفاع الصاروخية الخاصة بها، غير ان هذا صعب التنفيذ، فروسيا ودول الاتحاد الاوروبي متأخرة عشرين عاما تقريبا عن الولايات المتحدة في بعض مجالات البحوث. اما الصين، فلديها الكثير من الشكوك. فبكين تعتقد ان «المظلة» الاميركية المقترحة مصممة لإثارة سباق جديد للتسلح يمكن ان يدمر الاقتصاد الصيني الذي لا يزال هشا. وفيما كان يعتقد الرئيس السابق كلينتون ان الصين «شريك استراتيجي»، ينظر بوش اليها كونها منافساً محتملاً، ان لم تكن عدوا للولايات المتحدة. وتساوي ميزانية الصين الدفاعية 9 في المائة من ميزانية الدفاع الاميركية، ومع ذلك فإن الإنفاق على المجال الدفاعي في الصين يقدر بحوالي 20 في المائة من اجمالي الناتج المحلي في الوقت الذي تنفق فيه الولايات المتحدة اقل من 3 في المائة من اجمالي الناتج المحلي على الدفاع. أي ان على الولايات المتحدة ان ترفع ميزانيتها الدفاعية بمعدل سبعة أضعاف لكي تصل الى معدل الانفاق الدفاعي الصيني الحالي. ومع ذلك فإن الصين من المحتمل ان تخرب اقتصادها تماما اذا حاولت ان تضاعف إنفاقها الدفاعي الى 40 في المائة من اجمالي ناتجها القومي.

وتقول واشنطن ان «مظلة» مبادرة الدفاع الصاروخي موجهة في الاساس الى «الدول المشبوهة» وحددت كوريا الشمالية وايران والعراق وليبيا وكوبا، غير ان هذا الزعم غير مقنع، ذلك ان واشنطن لم تضع في الاعتبار حدوث تغيير سياسي داخلي في أي من هذه الدول خلال فترة الـ10 أو 15 عاما المقبلة، أي الفترة اللازمة لاستكمال العمل في «مظلة» الدفاع الصاروخي ونشرها في الوقت الذي تعتقد فيه غالبية المحللين احتمال حدوث تغييرات في السياسات الرئيسية لهذه الدول وقياداتها في وقت اسرع مما هو متوقع. وحتى اذا افترضنا صحة الزعم الاميركي بشأن هذه الدول، فإنها اذا فكرت في شن هجمات ستفعل ذلك ضد حلفاء الولايات المتحدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية والدول العربية في منطقتي الخليج والشرق الاوسط، اذ ليس من بين الدول التي تتحدث عنها الولايات المتحدة من تملك قدرة على انتاج وتخزين عدد كاف من الصواريخ العابرة للقارات لضرب الولايات المتحدة نفسها. لذا فإن «المظلة» الاميركية يجب ان تتطور في المقام الاول لحماية الدول الحليفة للولايات المتحدة. السؤال الثاني هو: هل ستسعى الدول الحليفة للولايات المتحدة للحصول على هذه «المظلة»؟ اذا حدث ذلك، فإن هذه الدول ستصبح معرضة لهذا النوع من الهجمات حتى قبل تطوير «المظلة» نفسها، كما لم يتضح كذلك الطرف الذي سيدفع نفقات مثل هذه النظم الدفاعية اذا نشرت في الشرق الاقصى او الخليج.

ليس ثمة شك ان تصريح بوش المكون من 16 كلمة والصادر من مقر اقامته حاليا بمزرعته في تكساس ليس كافيا، ذلك ان واشنطن مطالبة بالكثير من التوضيحات اذا ارادت ان تعالج المخاوف التي اثارها قرارها القاضي بالانسحاب من اتفاقية الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية الموقعة عام