عرفات يدخل على خط المواجهة بين تياري الحكم في إيران

الإصلاحيون يتصدون لحملة المحافظين باعتبار الرئيس الفلسطيني ضالعاً في «مؤامرة أميركية ـ صهيونية» لتلميعه وإنجاز التسوية بالشروط الإسرائيلية

TT

وجه عدد من ابرز الكتاب والبرلمانيين الاصلاحيين في ايران انتقادات قوية الى ممثل الولي الفقيه ومدير مؤسسة «كيهان»، اكبر مؤسسة صحافية ايرانية، حسين شريعة مداري المعروف بمناهضته الشديدة للرئيس محمد خاتمي والإصلاحيين. ولم تكن الانتقادات هذه المرة بسبب موقف «كيهان» ضد خاتمي او احد رجاله، بل ان حملات شريعة مداري في الأيام الاخيرة ضد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ومبادرة السلام العربية التي اقرتها قمة بيروت استناداً الى مشروع ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز، هي التي اثارت ضد «كيهان» ومديرها موجة من الانتقادات داخل البرلمان والأوساط الحكومية الى جانب الشارع المتحمس لعرفات.

واستناداً الى مسؤول في وزارة الإرشاد الايرانية فان توزيع كيهان هبط بشكل مثير منذ الاسبوع الماضي بعد ان اتهمت الصحيفة عرفات بالخيانة ووصفت ما يدور حول مقر الرئيس الفلسطيني في رام الله بأن جزء من سيناريو صهيوني اميركي هدفه اعادة الاعتبار الى ياسر عرفات وابرازه كقائد مناضل لكي يتم بعد ذلك التوقيع على اتفاقية سلام مخزية معه.

وليس سراً في ايران ان مرشد النظام آية الله علي خامنئي لا يكن وداً للرئيس الفلسطيني. والكلمات وعبارات القدح والذم التي وجهها خامنئي الى عرفات في خطبه، لا سيما في صلاة الجمعة، في السنوات الاخيرة لم تزل في ذاكرة الايرانيين الذين يتذكرون ايضاً الاستقبال الجماهيري الضخم الذي قوبل به عرفات في اول زيارة له الى طهران بعد اربعة ايام من انتصار الثورة في منتصف فبراير (شباط) 1979.

وقصة حب الثورة الايرانية ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات قد شهدت فصولاً مثيرة من الزواج بطريقة المتعة وشهر العسل الحار ومن ثم القطيعة والرجوع ومن ثم الانفصال ثانية الى مرحلة الخاتمية التي شهدت عودة المياه الدافئة الى «انهار الحب الثوري» التي تربط الثوريين الايرانيين القدامى بحركة فتح وشخص ياسر عرفات. وخلال فترة رئاسة خاتمي الأولى، زار ابو عمار طهران مرتين، مرة لحضور القمة الاسلامية في ديسمبر (كانون الاول) 1997 ومرة ثانية قبل عامين. كما انه التقى الرئيس خاتمي كلما توفرت الفرصة، تارة في الامم المتحدة وتارة اخرى على هامش القمة الاسلامية في قطر، غير ان ابو عمار الذي خاطب الامام الخميني بعد بضعة ايام من جلوسه على قمة السلطة في ايران بلقب «شيخ الثوار والمجاهدين» ووعده باقامة صلاة النصر في القدس بامامته، لم يلتق خليفة الخميني (خامنئي) منذ اكثر من 12 عاماً، وفي زيارته الاخيرة الى طهران التي سبقتها هجمات عنيفة ضده من قبل وسائل الاعلام الخاضعة لخامنئي وفي مقدمتها الاذاعة والتلفزيون وصحيفة «كيهان»، رفض الرئيس عرفات اقتراحاً من هاشمي رفسنجاني الذي يحتفظ بعلاقات متينة بالرئيس الفلسطيني، القيام بزيارة غير معلنة الى خامنئي. وخلافاً للعادات والتقاليد الايرانية التي تعتبر الضيف حتى لو كان كافراً مكرماً طالما هو في البيت، فان عرفات تعرض، اثناء وجوده في طهران، لأعنف الانتقادات في صحف المرشد.

