العودة إلى الجلد العلني في إيران تثير مزيدا من الخلاف بين المحافظين والإصلاحيين

TT

«تجلد ام لا تجلد؟» هذا هو السؤال الذي يحتدم الجدل حوله هذه الأيام داخل الدوائر السياسية والدينية في ايران. وينوه المراقبون الى ان هذا الجدل يتمحور حول ما اذا كان ينبغي لايران ان تتبنى اجزاء على الاقل من النظام الذي وضعته حركة طالبان الافغانية.

وكان ارتفاع عدد حالات تنفيذ عقوبة الجلد العلني مؤخرا، والتي تسببت في انقسامات حادة بين علماء الدين الشيعة ونقل بعضها عبر شاشات التلفزيون الرسمي في اوقات العرض الرئيسية، وراء اندلاع هذا الجدل. وصدم منظر «الجلادين» الشرسين، وهم يسوطون المراهقين المرعوبين امام صفوف المتفرجين المهللين، ابناء الطبقة الوسطى المتسمين بالدعة.

علاوة على ذلك، اضفى هذا الحوار بعدا جديدا على الحرب الكلامية الدائرة بين الرئيس الايراني محمد خاتمي وعلماء الدين المتشددين الذين يسيطرون على المقاليد الاساسية للسلطة. وعلق خاتمي الغاضب في اشارته العلنية الوحيدة بشأن هذه القضية بالقول ان «مجتمعا غارقا في الفساد ليس من حقه الحاق الاهانة بالمذنبين من الشباب في صفوفه».

كما طلب وزير الخارجية الايراني كمال خرازي لقاء خاصا مع كبير الجهاز القضائي الايراني آية الله حسين شاهرودي لتحذيره من الأضرار التي تلحقها عقوبة الجلد العلني بصورة ايران في الخارج. ووصفت منظمات حقوق الانسان الجلد على انه يأتي في سياق «تأسيس نظام يشابه نظام طالبان» في ايران.

وكان الزعيم الايراني الراحل الخميني هو الذي طرح العمل بعقوبة الجلد على الملأ في عام 1980، الا ان ما اثارته من اشمئزاز واسع ارغمه على ايقافه. ولكن الجلد عاد الى الظهور من جديد في الشهر الماضي عند القبض على الشبان الذين كانوا يحتفلون بفوز خاتمي الثاني في الانتخابات في العديد من المدن الايرانية، وبينها طهران، حيث جرى جلدهم في العلن.

وكان الجلد من بين مجموعة تعليمات جديدة اصدرتها السلطة القضائية وتشمل العودة الى فرض منع ارتداء اربطة العنق، وعدم السماح لحليقي اللحى بدخول البنايات العامة، واغلاق المحلات التي تبيع «البضائع الغربية المفسدة» مثل قمصان «تي شيرت» وأشرطة الكاسيت والفيديو ومواد التجميل للنساء.

ورحب علماء الدين المتشددون بالاجراءات الاخيرة واعتبروها «خطوات موفقة وفي الوقت الصحيح» لايقاف «الهجوم الثقافي من جانب الغرب». وشدد آية الله مصباح يزدي على ضرورة التحرك «وعدم الانخداع باتهامات انتهاكات حقوق الانسان. فحسب الاسلام ليس هناك من حقوق سوى الحقوق التي ينالها الفرد لورعه واخلاصه». اما شاهرودي فقال الثلاثاء الماضي ان مقترفي الجرائم لا يمكن اعتبارهم «اصحاب حقوق، فنحن نواجه سفاحين ولصوصا ومنحرفين»، واردف «من الغريب ان يطالبنا البعض بمعاملة الاشخاص المؤذين، والمواطنين الذين يخافون الله بنفس الطريقة». كما قال ان تنفيذ العقوبة علناً وعرض ذلك على شاشات التلفزيون «فيه عبرة وعظة للآخرين».

