شهود عيان: الجنود الإسرائيليون دمروا بروح انتقامية المساكن والدكاكين الصغيرة والنصب التذكارية في بيت لحم

TT

عندما طرق الجنود الإسرائيليون بقوة ابواب كنيسة الميلاد اللوثرية ومجمع المركز العالمي، وجد الاب ميتري راهب، راعي الابرشية والعالم المعروف في علوم اللاهوت، نفسه في مواجهة موقف عصيب يواجهه الفلسطينيون كل يوم وهو: اما ان يخرج للتحدث الى الجنود والمخاطرة بتعرضه للاعتقال، او، وهذا اسوأ من ذاك، ان يبقى مختبئا مع اسرته ويسمح للجنود بنهب مكتبه. ولكن الاب ميتري لجأ الى ما سماه «مخاطرة محسوبة»، فخرج ليجد الجنود يطرقون الابواب بعنف شديد. وقد صرخ فيهم بالعبرية اولا، ثم بالانجليزية: «معي كل المفاتيح. يمكنكم ان تطلبوا مني فتح الابواب بصورة مهذبة وسأفتح كل الابواب».

وبدلا من الاصغاء له سدد الجنود ضرباتهم العنيفة لـ 31 بابا وحطموا 57 نافذة في المجمع ذي الطوابق الثلاثة، وهم يبحثون عن المقاتلين والاسلحة. وفي احد المكاتب خربوا الكومبيوتر، وحطموا الثلاجة ونوافذ ورشة للسيراميك ودكانا للهدايا، وخلفوا وراءهم ثقوبا بارزة من طلقات رصاصهم.

قال راهب، الذي تلقى تعليمه في المانيا وهو من سكان بيت لحم «لم يكونوا يبحثون عن الناس او عن السلاح. بل هم يكرهون رؤية اية علامة على الحياة في مدينتنا. انهم يريدون ان يرونا دائما في موقف المسحوقين. ولا يريدون ان يعتبرونا اندادا لهم. انها قوة الشر التي ترغب في الانتقام. لقد جاءوا الى هنا وكان هدفهم تدمير اكبر عدد من الاشياء».

وقد اصبح حجم الدمار في بيت لحم واضحا اول من امس عندما سمح للصحافيين بأن يتجولوا في انحاء المدينة، التي اعلنتها اسرائيل منطقة عسكرية مقفولة حتى بداية ساحة المهد. وكان حوالي 200 من الفلسطينيين، ومن ضمنهم مسلحون، و60 من القساوسة، قد اعتصموا بكنيسة المهد المجاورة حيث ولد المسيح، كما يقال.

وقال الفلسطينيون داخل الكنيسة ان القتال اندلع حول منطقة الكنيسة صباح الاثنين من الاسبوع الماضي، مما ادى الى اشعال النار في مكتب البطريرك اللاتيني الذي يفصله عن الكنيسة حائط لا غير. وقال الفلسطينيون ان النار ظلت مشتعلة لمدة 30 دقيقة قبل ان يسمح الاسرائيليون لسيارات الاطفاء بالوصول الى المكان. وقيل ايضا ان شرطيا فلسطينيا قتل بطلقة من قناص اسرائيلي. وكانت بيت لحم قد زينت في احتفالات الالفية بأموال جمعت عن طريق التبرعات وصلت الى 200 مليون دولار. ولكنها تمتلئ الان بالمحال التي حطمت نوافذها وأبوابها. وقد حطمت السيارات بواسطة الدبابات وكسر زجاجها. ومساء السبت الماضي حطم الاسرائيليون 9 سيارات على الاقل، كانت واقفة في سوق المزارعين. وقد ادى الانفجار الى تحطيم سقف بناية السوق، وامتدت النار المشتعلة لتحرق بعض المحال التجارية المجاورة. وكانت المنطقة ما تزال تشتعل اول من امس. اما الاسرائيليون فيقولون ان الفلسطينيين فخخوا السيارات حتى تنفجر عندما يمر الجنود. وهناك نصب حجري الماني، شيد بمناسبة احتفالات الالفية، تحول الان الى حطام. ويقول السكان ان دبابة قد سوته بالارض. وحطمت الدبابات وحاملات الجنود كذلك ارصفة الشوارع ومواسير المياه المفتوحة مما اغرق الشوارع بالمياه.

وظهرت امرأة طاعنة في السن، تصرخ وهي تقول: «كل هذا الدمار؟ هؤلاء الناس لا يخافون الله».

المهندس وليام حزبون، 47 سنة، يدير ورشة للادوات المنزلية مجاورة لسوق المزارعين، قال انه عندما دخلت القوات الاسرائيلية الى بيت لحم عام 1967 اثناء الحرب، كان هناك تدمير طفيف ولم تطلق طلقة واحدة «لم يحدث شيء عام .1967 وقد جاءوا الى المدينة على ارجلهم». اما طلال حمدان فقد انهار سقف محله عندما اصيب بقذيفة من دبابة، وقال: «فقدت بضائع قيمتها 60 الف شيكل أي حوالي 13 الف دولار».

