انضباط جماهيري غير مسبوق بقطاع غزة رغم الشلل الذي تعيشه السلطة ومؤسساتها

انخفاض في حوادث السرقة والقتل والشجار وحتى حوادت الطرق بينما كان متوقعا أن تعم الفوضى

TT

لأول وهلة لا يبدو ان كثيرا تغير على الرتابة الظاهرية للحياة في مدينة غزة. الاطفال يسيرون في جماعات للمدارس والمرضى يتوجهون للمستشفيات والمستوصفات الصحية ورجال الامن والشرطة منتشرون في كل مكان والموظفون يداومون في مكاتبهم.

لكن سرعان ما يكتشف المرء انه باستثناء قطاعي الصحة والتعليم فإن جميع الدوائر المدنية والقطاعات الاقتصادية فضلا عن الوزارات والاجهزة الامنية، مشلولة. ففي مكاتب وزارة الداخلية التي تستوعب المئات من الموظفين لا يجد هؤلاء هذه الايام ما يشغلون به انفسهم، فالكثير من المعاملات التي تنجزها هذه المكاتب ترتبط بالجانب الاسرائيلي الذي اوقف أي تعاون مع طاقم الوزارة واطقم الوزارات الاخرى.

وتقطيع اوصال القطاع الى ثلاثة كانتونات تفصل بينها حواجز جيش الاحتلال جعل كثيراً من الموظفين لا يصلون الى اماكن اعمالهم. وموظفو وزارة الشؤون الاجتماعية لا يجدون ما يشغلون انفسهم به في ظل منع اسرائيل للمساعدات ان تصل الى مناطق السلطة الفلسطينية. وفي ظل هذه الاوضاع تنشط لجان الاغاثة الاسلامية بشكل خاص التي تتولى بشكل اساسي تقديم المساعدات للمعوزين.

وبالنسبة للقطاع المصرفي في غزة فانه يعمل بشكل جزئي، فعمليات المقاصة بين فروع البنوك الفلسطينية والعربية ومقارها الرئيسية في رام الله متوقف تماما بسبب احتلال رام الله ومعظم مدن الضفة الغربية لذلك فان معظم الفلسطينيين في غزة الذين يتلقون رواتبهم عبر مقار البنوك في رام الله لم يتلقوا رواتبهم للشهر الماضي. واما الاجهزة الامنية الفلسطينية باستثناء جهاز الشرطة التي تعالج القضايا الجنائية ومشاكل السير لا تعمل تقريبا. فمقارها خالية بعد اخلائها عقب اعادة احتلال مدن الضفة، تحسبا لقصفها اضاف الى ان عددا من كبار ضباط الاجهزة الامنية، مطلوبون امنيا لاسرائيل وبالتالي فان تحركاتهم محسوبة جدا مثل المطلوبين من قادة وكوادر فصائل المقاومة.

الى ذلك فإن معظم منتسبي الاجهزة الامنية مشغولون حاليا مثل سائر عناصر التنظيمات الفلسطينية في الاعداد لمواجهة أي محاولة اسرائيلية لاقتحام قطاع غزة. ويتعاون عناصر الامن الفلسطيني مع عناصر الاجنحة العسكرية للفصائل المختلفة عبر غرف عمليات مشتركة، في اقامة السواتر الترابية وزرع الطرق التي من المفترض ان تسلكها الدبابات الاسرائيلية بالالغام والعبوات الناسفة.

ولا يختلف سلوك عناصر الامن الفلسطيني العاديين عن سلوك بعض كبار القادة، فمشاركة عناصر الامن الوطني الفلسطيني في عمليات المقاومة بشكل ملحوظ في قطاع غزة لا سيما في جنوب ووسط القطاع بشكل علني، جعل هؤلاء يتعاملون كمطلوبين للامن الاسرائيلي مع كل ما يتطلبه ذلك من حذر. قبل حملة «السور الواقي» التي اعاد فيها الجيش الاسرائيلي احتلال معظم المدن في الضفة الغربية وحاصر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مقره في رام الله وقطع اوصال قطاع غزة على النحو الحاصل حاليا.

