«الشرق الأوسط» ترصد تداعيات أزمة الثلاثاء الأسود داخل مدينة بورسعيد

الميناء المصري يتحول إلى مدينة أشباح بعد أعمال العنف الناجمة عن رفع أسعار الجمارك

TT

في اسبوع واحد تغيرت ملامح مدينة بورسعيد على نحو لم تعرفه منذ أكثر من ربع قرن، وتحولت الى مدينة أشباح، تكاد تكون واقعة تحت الحصار الأمني منعاً لأية مفاجآت، وتعالت شائعات عن اعلان مرتقب لقرب فرض حظر التجوال بالمدينة، وتهديدات بتنفيذ اعتصامات واضرابات وذلك بعد تطبيق اللائحة الجديدة التي رفعت أسعار الجمارك على الملابس بنسبة كبيرة جداً تصل الى 1140 جنيها للبدلة الرجالي، ومثلها للفستان النسائي، و800 جنيه لملابس الاولاد والبنات. ملامح كثيرة ومشاهد حزينة تعيشها المدينة منذ (الثلاثاء الاسود) حسبما يسميه أهالي بورسعيد، والذي صادف أول أيام العام الجديد بعد الاعلان المفاجئ عن فرض التعريفة الجمركية الجديدة التي حولت مدينة الحركة والضوضاء والتجارة الى مدينة صامتة وأصبحت شوارع المدينة التي يصل عدد سكانها الى 472 الف نسمة خالية واغلقت المحلات وتكدست المقاهي بمن فقدوا أعمالهم وتجارتهم التي كانت تمثل نحو 90 في المائة من حجم العمل بداخلها، وزاد الموقف صعوبة الطقس الشتوي السيئ الذي تشهده المدينة من برد قارس وأمطار مستمرة. المشهد في أسواق بورسعيد كان سوداوياً، فالمحال مغلقة والصمت يخيم على الشوارع والحارات التي كانت كخلايا النحل قبل بدء تطبيق التعريفة الجديدة. ويقول أحد الباعة كانت حصيلة البيع في اليوم الواحد لأصغر محل في بورسعيد أكثر من 500 جنيه، أما الآن فالبيع بالخسارة حتى ان بعض أصحاب المحلات اغلقوا محلاتهم وعرضوها للبيع خوفاً من استمرار نزيف الأموال، ويشير آخر الى احتمالات تعرض العديد من التجار للسجن لحصولهم على قروض من البنوك لتمويل صفقاتهم، والذين اضطروا أمام الأزمة الحالية الى اعادة تصدير البضاعة مرة أخرى للبلاد التي استوردوها منها، كما حاول بعضهم البحث عن منافذ أخرى للبيع عن طريق ليبيا، ولاشك ان في هذا خسارة فادحة سواء للتجار أو للخزانة العامة للدولة التي كانت تستفيد من حصيلة الجمارك عبر منفذ بورسعيد. احمد اسماعيل (26 سنة) بائع بأحد محال السوق التجاري يقول «أعمل في هذا المحل منذ اكثر من 15 سنة ولا أجيد مهنة سوى البيع والشراء، وبعد تطبيق التعريفة الجديدة خفض صاحب المحل راتبي الى النصف تقريباً وأنا اعذره في ذلك ولكن اذا استمر الوضع هكذا فلا أعرف ماذا سأفعل، قيل ان الدولة ستوفر مشروعات صناعية وزراعية لنعمل فيها، وأنا اسأل كيف يمكن للتجار ان يتحولوا بين يوم وليلة الى مزارعين أو حرفيين، واذا حدث ذلك فكم سيكون الراتب في ظل الازمة التي يعيشها البلد؟». أسئلة احمد اسماعيل تكررت على ألسنة العديد من الباعة الذين وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع البطالة التي لا ترحم، ويقول حسين ضاحي (شارع الثلاثين): «اذا كانت الحكومة جادة في حل أزمتنا فلتظهر لنا حسن نياتها أو لتأمر فوراً بصرف إعانة بطالة لابناء بورسعيد الذين أصبحوا في الشوارع بعد القرارات الأخيرة». ويقول سعيد السيطي (موظف 40 سنة) ان أضرار هذه القرارات لن تلحق بالتجار من أبناء بورسعيد فقط، بل ستصيب جميع أبناء المدينة كأصحاب المطاعم وسائقي التاكسيات واصحاب المقاهي والكازينوهات، فهؤلاء كانوا يستفيدون من زوار المدينة، ولكن أين هم زوار المدينة بعد القرارات الأخيرة؟

