النداء الثاني للمطارنة يتشابه بالظروف مع الأول ومطلقوه يريدون إعادة انتشار سياسية ـ سورية

حديث عن «إيحاء أميركي» به ومحاولة لتفكيك الحكم اللبناني

TT

عندما اصدر مجلس المطارنة الموارنة في لبنان «نداءه الاول» في سبتمر (ايلول) من العام 2000، ودعا فيه الى اعادة نشر القوات السورية في لبنان تنفيذاً لـ«اتفاق الطائف»، ابلغ السفير الاميركي في لبنان ديفيد ساترفيلد مسؤولين وسياسيين لبنانيين التقاهم يومذاك ان بلاده كانت من ابرز، بل هي من اوحى الى المعنيين باصداره ولكن ليس بـ«الحدة » التي صدر بها.

والسؤال المطروح الآن بعد صدور النداء الثاني عن مجلس المطارنة نفسه هو هل تكون واشنطن هي من اوحى به هذه المرة ايضاً؟

الظن الغالب لدى الاوساط الرسمية والسياسية اللبنانية هو ان واشنطن هي الموحية او من ابرز الموحين لإصدار هذا النداء لأن الظروف التي صدر فيها مشابهة كثيراً للظروف التي صدر فيها «النداء الاول».

فعندما صدر «النداء الاول» كان لبنان وسورية يعيشان نشوة الانتصار بإندحار قوات الاحتلال الاسرائيلي عن جنوب لبنان وبقاعه الغربي الذي دام 23 عاماً وقد حصل هذا الاندحار في 24 مايو (ايار) 2000، اي قبل اربعة اشهر من صدور هذا «النداء». فيما كانت اسرائيل تعيش حالة الهزيمة والولايات المتحدة الاميركية تواسيها وحتى تتغاضى عن انتهاكها للاتفاقات مع الفلسطينيين وتتجاهل المجازر المرتكبة بحقهم.

ومع صدور «النداء الثاني» كان الوضع الداخلي اللبناني يتجه الى مزيد من التهدئة والانفراج سياسياً تمهيداً لمعالجات اقتصادية ومالية تتمثل بمجموعة من الخطوات في الداخل والخارج (الخصخصة ومؤتمر باريس ـ 2) فيما يبدو لبنان وسورية اكثر ارتياحاً سياسياً على الصعيد الاقليمي بعدما ثبت للجميع ان موقفهما من عملية السلام كان الاكثر واقعية وصحة في ضوء ما تتعرض له هذه العملية من انتهاك وتخريب اسرائيلي. واكثر من ذلك يأتي هذا «النداء» في الوقت الذي تعود فيه دمشق نقطة استقطاب عربية كبرى في ضوء المواقف التي يتخذها الرئيس السوري الدكتور بشار الاسد، اولاً لجهة تأكيد ثوابت الموقف القومي المتمسك بكل الحقوق العربية التي لا يؤمنها إلا السلام الشامل والعادل، وثانياً لجهة سعيه الى تذليل بعض الخلافات العربية ـ العربية بما يؤدي الى قيام تضامن عربي عملي بوقف المجازر الاسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني. ويبدو ان الذين اوحوا لاصدار «النداء» في هذه الظروف يريدون مشاغلة سورية بموضوع وجودها ودورها في لبنان بما يؤثر الرئيس سلباً على توسع دورها وفعاليته في المنطقة، خصوصاً في ظل التوقعات التي تشير الى ان زيارة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات المتوقعة لدمشق في 12 من سبتمبر (ايلول) الحالي ستكون تاريخية بنتائجها على صعيد مستقبل الانتفاضة الفلسطينية خصوصاً ومستقبل عملية السلام برمتها عموماً.

على ان هذا النداء جاء في جانب منه رداً غير مباشر على المواقف التي اطلقها رئيس الجمهورية اميل لحود امام مجلس نقابة محرري الصحافة اللبنانية قبل ايام وكأنه يريد ان يقول، ان لا جدوى من كل هذه المواقف ومن كل ما يتخذ من خطوات ومعالجات سياسية واقتصادية ومالية وان «مكمن الداء الاول والأخير» هو الوجود العسكري والامني السوري في لبنان وان الدواء هو الانسحاب السوري.

ولكن قمة التطرف الذي تميز به هذا «النداء» تمثلت في تلك المقارنة السلبية التي اجراها مطلقوه بين الوجود السوري في لبنان وبين العهد العثماني وعهد المتصرفية وعهد الانتداب الفرنسي، حيث برأ هذه العهود الثلاثة من تدخلاتها المعروفة في الشؤون الداخلية اللبنانية وجرّم الوجود السوري من دون ان يشير الى ان تلك العهود فرضت نفسها على لبنان بالقوة والاحتلال فيما القوات السورية دخلت الى لبنان بناء على طلبه، ليخلصوا الى تأكيد اضافي في «النداء» ان هذا الوجود هو سبب «الوجع» الذي اطلقوا «صرخته» التي تحدثوا عنها.