كانت هناك ثلاث هيئات تدير شؤون الفلسطينيين السياسية والاقتصادية والحياتية في الضفة الغربية وقطاع غزة:

الاولى: القيادة الفلسطينية والثانية اللجنة العليا للمفاوضات، والثالثة مجلس الامن القومي.

فكل ما يتعلق باتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والبث في الشؤون الحياتية كان يبحث في اجتماعات القيادة الفلسطينية التي لا يوجد محددات للمشاركين في جلساتها، فالى جانب اعضاء مجلس الوزراء فيشارك اعضاء اللجنة التنفيذية ورئيسي المجلس الوطني التشريعي. وبشكل غير منتظم يشارك بعض قادة الاجهزة الامنية واحيانا بعض وكلاء الوزارات التي لا يوجد لها وزيرا مثل وزارة الداخلية.

وتختص الهيئة العليا للمفاوضات في اتخاذ القرارات المتعلقة بالمفاوضات والاتصالات مع الجانب الاسرائيلي. والى جانب الرئيس عرفات يشارك فيها عدد من الوزراء قادة الاجهزة الامنية الذين يشاركون في الاتصالات السياسية والامنية.

ويعنى مجلس الامن القومي الذي يرأسه عرفات ويشارك فيه جميع قادة الاجهزة الامنية باتخاذ القرارات على الصعيد الامني وعادة ما تكون هذه القرارات متأثرة تماما بحال العلاقة مع الجانب الاسرائيلي. لكن مع تواصل حملة «السور الواقي» وحصار الرئيس عرفات فان عمل هذه الهيئات الثلاث قد توقف تقريبا.

لكن في قطاع غزة وفي ظل الوضع الجديد بدأ يبرز دور ملحوظ وقوي للجنة القوى الوطنية والاسلامية والتي تشكلت مع اندلاع انتفاضة الاقصى وتعمل على تسيير انشطتها الجماهيرية. وتضم هذه اللجنة ممثلين عن جميع الحركات والاحزاب والاطر النقابية والمهنية في القطاع. وتحاول هذه اللجنة حل أي مشكلة تنجم بالطبع بالتشاور مع قادة الاجهزة الامنية. وتلعب البلديات ومؤسسات الحكم المحلي دورا مهما في تسيير حالات السكان الحياتية، وتشرف على امداد السكان بالخدمات حسب طاقتها وتتولى بالتعاون مع الشرطة محاربة القليل من التجار الذين يحاولون استغلال اوضاع الحصار لكي يرفعوا اسعار السلع الاساسية. وتلعب البلديات دورا مهما في الاستعدادات لمواجهة احتمال قيام الاحتلال باقتحام قطاع غزة، وقد اقامت غرف طوارئ لهذا الغرض. لكن اللافت للنظر انه رغم الشلل الذي تعيشه الاجهزة الامنية الفلسطينية فان حالة انضباط جماهيري غير مسبوقة يعيشها قطاع غزة. فبينما كان متوقعا ان تعم الفوضى والاخلال بالنظام العام ويجد المجرمون فرصتهم الضالة في استغلال هذا الوضع في هذه البقعة من الارض التي تحتضن مليون وربع المليون انسان فوق مساحتها لا تتجاوز 360 كيلومترا تلتهم المستوطنات 35% منها، انخفضت حوادث السرقة والقتل والشجار التي تكاد تكون تلاشت تماما على أي خلفية كانت. وحتى حوادث الطرق في هذه المنطقة التي توصف بانها اكثر مناطق العالم ازدحاما بالسكان تقلصت الى حد كبير.

ويرجع العميد عبد الرحمن بركات مدير الامن الجنائي في قطاع غزة لـ«الشرق الاوسط» حالة الانضباط الجماهيري، الى تنامي الحس الوطني لدى الجمهور، الى جانب احساس سكان القطاع بالمصير المشترك في ظل الهجمة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. ويشير بركات الى ان الجميع في قطاع غزة يعيشون حالة من الترقب حيث يتوقعون عمليات اجتياح واسعة على غرار ما جرى في الضفة الغربية.