وقال عضو البرلمان المصري عن مدينة بورسعيد البدري فرغلي ممثل حزب التجمع اليساري ان الحكومة ارتكبت خطأ جسيماً بهذا التطبيق الفوري للتعريفة الجمركية من دون أن تضع خطة تمهيدية مسبقة على مدار السنوات الخمس الماضية منذ توقيع اتفاقية الجات بتهيئة الوضع العام داخل بورسعيد على النحو الذي يستوعب تنفيذ هذه القرارات وقت تطبيقها. وأضاف ان بورسعيد فقدت الحياة تقريباً خلال الايام الماضية من جراء هذا الموقف غير المدروس وفقدت الداعم الأساسي لها بعد توقف الزوار عن الحضور إليها وهم يمثلون عصب التجارة في هذا البلد الذي يعمل أكثر من 75 في المائة من ابنائه بالتجارة مما جعل الاقتصاد في المدينة تحت الصفر تقريباً. وأكد فرغلي ان بعض التجار أغلقوا محلاتهم تماماً وتوقفوا عن العمل لأن الاغلاق في هذه الحالة يكون أقل ضرراً لان النفقات التي ترافق العمل لم تعد قابلة للتعويض بسبب توقف حركة البيع تماماً. وأكد ان الحكومة ادعت انها تخطط لإلغاء المنطقة الحرة خلال خمسة أعوام وهذا أمر غير صحيح لانها مع تنفيذ هذه القرارات ورفع الحظر على الاستيراد تكون قد نفذت عملياً قرار إلغاء المنطقة لانه من المفروض ان يظل الحظر موجوداً في ظل ان الخطة تستهدف تقليص حجم الاستيراد بالنسب السنوية المتصاعدة التي اعلنت عنها الدولة. وأشار الى ان الدولة كان عليها اقامة بعض المشروعات الصناعية والزراعية وتشغيل أبناء البلد في الوظائف المحرومين منها لامتصاص حجم البطالة التي ستخلفها نتائج هذه القرارات، لافتاً الى ان تشجيع تحويل المدينة من شكلها التجاري الى الصناعي لا بد ان يتبعه منح بعض الامتيازات ومنح القروض. ودلل فرغلي على بعض اخطاء الحكومة في سرعة تنفيذ قرارات التعريفة الجمركية ثم إدخال بعض التعديلات غير المجدية عليها بأن مرحلة التطبيق الفعلي داخل الجمارك لم تأخذ الشكل المناسب لان منفذي القرارات لا يعلمون شيئاً عنها وغير قادرين على التصرف حيالها مما جعل مرحلة التطبيق عشوائية وغير مدروسة في ظل ملابسات كثيرة حول تفاصيل عملية التطبيق. وأوضح عضو البرلمان المصري ان هناك اتهامات قاسية لبورسعيد بأنها شجعت التهريب وهددت الاقتصاد القومي رغم ان حجم استيراد بورسعيد يقدر بـ200 مليون دولار مما يعني ان استيراد بورسعيد لا يمثل سوى 2.5 في المائة من الحجم الكلي وهذا خير دليل على كذب هذه الادعاءات. وينتقد الدكتور اكرم الشاعر أحد نواب بورسعيد الستة وعضو جماعة الاخوان المسلمون المحظورة القرار الخاص بالتعريفة الجمركية الجديدة، مؤكداً انه يخالف أبسط القواعد الاقتصادية ولم يأخذ في الاعتبار الآثار السلبية التي سيتحملها أبناء المدينة وحدهم مع بدء العمل به، مشيراً الى ان موجات الغضب اندفعت في شوارع المدينة في صورة مظاهرات تندد بالقرار وتطالب المحافظ بالتدخل لإلغائه، ويوضح ان محافظ بورسعيد كان متفهماً للأزمة ولم يشأ اقحام قوات الأمن في القضية خوفاً من تطور الأحداث، وفي اعقاب مظاهرات اليوم الاول عقد الاجتماع الذي ضم نواب بورسعيد الستة مع وزراء المجموعة الاقتصادية وبحضور المحافظ وممثلي الغرفة التجارية ببورسعيد، وانتهى الاجتماع الى اعفاء ملابس الاستعمال الشخصي من الجمارك وتحويل المدينة الحرة خلال خمس سنوات الى مدينة صناعية زراعية بالتزامن مع خطة تخفيض استيراد الملابس الجاهزة، وعدنا من القاهرة حاملين البشرى لابناء بورسعيد الذين استقبلونا استقبال الفاتحين إلا اننا فوجئنا في اليوم التالي بأن مأموري الجمارك يحصلون ما قيمته 10 في المائة (ضريبة مبيعات) على ملابس الاستعمال الشخصي التي سبق وان أعفيت من الجمارك، كما انهم يحرمون الصبية غير البالغين حتى لو كانوا بصحبة آبائهم من التمتع بالإعفاء المقرر، وكان ذلك على عكس ما تم الاتفاق عليه مع