«الشرق الأوسط» على الحدود المغربية ـ الموريتانية.. أغلقت 23 عاما بسبب الحرب وفتحت تدريجيا منذ عامين (2)

المهربون أقاموا منطقة تبادل حر على امتداد منطقة عازلة بين المغرب وموريتانيا وأطلقوا عليها اسم «سويسرا الصحراء»

TT

في اليوم التالي لوصولنا الى الداخلة، استيقظنا في الثانية صباحا وشددنا الرحال باتجاه الحدود الموريتانية. كانت رياح عابرة وخفيفة تهب من جهة الغرب حاملة معها رائحة البحر، والسماء المرصعة بالنجوم مثل خيمة كبيرة رفعت اطرافها لتترك نور الصبح يتسلل اليها. ومع كل شروق في الصحراء ينبلج السر الذي كانت تخفيه عتمة الليل. السر الذي يهب الصحراء كل هذا الجلال، فتبدو عارية وخفية في نفس الآن.

استغرقت الرحلة نحو بضع ساعات قطعنا خلالها الفيافي الصحراوية تحت غبش الفجر الآتي من الآفاق البعيدة. بدت الاراضي الشاسعة جرداء إلا من حشائش يابسة متناثرة هنا وهناك. وعلى جنبات الطريق كانت تبدو بين الفينة والاخرى قطعان من الابل ترعى.

آخر نقطة حدودية مغربية توجد في منطقة تدعى «الغريغرات» لكن قبل الوصول اليها لا بد من المرور من نقطتي مراقبة تابعتين للجيش المغربي. النقطة الاولى عادية يحرسها افراد من الجيش الملكي. اما النقطة الثانية فيحرسها الى جانب افراد من الجيش الملكي، افراد من قوات الدرك الملكي وقوات البحرية الملكية، يرتدون زي جنود الميدان، وبدت بالقرب منها تلة صغيرة شيدت فوقها بنايات من طين وحجر، خصصت لاقامة حراس النقطة، وقد ارتفعت فوق بعضها الصحون الهوائية لالتقاط برامج الفضائيات. وعلى ظهر التلة شرقا كتبت بالجير الابيض الناصع، عبارة «الله الوطن الملك»، شعار القوات المسلحة الملكية المغربية.

وعند النقطة الموالية نصب رجال الجمارك والشرطة الموريتانيين حواجزهم، التي تدل على انهم حديثو العهد بالمكان. فالحدود لم تفتح الا قبل شهرين، وخلال هذه الفترة القصيرة عرفت رواجا كبيرا من الطرفين المغربي والموريتاني. لكن في ذلك الصباح كانت اعداد قوافل السيارات المتجهة من المغرب اكثر من تلك المقبلة من موريتانيا، واغلبها سيارات مستوردة من الخارج يأخذها اصحابها لبيعها في موريتانيا التي ما زالت تتساهل في فرض رسوم جمركية قليلة على مثل هذا النوع من البضائع المستوردة. اما الشاحنات الصغيرة التي رافقتنا في رحلة العبور ذلك الصباح فهي لتجار موريتانيين من نواديبو، كانت اغلبها محملة بالخضر المستوردة من المغرب.

عندما وصلنا الى نقطة «الغريغرات»، حاولنا التقدم نحو المتاريس الرملية التي رفعت على جنبات المعبر الا أن احد الجنود امرنا بالتراجع الى الوراء. وعندما سألناه عن طبيعة تلك المتاريس الممتدة حتى البحر، اجاب ان الامر يتعلق بالجدار الامني الواقي الذي اقامه الجيش المغربي لصد هجمات مقاتلي جبهة البوليساريو ايام احتدام الصراع في هذه المنطقة قبل ان يتوصل الطرفان المغربي و«البوليساريو» الى اتفاق لوقف اطلاق النار تحت رعاية الامم المتحدة عام .1991 لقد اضطر المغرب في منتصف الثمانينات وامام تزايد هجمات «البوليساريو» على المدن الساحلية التي يتمركز فيها اغلب سكان الصحراء، الى بناء جدار امني هو عبارة عن متاريس من الرمال والتراب المزروعة بالالغام تمتد عدة كيلومترات بمحاذاة الحدود الشرقية مع الجزائر والحدود الجنوبية مع موريتانيا وحتى المحيط الاطلسي غربا. وقد ساهم هذا الجدار المجهز بأحدث اجهزة المراقبة الالكترونية في تجنيب المنطقة عدة مآس شبيهة بتلك التي حدثت في نهاية السبعينات عندما كانت تدور حروب طاحنة بين الجانبين ادت الى مقتل واسر الآلاف من مقاتلي «البوليساريو» وافراد الجيش الملكي المغربي، الذين ما زال نحو 1300 فرد منهم ينتظرون الافراج عنهم في معتقلات تابعة للجبهة في الجنوب الجزائري.