وورث رائد جابر دكانا صغيرا للاقمشة من والده، وهو يعيش بمدينة الخليل، حوالي 12 ميلا جنوب بيت لحم، ولكنه حوصر وهو داخل دكانه لمدة خمسة ايام ومعه ثلاثة اخرون بسبب حظر التجول الذي فرضه الاسرائيليون، قال عن الاعمال التي قام بها الاسرائيليون: «هذه اعمال انتقامية بحتة. ان هدفهم هو تدمير حياة الفلسطينيين وممتلكاتهم، ولكننا لن نغادر ديارنا. اننا باقون هنا».

وصرح الكابتن جاكوب دلال، الناطق باسم الجيش الاسرائيلى، ان الاوامر التي صدرت للجنود هي ان يخفضوا الى اقصى درجة التخريب الذي يمكن ان يحدث لممتلكات المدنيين. واضاف: «ولكن كمية معينة من الدمار يجب ان تحدث. فأنت تتعامل مع حرب تدور وسط المدنيين، وهذه مسالة صعبة جدا. ليست هناك اية امكانية ألا يحدث بعض الدمار».

وقالت جيسيكا مونتيل، المديرة التنفيذية لجمعية حقوق الانسان الاسرائيلية «بيت ساليم»، ان تدمير الممتلكات يعد جريمة خطيرة، وقد زاد الامر سوءا ان الجنود الاسرائيليين في المناطق الفلسطينية يتصرفون كيفما يريدون بدون اية مسؤولية او محاسبة. واضافت «ليست هناك اية مسؤولية، ليست هناك اية محاسبة او تحقيق. ان الامر يشبه حالة اطفال لا يشرف عليهم احد وقد اصابهم الجنون. وهؤلاء ليس لديهم ادنى شعور بأنهم يتعاملون مع بشر مثلهم، بل هم في الواقع ضحاياهم. من الصعب جدا ان تجد تبريرا امنيا لاعمال النهب والتدمير المتعمد». ويقول الفلسطينيون انه بالاضافة الى التخريب والتدمير، كانت هناك اعمال قصد بها اهانة الشعب الفلسطيني وتمريغ كرامته في التراب من قبل القوات الاسرائيلية، وان ذلك حدث رغم النداء الذي اصدره الرئيس الأميركي جورج بوش الخميس الماضي حاثا على التصرف «بتعاطف ورحمة، وبحرص على كرامة الشعب الفلسطيني». وقال راهب ان بعض الاسرائيليين سمعوه يتحدث اللغة العربية في محادثة هاتفية، فقالوا: «ايها العربي القذر، لماذا تتحدث العربية؟ انها لغة قذرة».

وقال ماهر ابو عكر انه حجز لمدة 24 ساعة من قبل القوات الاسرائيلية وعصبت عيناه وقيدت يداه بعنف. وقال انه لم يتناول طعاما لمدة 24 ساعة وكان يشارك 35 آخرين في غرفة واحدة صغيرة وانهم جميعا كانوا ينامون على الارض. وقال ان جنديا احضر بعض الاغطية للوقاية من البرد، ولكنه بللها بالماء حتى لا يتمكن احد من استخدامها. وقال ابو عكر: «حينما ابتلت البطانيات لم يعد بمقدورنا استخدامها». وقد وضعناها جانبا وتركناها هناك «وواصلنا نومنا». وأضاف ابو عكر، الذي يعمل في ورشة يملكها والده، انه امر بترداد شعارات بذيئة بحق الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ولكنه رفض ذلك. وقال انه صفع على وجهه وضرب على رجليه اثناء التحقيق معه. وقال انه اطلق سراحه بعد ذلك لانه لم يشترك مطلقا في أي قتال ولم يتدرب على استخدام أي سلاح. وقال: «انني اهنت اهانة بالغة. ولم اكن لأشعر بهذا الغبن لو كنت مقاتلا. اعتقلوني مرة او مرتين في الماضي. ويبدو انهم لا يتعلمون شيئا بل يواصلون ما كانوا يعملون بدون تفكير. ونحن معنا شخصيات هامة، اطباء وغير ذلك، وقد تعرض هؤلاء جميعا الى نفس المعاملة».

وتقدمت مجموعة «بيت ساليم» لحقوق الانسان بشكوى للمحكمة العليا، لاستصدار امر يسمح للمعتقلين الفلسطينيين بمقابلة محاميهم ولانهاء التعذيب الذي يتعرضون له حاليا. وقد انضمت ثلاث مجموعات حقوق انسان اخرى لـ«بيت ساليم»، وقالت هذه المجموعات ان المعتقلين الفلسطينيين بمعسكر «اوفر» الاسرائيلي قلعت اظافرهم اثناء التحقيق. ولكن المحكمة العليا رفضت الشكوى قائلة ان مزاعم التعذيب لا يمكن اثباتها، لانها جاءت على درجة كبيرة من العمومية، ولأنه لا يوجد شهود عيان فلسطينيون لاثباتها. ومن جانب اخر اصدر الجيش الاسرائيلي اخيرا امرا يسمح للقوات الاسرائيلية باعتقال الفلسطينيين لمدة 18 يوما بدون السماح لهم بمقابلة المحامين. ولكن اسرائيل نفت ان تكون قد لجأت الى التعذيب في معتقلاتها.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»