وخلافاً لخامنئي، واصل خاتمي اتصالاته مع الرئيس الفلسطيني في الأشهر الماضية وقد حاول مراراً محادثته في مقره برام الله منذ بدأ الحصار عليه هناك، حسبما اكد محمد علي أبطحي مساعد خاتمي وكبير مستشاريه في الشؤون العربية.

وتفجرت الأزمة الاخيرة في ايران بين الاصلاحيين وتيار الولي الفقيه حول كيفية التعامل مع العدوان الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وقيادته، فيما كان من المقرر ان يكون زمن الوفاق، حيث اتفق أركان النظام قبل عطلة نوروز (21 مارس الماضي) على ان تكون السنة الايرانية الجديدة سنة للوفاق الوطني. وكان المحافظون يرغبون في اعلان حالة الطوارئ في البلاد في مواجهة التهديدات الاميركية، وقد جاء خاتمي على حد قول احد النواب الاصلاحيين بمشروع الوفاق الوطني للحيلولة دون فرض حالة الطوارئ التي كان اركان الجبهة اليمينية المناهضة للاصلاحات يأملون في ظلها باغلاق الصحف وتعطيل البرلمان والحياة السياسية فور تطبيقها. ولتحقيق الحد الأدنى من الوفاق امر مرشد النظام بالافراج عن عدد من سجناء الرأي بصورة مؤقتة بينهم 17 من نشطاء التيار الوطني الديني، كما وافقت السلطة القضائية على منح ثلاثة من رموز حركة الاصلاح، هم عبد الله نوري وزير الداخلية السابق والصحافيان البارزان اكبر كنجي وعماد الدين باقي، اجازة لمدة اسبوعين خارج سجن ايفين حيث يقضي الثلاثة فترات سجن تتراوح بين سنة وخمس سنوات بسبب دورهم في فضح جرائم وزارة الاستخبارات ومسؤولية وزير الأمن السابق ومساعديه في قتل زعيم حزب الشعب المعارض داريوش فروهر وزوجته بروانة وأربعة من الكتاب والصحافيين. وبانتهاء عطلة النوروز، كان الشارع الايراني ينتظر ظهور بوادر الوفاق في الأفق، غير ان صدور حكم بسجن محامي اسرة فروهر الدكتور ناصر زرافشان لمدة خمس سنوات وجلده 70 جلدة بتهمة قيامه بتسريب بعض ما جاء في اعترافات قتلة فروهر وزوجته والضحايا الآخرين في ملف الاغتيالات السياسية المسلسلة، من مسؤولي وزارة الأمن عند استجوابهم، ومن ثم المواجهة التي اندلعت بين تيار الولي الفقيه والتيار الاصلاحي حول عرفات، وتردد معلومات حول النية في تعطيل صحيفة «نوروز» الاصلاحية خلال الايام القادمة، قد قضى على التفاؤل الهش الذي كان يسود الشارع الايراني خلال عطلة النوروز.

وقد فجر حسين شريعة مداري الأزمة الاخيرة بين تياري النظام، بسلسلة مقالات نشرتها «كيهان» منذ بدء العدوان الاسرائيلي الاخير ضد الشعب الفلسطيني وقيادته. وفي هذه المقالات، تحدث شريعة مداري عن مخطط وهمي زعم أن اميركا واسرائيل وبعض الدول العربية تنفذه حالياً في فلسطين. وحسب هذا المخطط فان شارون امر بضرب مقر عرفات ومحاصرته بهدف اعادة الاعتبار اليه في عيون الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والاسلامية. وزعم شريعة مداري ان عرفات الذي وصفه بعميل الصهاينة والاميركيين ضالع في المخطط بحيث سيخرج من مقره قريباً ليقود الحملة ضد القيادة الحقيقية للشعب الفلسطيني (حماس والجهاد الاسلامي وحزب الله) وفرض السلام المخزي على الشعب الفلسطيني على اساس مبادرة قمة بيروت.