غير ان آية الله محمد طباطبائي ـ قمي، عالم الدين الاصلاحي الكبير، لا يتفق في الرأي مع شاهرودي، فهو يقول «ان لكل البشر حقوقاً جوهرية، واي نظام عقوبات لا يكون ناجعا الا اذا عكس التقاليد الاجتماعية والثقافية للمجتمع وتاريخه. وقد توقف العمل بعقوبة الجلد في الثقافة الايرانية منذ عقود مضت، ومن هنا فان محاولة اعادة عقارب الساعة الى الوراء تبدو مثل ما تحاول حركة طالبان عمله في افغانستان». ويؤكد عالم الدين ناصر مكارم شيرازي على ذلك قائلاً «ينبغي ان نركز على معاقبة الجرم لا المجرم، وليس من حق رئيس السلطة القضائية البت في مثل هذه المسائل الحساسة دون استشارة علماء الدين الآخرين».

وفتح هذا الجدل الباب على بؤرة قديمة من بؤر التوتر بين علماء الدين. وكان هؤلاء تقليديا يعبرون عن آرائهم في المسائل التي يثيرها اتباعهم ولكن دون التحرك بانفسهم. على ان الامور تغيرت اليوم وبات بمقدور اي عالم دين تقريبا اصدار فتوى وتحشيد مجموعة من الفتوات لتطبيقها.

وينظر علماء دين مثل مكارم شيرازي الى الدولة واجهزتها، وبينها الجهاز القضائي، على انها ذراع تنفيذية فقط وينكرون عليها حق اصدار القوانين والقواعد دون اجماع بين علماء الدين اولا.

ويبدو ان خاتمي يسعى الى حل وسط بمواصلة العمل بعقوبة الجلد على الا تنفذ في العلن وامام الكاميرات التلفزيونية. ويوضح محسن امين زاده مساعد الرئيس خاتمي قائلا «ان من المهم حماية صورتنا في العالم، ولن يكون بوسعنا تبني دعوة الرئيس خاتمي بضرورة حوار الحضارات بينما شاشات التلفاز في ارجاء العالم تبث مثل هذه المشاهد من داخل مدننا».

ويرفض عدد من السياسيين الاصلاحيين وجهة النظر هذه على انها «استخدام مضر لمبدأ التقية». ويحذر عماد الدين باقي الذي خرج مؤخرا من سجنه قائلا «لو ظللنا نواري مثل هذه المسائل عن الأعين حفاظا على صورتنا فسينتهي بنا الحال الى نظام اشبه ما يكون بنظام حركة طالبان. وهناك مسائل واوقات لا تنفع فيها ممارسة التقية لانها لا تفضي الا لنتائج عكسية». اما علي يونسي عالم الدين ووزير الاستخبارات فيرفض وجهة النظر هذه ولكن من زاوية اخرى قائلا «لا يمكننا تفصيل سياساتنا على مقاس الآخرين، وينبغي ان يكون هناك اعتبار واحد هو حماية نظامنا من اعدائه السياسيين والثقافيين. ولا حاجة تدعونا للتخاذل عن سحق الذين يريدون تغيير النظام».

على صعيد آخر، فان التعليمات الجديدة ستضر باصحاب صانعي شفرات الحلاقة الجدد في ايران. فالخميني كان قد اغلق مصانع شفرات الحلاقة في العام 1980 عندما فرض على الرجال اطالة لحاهم. غير ان شفرات الحلاقة ظلت تهرب الى البلاد بكميات كبيرة، من دبي غالبا، لان ملايين الرجال استمروا في حلاقة لحاهم. وبعد فوز خاتمي بالانتخابات الرئاسية العام 1997 تحرك المستثمرون، وبينهم شركة برازيلية، نحو فتح مصنعين ليكتشفوا سوقا رائجة. ويعلق سهراب توللي احد العاملين في شركات بيع شفرات الحلاقة قائلا «ان تقديراتنا تفيد بأن اكثر من نصف الرجال الايرانيين يحلقون لحاهم مرة في الاسبوع على الاقل، والتعليمات الجديدة القاضية بمنع حليقي اللحى من دخول الاماكن الرسمية سيضر بتجارتنا».

على ان تطبيق التعليمات الجديدة في معظم الحالات يجري دونما حماس كبير، وذلك لأن الاجهزة القانونية منقسمة فيما بينها وتعتريها الحيرة في اتباع آراء اي عالم من علماء الدين.