تسريب واشنطن تقرير «إعادة تقويم الوضع النووي» جزء من حملة الردع الأميركية النفسية للدول «المارقة»

وزارة الدفاع الأميركية تلوح للمرة الأولى باحتمال استعمال السلاح النووي ضد دول لا تملكه

TT

كان الغرض الاساسي من الاسلحة النووية الاميركية خلال حقبة الحرب الباردة واضحا ومحددا وهو ردع أي هجوم محتمل من الاتحاد السوفياتي السابق الذي كان يمثل القوة النووية المنافسة.

بيد ان اكثر المخاطر التي تتهدد الامن الاميركي في الوقت الراهن ليست صادرة عن قوة نووية وانما عن افراد مثل اسامة بن لادن ودول مثل العراق. وطبقا للاستراتيجية النووية الجديدة لوزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون)، التي وردت في تقرير سري نشر الاسبوع الماضي، فإن الولايات المتحدة تعتزم اعادة استخدام الاسلحة الذرية مرة اخرى كتهديد ضد عدد من الدول التي تعتبرها معادية لها. ويقترح التقرير، الذي اطلق عليه «اعادة تقويم الوضع النووي»، صنع اسلحة ذرية لا تهدف في الاساس الى تدمير الترسانات النووية لروسيا والصين وانما لمهاجمة نقاط القيادة تحت الارض ومنشآت الاسلحة البيولوجية. فقد كتب دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي، ان الغرض الاساسي يتركز في توفير عدة خيارات امام الرئيس بوش لهزيمة أي جهة معتدية.

بيد ان الدراسة اثارت انتقادات قوية وسط الخبراء النوويين في عدة دول، اذ برزت عدة اسئلة من ضمنها: هل يجب ان تستخدم الولايات المتحدة اسلحة نووية ضد قوى غير نووية؟ هل تعني الاستراتيجية الجديدة ان تستخدم الولايات المتحدة ـ او أي قوة نووية اخرى مثل الصين والهند وباكستان ـ الاسلحة الذرية في أي ازمة محتملة؟ ثم، هل ثمة من يعرف ما اذا ستنجح الاسلحة الكيماوية في ردع الارهابيين او الحكام المستبدين؟

وقال هانز بينندايك، الخبير النووي بالجامعة الوطنية للدفاع التابعة للبنتاغون، ان الولايات المتحدة كانت تعتقد ان بوسعها ردع الاتحاد السوفياتي لأنه كان يجب عليه حماية عدد كبير من السكان الذين كانوا يقطنون جمهورياته بالاضافة الى موارده المتعددة. ويعتقد بينندايك انه غير متأكد ما اذا كان لهذه النظرية جدوى الآن، ذلك ان الدول المشبوهة والافراد الذين لا ينتمون لدولة محددة مثل الارهابيين ليس لديهم الكثير مما يخسرونه ـ طبقا لوجهة نظره.

ويقر مسؤولو ادارة الرئيس بوش بصعوبة ردع الهجمات التي يشنها ارهابيون او دول مشبوهة، لكنهم اشاروا الى ان تركيز التقرير الاخير على هذا النوع من الاسلحة النووية الغرض منه جعل هذا النوع من الردع امرا ممكنا وليس تسهيل اندلاع حرب نووية.

وقال مساعد لمستشارة الامن القومي الاميركية كوندوليزا رايس خلال لقاء تلفزيوني اجري معه في الآونة الاخيرة ان الجميع يرغب في تقليل احتمالات اللجوء الى استخدام اسلحة الدمار الشامل، مشيرا الى ان السبيل الى ذلك يتمثل في بعث رسالة قوية الى أي جهة من المحتمل ان تستخدم اسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة فحواها انها ستقابل برد مدمر ورادع. بيد ان عددا من الليبراليين الذين انتقدوا نهج الادارة الاميركية الجديد في ما يتعلق بهذا الموضوع يرون انه ينذر بمخاطر، فقد قال جوزيف سيرينيسيون، الخبير النووي بمؤسسة كارنيج للسلام العالمي، ان هذه السياسة محفوفة بالمخاطر، متسائلا عن موقف الولايات المتحدة في حالة تبني الدول الاخرى، غير تلك التي تعتبرها الولايات المتحدة «دولا مارقة»، لنفس السياسة. وتساءل كذلك: «ماذا سيكون موقف الولايات المتحدة اذا طورت الهند اسلحة نووية بغرض تعقب الارهابيين في جبال الهملايا؟ هل ستشعر الولايات المتحدة بالامان؟» مسؤولو الادارة الاميركية قالوا من جانبهم ان السياسية الجديدة، التي لا تزال قيد الاعداد، ليست مخصصة في الاساس للتعامل مع الارهابيين وانما لردع خطر الاسلحة البيولوجية، وقال احد المسؤولين انه اذا عمد نظام معاد للولايات المتحدة الى شن هجوم عليها بمادة كيماوية نشطة مثل فيروس الجدري، فان عدد الضحايا يمكن ان يكون مساويا لضحايا هجوم بالاسلحة النووية.