ومع ان النداء لم يأت على ذكر رئيس الجمهورية اميل لحود بالاسم وحتى بالايحاء، فإن معظم ما احتواه جاء رداً على مواقفه من مواضيع المقاومة وعدم ارسال الجيش الى الجنوب الى العلاقة مع سورية مروراً بالقضايا الداخلية المتنوعة، وعبّر عن تجاهل كأنه متعمد لموقع رئاسة الجمهورية حتى انه لم يشر الى استقبال الرئيس لحود للبطريرك الماروني نصر الله صفير في بيت الدين وتالياً حضوره قداس دير القمر اثناء زيارة المصالحة التي قام بها الاخير الى الشوف وجزين وعاليه.

لكن «النداء» تعاطى بـ «ايجابية» مع رئيس مجلس النواب نبيه بري وكذلك مع رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري، وهي «ايجابية» نظر اليها المعنيون باستغراب، وبعض السياسيين علق عليها معتبراً انها تنطلق من خلفية يريد مجلس المطارنة ان يوحي من خلالها ان كل ما ساقوه في ندائهم هو «موضع اجماع لبناني» على المستويين الشعبي والرسمي. لكن سياسيين آخرين ذهبوا الى التأكيد بأن وراء هذه الايجابية محاولة مقصودة لتفكيك جبهة الحكم اللبناني التي توحدت اخيراً وتوّج وحدتها اعلان الرئيس لحود «ان الخلاف بين اركان الدولة ممنوع». وقد تمثلت محاولة التفكيك هذه بمداراة النداء لبري بالقول ان مبادرته التي اطلقها على باب البطريركية المارونية إثر صدور «النداء الاول» حول موضوع اعادة انتشار القوات السورية واطلاق الموقوفين اللبنانيين من السجون السورية كانت مقبولة ولكنها «خنقت في مهدها» علماً أنه تبين لاحقاً أنه لم تكن هناك مبادرة بمعنى المبادرة وان دمشق عتبت على تصرفه هذا مؤكدة انها لم تكلف احداً القيام بمبادرة باسمها.

كذلك تمثلت المحاولة بالحديث الذي ورد في النداء عن وجود وزراء في الحكومة «مفروضين على رئيسهم المجبر على التعاون معهم على كره منه». وطاولت محاولة التفكيك مجلس النواب عبر الحديث عن «نواب يتجاهلون الشعب والشعب يتجاهلهم، وهم يدينون بالولاء لمن اقعدهم في مقاعدهم» وذلك بغية الايقاع وزرع بذور الشك بين النواب وممثليهم.

والواقع ان نداء المطارنة الموارنة لم يعترف فعلياً بحصول اعادة الانتشار العسكرية السورية التي تمت من غالبية مناطق بيروت وجبل لبنان في وقت سابق من السنة الحالية تنفيذاً لـ«اتفاق الطائف» لانهم يريدون ان تكون اعادة انتشار سياسية ايضاً وهذا ما عبروا عنه بمطالبتهم بالانسحاب السوري الكامل من لبنان. وتحذير السوريين من دون ان يسموهم، من انتقال «العدوى» اليهم عبر القول: «اذا زال لبنان فالذين يطمعون بابتلاعه لن يكونوا سعداء، لا بل سيكونون هم الخاسرين، ولن يخسروا ما يجنونه من فوائد منه مادية ومعنوية فقط، بل ستنتقل العدوى اليهم وهذا ما لا نتمناه لهم».

واكثر من ذلك فإن المطارنة الموارنة، في استخدامهم اسلوب «نداء اول» و«نداء ثان» يحاولون ان يوحوا انهم يقودون «انتفاضة» على الوجود السوري في لبنان، مما يعني ان ما بدأوه في سبتمبر (ايلول) 2000 لن ينتهي في هذا الـ«سبتمبر»، اذا جاز التعبير، لانهم مستمرون في تلقي الايحاءات الخارجية التي يدعمونها بـ «نداءات» محكمة الصياغة والمتضمنة بعض المعطيات حول مسائل، يعترف الجميع لبنانيين وسوريين بوقوع اخطاء فيها كما يعترفون بوجود فاسدين ومفسدين يسيئون الى العلاقة اللبنانية السورية، لكن، هذه النداءات تطرح علامات استفهام حول ابعادها وخلفياتها في ظل مشروع اقليمي يعمل عليه ويخشى اذا نجح ان يأتي على حساب خيار لبنان وسورية في السلام الشامل والعادل.