الوزراء، فانفجرت الأوضاع مرة أخرى وأغلق التجار محالهم وتظاهروا أمام مقر المحافظة مطالبين بإلغاء تحصيل ضريبة المبيعات عند المنافذ الجمركية. ويطالب الشاعر بمعاملة البضائع الخارجة من بورسعيد معاملة البضاعة الواردة من الخارج عبر المنافذ البرية أو الجوية في ما يتعلق بتسديد ضريبة الجمارك، مشيراً الى ان استمرار الوضع على ماهو عليه سيحدث كارثة اقتصادية وسيشرد آلاف التجار من ابناء بورسعيد، ويستبعد الشاعر نجاح تجربة تحويل بورسعيد الى مدينة صناعية أو زراعية، موضحاً ان ذلك يحتاج الى استثمارات ضخمة وسنوات عديدة وليس خلال عام أو عامين كما قال رئيس الوزراء. ويعترف نبيل فوزي رئيس قطاع الجمارك بمدينة بورسعيد بتراجع حصيلة الجمارك بصورة ملحوظة عقب تطبيق التعريفة الجمركية الجديدة، مشيراً الى ان تطبيق التعريفة بصورة مفاجئة أحدث ارتباكاً عند المنافذ الجمركية، لدرجة ان بعض المغادرين للمدينة وبحوزتهم ملابس تم شراؤها من المنطقة الحرة اضطروا لإعادتها للتجار خوفاً من تسديد الرسوم المقررة. واضاف ان الاتفاق الذي توصل إليه محافظ بورسعيد وممثلو الغرفة التجارية وأعضاء مجلس الشعب «البرلمان» مع رئيس الوزراء ووزراء المجموعة الاقتصادية والذي يقضي باعفاء الملابس للاستخدام الشخصي بواقع ست قطع ملابس للفرد سنوياً احدث انفراجة نسبية في حصيلة الجمارك، إلا انها مازالت أقل بكثير من متوسط الحصيلة الذي كان قبل تطبيق التعريفة الجديدة نحو 15 مليون جنيه شهرياً إذ لم يتجاوز ايراد المنافذ خلال الاسبوع الماضي 3 آلاف جنيه. وقال رئيس المنطقة الحرة ببورسعيد ماهر خليل ان نظام المناطق الحرة موجه للتصدير بالكامل ولم يتأثر بأي أحداث سابقة سواء في 11 سبتمبر (ايلول) الماضي أو في الاحداث الأخيرة، والصادرات لم تقل في 2001 عما كانت عليه في 2000 ورغم اننا لا نعرف كيف سيكون الوضع المستقبلي لكن ربما يكون من المحتمل حدوث تراجع عما كان عليه. وأرجع خليل تبعة الأزمة البورسعيدية الى عدم تقديم الوعي الكافي للمواطنين بشأن تحولات الوضع مما احدث هذه الصدمة التي طالت معظم التجار في سوق الملابس الجاهزة خاصة صغار التجار الذين يصل عددهم الى 10 آلاف تاجر، مشيراً الى ان السرعة في التطبيق بدون توعية رغم ان هناك موعداً سابقاً محدداً لذلك قد تحول قطاعا كبيرا الى عاطلين. واقترح رئيس المنطقة الحرة ان يتوقف تنفيذ هذه القرارات لفترة معينة حتى يتمكن التجار من تصريف بضاعتهم التي تقدر بملايين من الجنيهات والتي اصبحت نقمة عليهم ولم يعد امامهم سبل للتخلص منها بسبب انعدام الاقبال على الشراء بسبب الاجراءات الجديدة، وفي ظل تراجع الاستيراد فهم لن يقدموا على استيراد أية بضاعة جديدة بما سيتفق مع الاجراءات، مشيراً الى انه من الصعب ان يعود هؤلاء المواطنون الى مهنهم القديمة التي تركوها منذ أكثر من ربع قرن. وفي منافذ بورسعيد الجمركية لا يقل الوضع عما هو داخل هذه المدينة، فأصبحت المنافذ متوقفة تماماً عن العمل وخاوية تماماً من عبور الزوار، وبدا ان الوضع مأساوي الى حد كبير. وسألنا أحد رجال الجمارك عما اصبح عليه العمل داخل المنافذ فقال: «ان الوضع يبدو لنا غير مألوف تماماً فنحن نعمل في ثلاث ورديات على مدار اليوم الكامل ومحصلة الجمارك في الأعياد والمواسم كان تصل في الوردية الواحدة الى نحو 40 الف جنيه أي ان حصيلة اليوم كانت تصل الى ما يقرب من 120 الف جنيه أو أقل بنسبة بسيطة». وأضاف «وكانت حصيلة الرسوم الجمركية خلال الايام العادية تصل الى 30 الف جنيه لكنها أصبحت الآن شيئاً لايصدق فربما لاتزيد على 300 جنيه فقط».