اليونيسيف تعيد 3500 من أطفال الحرب في جنوب السودان إلى قراهم

TT

من بانا هارمان * منظر عودة المقاتلين من الحرب في طريقهم الى قراهم بات امرا مألوفا لدى سكان القرى التي تقع في خط سير هؤلاء الجنود وهم في طريق العودة الى ديارهم قبل العودة مجددا الى المعارك. عند مرور هؤلاء بالقرى الواقعة على الطريق يقابلون بالتصفيق والتهليل من السكان رجالا ونساء وحتى الاطفال الذين يهرولون باتجاه المقاتلين طالبين منهم سرد بعض قصص ميدان المعركة.

يبتسم المقاتلون بخجل وهم يواصلون سيرهم وهم يحملون حاجياتهم من اكواب بلاستيكية وبطانيات وناموسيات وصابون ويلبس بعضهم فانلات (تي شيرت) تتدلى حتى الركبة. يظهر شعار اليونيسيف، هؤلاء ليسوا مقاتلين عاديين، انهم اطفال. يقول دوت كوال (10 سنوات) ان اول شيء سيفعله لدى وصوله الى بيته هو اهداء البطانية لوالدته واعطاؤها قبلة، واضاف وهو يجفف العرق من على وجهه ويمد يده لامساك يد «رفيق سلاح» آخر انه سيستعد للمدرسة.

الجدير بالذكر ان ما لا يقل عن 300 ألف طفل تقل اعمارهم عن 18 عاما يشاركون في عدد من النزاعات المسلحة في مختلف مناطق العالم، رغم ان ميثاق الامم المتحدة الخاص بحقوق الاطفال يحظر على الدول تجنيد من تقل اعمارهم عن 15 عاما. وفي السودان يشارك حوالي 10 آلاف طفل تقل اعمارهم عن 18 عاماً في القتال الى جانب صفوف «الجيش الشعبي لتحرير السودان». والآن توفرت الفرصة امام ما لا يقل عن 3500 من الجنود الاطفال في ممارسة طفولة عادية خالية من القتال والمعارك.

ففي اكتوبر (تشرين الاول) الماضي قرر «الجيش الشعبي» مساندة جهود اليونيسيف الرامية لوقف تجنيد الاطفال ومشاركتهم كمقاتلين في النزاعات المسلحة. ونجحت منظمة اليونيسيف في جمع 3500 طفل يقاتلون في صفوف «الجيش الشعبي لتحرير السودان» في منطقة شمال بحر الغزال وارسلتهم الى معسكرات مؤقتة في المنطقة. تخلص هؤلاء الاطفال من زيهم العسكري الرث ووضعوا بنادقهم وبدأوا في تعلم القراءة والكتابة وممارسة الرياضة في هذه المعسكرات التي توفر لهم يوميا ثلاث وجبات غذائية مع التحصين من بعض الامراض، فيما بدأ العاملون في منظمة اليونيسيف في تحديد اماكن اسرهم. وبدأت عملية اعادة الاطفال الى اسرهم في اغسطس (آب) الماضي ووضعت آخر مجموعة منهم في طائرات النقل الاسبوع الماضي لتوصيلهم الى اقرب مقاطعة الى قراهم، كما يتوقع ان تجري عملية اعادة آلاف منهم العام المقبل. ويقول مارتن دوز، المتحدث باسم منظمة اليونيسيف في جنوب السودان، ان هذه اول مرة تجري فيها عملية تسريح واسعة النطاق للجنود الاطفال تحت ظروف الحرب. وعلق سيدهارث تشاترجي، مسؤول البرنامج الاقليمي لمنظمة اليونيسيف بجنوب السودان، بقوله ان تغيير مفهوم الطفولة وجعل حقوق الاطفال مسألة عالمية يعتبر تحديا كبيرا بارزا. واضاف انه «تحد نجحت منظمة اليونيسيف في تحقيقه في جنوب السودان». وبما ان «الجيش الشعبي لتحرير السودان» مجموعة تمرد وليس حكومة، فليس هناك ما يحمله على الالتزام بميثاق الامم المتحدة الخاص بحقوق الاطفال، غير ان قرار «الجيش الشعبي» يبدو مؤشرا على انه بدأ يخطط للمستقبل بعد حرب اودت بحياة مليوني شخص وشردت اربعة ملايين آخرين. وعلق بول مالوينج، قائد «الجيش الشعبي لتحرير السودان» في منطقة بحر الغزال، قائلا: «ان الجيش الشعبي لا يعيش خارج عالم اليوم».