وفي مقال آخر طالب شريعة مداري بتوسيع العمليات الانتحارية لتشمل الاميركيين والاسرائيليين خارج اسرائيل اينما وجدوا. وقد اتخذت بقية صحف الولي الفقيه موقفاً قريباً من «كيهان»، حيث نشرت «رسالت» و«جمهوري اسلامي» و«يالثارات الحسين» مقالات مشابهة لما نشرته «كيهان». بهدف التشكيك في قيادة عرفات والنيل من مكانته لدى الشعب الايراني. وقال مسؤول في الرئاسة الايرانية في اتصال مع «الشرق الأوسط»، ان انتقادات «كيهان» للرئيس الفلسطيني في الوقت الذي يتعاطف معه ليس فقط العرب والمسلمون بل جميع احرار العالم، ومهاجمة المبادرة العربية، وهي مبادرة تحظى بتأييد الرئيس خاتمي والمجلس الأعلى للأمن القومي، ومن ثم الدعوة لتوسيع العمليات الانتحارية وضرب المواطنين الاميركيين والاسرائيليين، «يمثل خروجاً عن السياسة الرسمية للبلاد وانتهاكاً سافراً لمبادئ الوفاق الوطني، خاصة ان شريعة مداري ليس صحافياً عادياً بل انه ممثل لمرشد النظام ومواقفه هذه تضر بمصالح ايران العليا وتضعف موقعها في مواجهة التحديات الخطرة التي تهدد كيانها».

وعلمت «الشرق الأوسط» ان الرئيس خاتمي وجّه عبر وزارة الارشاد تحذيرات شديدة الى مدير «كيهان» ومسؤولي بعض الصحف المحسوبة على تيار الولي الفقيه فيما طالب بأن يضع مرشد الثورة حداً لمزايدات شريعة مداري وأمثاله.

وكان عدد من الكتاب والصحافيين الايرانيين الاصلاحيين، بينهم اكبر كنجي وعماد الدين باقي وما شاء الله شمس الواعظين، قد زاروا مقر السفير الفلسطيني في طهران صلاح الزواوي في الاسبوع الماضي حيث سلموه رسالة موجهة الى الرئيس ياسر عرفات أعربوا فيها عن اعتزازهم واعجابهم بصلابة موقف القيادة الفلسطينية وبطولات الشعب الفلسطيني في مواجهة الحملة الوحشية للجيش الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني. كما اكدوا وقوفهم الى جانب «الشعب الفلسطيني وقيادته البطلة في هذه الساعات الحرجة» وأشادوا بالرئيس عرفات باعتباره رمزاً للمقاومة والتحدي والتضحية و«زعيماً قد تعلمت اجيال بعد اجيال منه دروس البطولة والمقاومة».

وزار السفارة الفلسطينية ايضاً مهدي كرّوبي رئيس البرلمان وجمع من النواب الاصلاحيين لإظهار دعمهم للشعب الفلسطيني وشخص عرفات.

ووجهت صحيفة «كيهان» حملة عنيفة ضد هؤلاء الكتاب والنواب بسبب زيارتهم السفارة الفلسطينية واعلان دعمهم للرئيس عرفات وحكومته، مدعية بأن عرفات لا يمثل الشعب الفلسطيني ومن العار والخزي التعاطف مع «هذه الدمية المحروقة».

ورداً على مزاعم مدير «كيهان» وبقية صحف الولي الفقيه اصدرت كتلة الثاني من الجوزاء الاصلاحية في البرلمان التي تضم ما يزيد على مائتي نائب ونائبة بياناً اكدت فيه على ضرورة تقديم الدعم المادي والمعنوي بشكل فوري الى الشعب الفلسطيني وقيادته الشرعية.

كما ان النائبة جميلة كديور هاجمت مدير «كيهان» بعنف في كلمتها في البرلمان، مشيدة بالرئيس الفلسطيني الذي يحظى بتأييد وثقة شعبه. كما ان زوج كديور، الدكتور عطاء الله مهاجراني وزير الارشاد السابق ومستشار الرئيس خاتمي حاليا، اعرب في سلسلة مقالات نشرتها صحيفة «اطلاعات» عن اعجابه بمقاومة الشعب الفلسطيني والرئيس عرفات الذي حسب ما جاء في مقالات مهاجراني جعل العلم الفلسطيني مرفوعاً وشعلة المقاومة مضيئة منذ اكثر من اربعين عاماً.