وقال مسؤول كبير: «لان المعلومات عن الاسلحة البيولوجية وافرة جدا يتوجب علينا ان نعمل على ردع من ينوي استخدامها. واحدى وسائل ردعهم هي الاعلان بوضوح انك لا تستبعد أي خيار من الخيارات».

وعلى هذا الاساس فان تصنيع اسلحة ذرية جديدة، لاستخدامها ضد الدول الاصغر، لا يعزز من احتمالات استخدامها، بل على العكس فانه يضعف هذه الاحتمالات لانه يعتبر رادعا لأي جهة تنوي تنفيذ هجمات ضد الولايات المتحدة. ويستخدم نفس هذا المنطق من قبل البنتاغون، لتصنيع اسلحة جديدة، تكون قادرة على «اختراق الارض» وتدمير الانفاق والمستودعات المقامة تحتها، مثل تلك التي استخدمها اسامة بن لادن في افغانستان.

ويقول بينندايك: « لو اننا خضنا حربا تقليدية في مواجهة احد البلدان ولجأ ذلك البلد الى استخدام الاسلحة البيولوجية ضد قواتنا او ضد بلادنا، فانني اتصور ان الرئيس الاميركي سيستخدم، حينذاك، هذه الاسلحة انتقاما من قادة تلك الدول. واذا اصبح ذلك خطرا واقعيا، أي اذا عرف قادة تلك الدول ان مثل هذا الخطر موجود بالفعل، فان هذا سيلعب دور الرادع في هذه الحالة». ولكن المعارضين لا يوافقون على هذه الحجة.ويقول سيرينسيون: «استطاعت الادارة ان تمحو الخط الفاصل بين الاسلحة الذرية والاسلحة البيولوجية والكيماوية. وهي تتحدث عن اسلحة الدمار الشامل وكأنما غاز الاعصاب مساو لقنبلة ذرية يمكن ان تدمر مدينة بأكملها. هذا ببساطة ليس صحيحا. وقد كانت الولايات المتحدة تقول للدول انها لن تهاجمها باسلحتها النووية اذا لم تقتن هي مثل تلك الاسلحة. ولكن هذه الادارة تخلت عن هذه السياسة. ولا يوجد سبب واحد حاليا يغري هذه الدول بالامتناع عن محاولات السعي للحصول على الاسلحة النووية».

خلال نصف القرن المنصرم، فكر الاستراتيجيون العسكريون الاميركيون، عدة مرات، في استخدام الاسلحة النووية ولكنهم صرفوا النظر عن هذا الخيار في جميع الحالات. فخلال حقبة الحرب الباردة، فكر مسؤولو البنتاغون في استخدام الاسلحة النووية ضد القوات الشيوعية في الصين وكوريا الشمالية وفيتنام الشمالية. ثم وضعت الولايات المتحدة الالاف من قذائف المدفعية النووية، وغيرها من الاسلحة النووية التكتيكية، لاستخدامها ضد الاتحاد السوفيتي في حالة قيامه بهجوم بري على اوروبا الغربية.

في عام 1991 حذر الرئيس بوش (الاب) من انه سيستخدم الاسلحة النووية اذا لجأ الرئيس صدام حسين الى استخدام الاسلحة الكيماوية ضد القوات الاميركية. ولكن بوش اعترف في ما بعد انه لم يكن ينوي استخدام تلك الاسلحة. وفي عام 1996، في عهد رئاسة كلينتون، كرر وزير الدفاع الاميركي وليام بيرسي ذلك التهديد، عندما قال ان اي دولة تستخدم الاسلحة الكيماوية «يجب ان تحسب حساب اننا يمكن ان نستخدم ضدها كل الاسلحة التي بحوزتنا».

وقال احد المسؤولين ان ادارة بوش لم تفعل سوى مواصلة تلك السياسات، ولكنها دعمتها بالبحث عن اسلحة جديدة حتى تجعلها اكثر فعالية. ولم يبد على المسؤولين بالادارة الاميركية انهم انزعجوا من تسريب تقرير «اعادة تقويم الوضع النووي» مع ان ذلك التقرير كان سريا في البداية. وقال بعضهم ان نقاشا قوميا حول الاسلحة النووية يمكن ان يكون ظاهرة صحية. ولكنهم لم يكونوا راضين عن كون الصحف التي تعرضت للتقرير ركزت فقط على الدول السبع التي تعتبر اهدافا لاستخدام الاسلحة النووية، اي روسيا والصين وكوريا الشمالية وايران والعراق وسورية وليبيا.

وقد قال مسؤول كبير في الادارة الاميركية: «الشيء الاساسي الذي نريد ان نفعله هو تخفيض درجة اعتمادنا على الاسلحة النووية. ولا يقتصر التقرير المشار اليه على النظم النووية وحدها. بل يقول تحديدا اننا يجب ان نزيد اعتمادنا على الاسلحة التقليدية وعلى النظم الدفاعية».

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»