ما بين آخر نقطة حدودية يتمركز فيها الجيش المغربي واول نقطة مراقبة حدود موريتانية في اتجاه مدينة نواديبو توجد منطقة عازلة تمتد على طول سبعة كيلومترات. انها «سويسرا الصحراء» يقول لنا مرافقنا. او هكذا يسميها المهربون. فهذه المنطقة الفاصلة بين حدود موريتانيا شمالا والصحراء الغربية جنوبا لا تخضع لسيادة اي من الدولتين المغربية او الموريتانية. وقد حولها المهربون والتجار الى منطقة للتبادل الحر، تتم بها الصفقات بين التجار في البلدين. ويصف مرافقنا سوق السمسرة التي اقامها التجار في العراء بكونها «جنيف الصحراء» في اشارة الى نقطة الالتقاء التي تجري فيها الصفقات. ويضيف مرافقنا «هنا يمكن الحصول على كل شيء بما في ذلك حتى السلاح»، ففي هذه المنطقة العازلة التي تمتد حتى منطقة «أم كرين» شرقا تنتشر جميع انواع التجارة بما فيها تجارة السلاح الذي يبيعه مقاتلو «البوليساريو» ورجال الطوارق الذين يعجز الجيش الموريتاني عن ضبط تحركاتهم في صحراء شاسعة لامتناهية.

لكن وضع «جنيف الصحراء» المغري بكل انواع المغامرات، يجعل كل مغامرة غير مدروسة وخيمة العواقب عندما تتراءى للمرء هياكل سيارات محروقة من جراء انفجار الالغام التي كان يسيج بها الطرفان حدودهما للحد من هجمات مقاتلي «البوليساريو» عليهما في عقدي السبعينات والثمانينات.

ودعنا مرافقنا الذي توقف يحصي غنائمه في تلك المنطقة العازلة، وايضا في انتظار سقوط الظلام لاتمام طريقه نحو نواكشوط بعيدا عن عيون رجال الشرطة والجمارك الموريتانيين. صعدنا سيارة شحن متآكلة يطلق عليها المهربون «اكسبرس الصحراء». كنا نحو سبعة عشر نفرا حشرنا في السيارة حشرا. وكان بعضنا يفترش الصفيح الساخن، واكثرنا حظا جلسوا على حاويات بنزين بلاستيكية فارغة. وتحت شمس حارقة قطعنا الكيلومترات السبعة في حوالي عشرين دقيقة. كانت الطريق وعرة وغير معبدة، ومحفوفة بانحدارات وحفر كانت كفيلة بأن تجعل أبداننا تهتز حتى تكاد ترتطم بسقف السيارة الحديدي لتعود وتلتصق بالصفيح الساخن الذي يلعلع تحته صوت الحصى المتراقص تحت عجلات السيارة المتهالكة مثل دفقات رشاش لا ينضب.