واضاف مالوينج، «نعلم ان الشخص المتعلم افضل شخص على هذه الارض. بغض النظر عما اذا كان سيصبح جنديا في المستقبل او لم يصبح».

وتجدر الاشارة الى انه في جنوب السودان، على العكس من الدول الافريقية الاخرى، مثل سيراليون او اوغندا، لا تنتشر عمليات اختطاف الاطفال لتجنيدهم او اجبارهم على المشاركة في الحروب، كما لم يسمعوا من قبل عن عمليات تخدير الاطفال او اجبارهم على ارتكاب الفظائع. ويؤكد المتحدث باسم اليونيسيف، مارتن دوز، انه «بالرغم من ذلك فإن انضمامهم للجيش يعني تعرضهم للاستغلال».

وبعض الاطفال في ثكنات مالوينج يتامى، لا يوجد مكان يذهبون اليه. والبعض الآخر انضم من منطلق الرغبة في قتال الخصم، والبعض الاخر «تبرعت» بهم قراهم تلبية لنظام الحصص الذي يفرضه قادة المناطق. وعمل البعض كطهاة وفي غسل الاطباق وحرساً وماسحي احذية في الثكنات. وحمل البعض بنادق سريعة الطلقات من طراز كلاشينكوف واتجهوا الى المعارك واطلقوا نيران اسلحتهم ومارسوا القتل.

ويقول جبريل ماجوك وهو صبي في السادسة عشرة من عمره: «في البداية كنت احمل حقائب واجمع الاخشاب. وبعد اربع سنوات، حصلت على سلاح وكنت اقاتل ضد الاعداء. انا جيد في التصويب. ولكني غير متأكد اذا كنت قتلت شخصا ما ام لا. انا اطلق النار، ولا اعرف من تصيب».

ويقول جبريل الآن انه يود تغيير حياته ولكنه غير متأكد من ان ذلك ممكنا. واضاف وهو ينظر حوله «لا احب الجيش حقا. اريد الذهاب للمدرسة لكي يمكنني ان اصبح.. اي شيء ولكني ما أزال في السنة الاولى ولا اعرف ما يمكن ان يحدث».

ان رفع مستوى التعليم، وجعل التعليم امرا مهما والعثور على موارد للحفاظ على استمراره هو التحدي الحقيقي بالنسبة لجنوب السودان. واذا لم ينجح ذلك، فإن المسؤولين في الامم المتحدة يقدرون ان الاولاد سيحاولون من منطلق الملل وعدم الحماس العودة الى العالم الذي يعرفونه وهو الجيش.

وتحاول اليونيسيف وعدد من المنظمات غير الحكومية المساهمة في الامر. فالبعض تبرع بالكتب. ويجري حاليا الاعداد لبرامج تدريب المدرسين، كما تم بناء مطبعة في منطقة رمبيك القريبة، حيث تتم طباعة الكتب المدرسية. الا ان الامر يرجع الى المجتمع ذاته.

وبعد عودة جبريل بيومين، انضم الى الصبية الآخرين في قريتهم الصغيرة بالقرب من ملوال كون في اول ايام الدراسة. وتتكون المدرسة من ثلاث سبورات معلقة على الاشجار خارج كوخ الكنيسة المحلية. وتستخدم افرع الاشجار كمقاعد. ويستخدم كل فصل دراسة وهو مكون من 40 طالبا، قلمين للجميع، والكراريس عبارة عن اوراق قديمة تولت الامهات تجميعها معا. اما حقائب الغذاء فمصنوعة من اكياس المواد الغذائية الخاصة بالامم المتحدة ـ وهي اما معبأة بالفول السوداني او لا شيء.

الساعة الآن التاسعة صباحا، ولم يأت المدرسون المتطوعون بعد، وقبل حلول الساعة العاشرة يصل الناظر. وعادة ما لا يحضر المدرسون. فهم يعيشون على بعد نصف ساعة سيرا على الأقدام، ولديهم وظائف اخرى. والاكثر من ذلك ان مستوى تعليمهم ضعيف، ولا يوجد حاليا برنامج لإعداد المدرسين. وفي منطقة بحر الغزال ـ التي يصل عدد سكانها الى 750 الف نسمة توجد 51 مدرسة فقط ولا توجد مدارس ثانوية.

* خدمة «كريستيان ساينس مونيتور» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»