فجأة توقفت السيارة وفتح السائق الباب الجانبي لها لنستنشق نسمة هواء نقية آتية من ربوع الصحراء المفتوحة، وطلب من بعض ركاب السيارة النزول وكلهم من اصحاب السيارات الفارهة التي جاءوا بها لبيعها في التراب الموريتاني ومازالت تنقصهم اجراءات طبع جوازات سفرهم عند شرطة الحدود الموريتانية للعودة الى المغرب بعد ان يكونوا قد قبضوا السعر المتفق عليه لبيع سياراتهم الى وسطاء موريتانيين كانوا ينتظرونهم في المنطقة العازلة بين حدود البلدين. كان على هؤلاء ان يقوموا بتسليم السائق الذي سيتكفل بارجاعهم الى نقطة الحدود المغربية ومنها الى اقرب مدينة داخل الصحراء الغربية ما قيمته 750 درهما (نحو 75 يورو) تكلفة النقل والاجراءات التي يتولى الوسيط الموريتاني انجازها عند شرطة الحدود الموريتانية. وبعد اخذ ورد ترك السائق اولئك الركاب ينتظرون عودته تحت نار شمس حارقة. احدهم تدارك الوضع الذي وجد فيه نفسه فصاح في وجه السائق محتجا «هل ستتركنا هنا لنموت عطشا؟». لم يرد عليه السائق وهو يعيد تشغيل محرك السيارة وعندما بدأت هذه الاخيرة بالتحرك رمى لهم بقنينة ماء نصف ممتلئة، فأسرع الشباب السبعة لالتقاطها قبل ان تسقط على الارض وينسكب ما بداخلها. عندها تذكرت رواية «رجال تحت الشمس» لغسان كنفاني، وتمنيت ان لا يلاقي اولئك الشباب نفس مصير ابطال رواية صاحب «عائد الى حيفا».

عند نقطة الحدود الموريتانية ستبدأ مغامرة جديدة بسبب صفة «الصحافي» التي كتبت في جوازي سفرنا أنا ومرافقي الزميل احمد بنشمسي مدير ورئيس تحرير اسبوعية «telquel» الصادرة باللغة الفرنسية في مدينة الدار البيضاء. كما اننا لم ننتبه لختم السفارة الموريتانية في الرباط على جوازي سفرنا الا عندما قال لنا ضابط الشرطة الموريتانية بأن المنفذ الوحيد المسموح لنا الدخول عبره الى موريتانيا هو مطار نواكشوط العاصمة، مما اضطرنا الى المكوث ست ساعات في نقطة الحدود تلك المعروفة باسم «55» نسبة الى النقطة الكيلومترية التي نصبت عندها ثلاث خيام واحدة تابعة للدرك واخرى للشرطة والثالثة لرجال الجمارك الموريتانيين.

استضافنا رجال الجمارك تحت خيمتهم للاحتماء من اشعة الشمس الحارقة التي كانت ترسل لهيبها عبر مسام الخيمة فتحولها الى حمام تركي لا ينقصها سوى البخار والماء.

جلسنا ننتظر عودة ضابط الشرطة الذي اخذ معه جوازي سفرينا لاستشارة قائده في مدينة نواديبو قبل الترخيص لنا بعبور الحدود البرية الموريتانية من جهة الشمال. وعلى نغمات شرشرة الشاي الموريتاني وهو يصب في الكؤوس مرارا وتكرارا، كان نقيب الجمارك يقلب بوصلة مذياعه حتى ضبطه على اذاعة لندن، فجاء صوت المذيع في برنامج ساعة الظهيرة يقرأ تقريرا لمراسل الاذاعة في فلسطين المحتلة، وفيه يتحدث عن حصار الرئيس ابو عمار وعن رباطة جأشه وثباته وهو يواجه الدبابات الاسرائيلية التي تحاصر مقر اقامته في رام الله.

انزل ضيفنا ابريق الشاي من فوق نار جمر ملتهب، ولوح بيده في الهواء من فرط حرارة الاناء التي الهبت رؤوس اصابعه وهو يكرر كلمات الترحيب التقليدية عند اهل الصحراء، وبدأ نقاش حول ردود الفعل العربية ازاء الاجتياح الاسرائيلي لاغلب مدن الضفة الغربية، ورغم حرارة النقاش الا ان ما كان يشغل ذهني هو قرار المسؤول الامني في مدينة نواديبو، تصورت جميع السيناريوهات المحتملة لاقناع اولئك الناس الطيبين والكرماء للسماح لنا بدخول بلادهم. اما زميلي فكان يحتسي الشاي غير آبه بما حوله، يبتسم ويعيد ارتشاف الشاي الاسود بلذة، ومن خلال الكوات المفتوحة في جنبات الخيمة لتهويتها كانت الكثبان الرملية تبدو مثل شهب حمراء هجرتها الحياة، ومن يمعن النظر الى تلك الكثبان ساعة الهجير يسكنه هاجس الخوف، خوف غامض، خوف من امر مجهول.

=