معركة الانتخابات التشريعية الفرنسية تلوح وراء معركة الرئاسة واليسار يخطط للعودة

TT

مع اعلان نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية في فرنسا التي شهدت خروج رئيس الحكومة والمرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان من السباق وتحقيق جان ـ ماري لوبن، مرشح اليمين المتطرف اختراقاً تاريخياً، انتهت عملياً الحملة الرئاسية. فالمواجهة المنتظرة بين لوبن والمرشح اليميني الديغولي جاك شيراك يوم 5 مايو (ايار) القادم محسومة سلفاً، لا بل ان استطلاعات الرأي التي أجريت خلال اليومين الماضيين تفيد بان شيراك سيسحق خصمه اليميني المتطرف ويمكنه ان يحصل على 75 إلى 80 في المائة من الأصوات البالغ عددها 40 مليون صوتاً.

وباستثناء برونو ميغريه، المرشح الآخر لتيار اليمين المتطرف الذي دعا منذ مساء اول من امس الى التصويت لجان ـ ماري لوبن، فان كل المرشحين الباقين، بمن في ذلك الحزب الاشتراكي، دعوا إما صراحة للتصويت لشيراك وإما مداورة بالمطالبة بقطع الطريق على مرشح التيار العنصري، والمعادي للأجانب.

ورغم ان ليونيل جوسبان تجاهل مسألة التصويت في الدورة الثانية، فان فرانسوا هولند السكرتير الأول للحزب الاشتراكي ومسؤولين اشتراكيين آخرين أكدوا انهم سيصوتون للمرشح جاك شيراك. وشرح برتراند دولانويه، رئيس بلدية باريس والمقرّب من جوسبان معنى هذا التصويت بقوله امس ان على حزبه ان يسلك هذه الطريق «مهما كان ثمنها قوياً»، ومضيفاً ان الاقتراع لصالح شيراك هو بمثابة «القيام بواجب اخلاقي» لقطع الطريق على جان ـ ماري لوبن.

وجاءت نتائج الدورة الأولى التي لم يحصد فيها جوسبان سوى 16.12 في المائة من الأصوات لتصيب الحزب الاشتراكي ورئيس الحكومة شخصياً بضربة قاضية. وقد أعلن جوسبان الليلة قبل الماضية اعتزاله الحياة السياسية وتخليه عن كل أدواره منذ السادس من مايو المقبل.

وما يثير المراقبين ان جوسبان خسر ما بين الدورة الرئاسية الأولى عام 1995 وانتخابات أول من أمس 2.5 مليون صوت. وكان جوسبان قد حصل عام 1995 على 23.5 في المائة من الأصوات، فيما الرئيس السابق فرانسوا ميتران، مؤسس الحزب الاشتراكي الحديث الذي أمضى 14 عاماً في سدة الرئاسة حصل عام 1988 على 34.1 من الأصوات.

وتعتبر هذه الانتخابات «تاريخية» بكل المعايير، فهي تاريخية بعدد مرشحي الدورة الأولى الذين بلغوا 16 مرشحاً، كما انها «تاريخية» بالنسبة المرتفعة للذين تغيبوا عنها، حيث ان ناخبا من أصل ثلاثة امتنع عن التصويت. غير انها «تاريخية» خصوصاً لأنها المرة الأولى التي يصل فيها مرشح اليمين المتطرف الى الدورة الانتخابية الثانية والمرة الأولى، منذ 40 سنة يغيب مرشح الحزب الاشتراكي عنها.

وراح جوسبان، كما يجمع على ذلك المحللون، ضحية تعدد المرشحين يساراً ومن داخل ائتلاف اليسار المتعدد الذي يقوده منذ 5 سنوات. فالمرشحون، الشيوعي روبير هو، والراديكالي اليساري كريستيان توبيرا، ومرشح الخضر نويل مامير والمستقل جان ـ بيار شوفنمان، كلهم ينتمون الى احزاب داخلة في الائتلاف الحكومي. وهذا ما نتج عنه تفتت الأصوات وتهافت مواقع جوسبان. فضلاً عن ذلك، فان الأحزاب اليسارية التروتسكية المتطرفة حازت 10 في المائة من الأصوات، مما يعني ان الكثيرين اقترعوا لمعاقبة سياسة حكومة جوسبان، من غير ان يعني تصويتهم رغبة منهم في اقصاء المرشح الاشتراكي عن الدورة الثانية.

لكن الزلزال السياسي ـ الاجتماعي تمثل في حصول اليمين المتطرف على 20 في المائة من الأصوات. والسؤال المطروح اليوم: هل يعد جان ـ ماري لوبن مفاجأة أخرى يوم 5 مايو المقبل كما أعد مفاجأة يوم الأحد الماضي؟

أما في معسكر اليمين «الكلاسيكي»، أي معسكر جاك شيراك، فان «صدمة» الأحد مفيدة له في جانب وخطيرة عليه في جانب آخر. فمن الناحية الأولى تحول شيراك، الذي لاحقته الفضائح وما زالت منذ سبع سنوات، الى «الحصن الأخير» للديمقراطية الفرنسية ولصورة فرنسا كبلد حقوق الانسان والتسامح والضيافة والتعايش بين المجموعات في اطار «الأمة الفرنسية». وأصبح شيراك، بسحر ساحر، وبفعل التهديد الذي يمثله لوبن، محط اجماع نادراً ما عرفته فرنسا، من غالبية الأحزاب من اليمين الى اليسار. وجاء الخطاب الذي ألقاه شيراك، عقب معرفة النتائج ليعكس «وضعية» الرجل الجديد المنبعث من رماد شيراك القديم. ومن هذه الزاوية، فان الاختراق الذي حققه لوبن خدم شيراك سياسياً وقدم له على طبق من فضة ولاية رئاسية ثانية من خمس سنوات، سيجاري بها الجنرال ديغول والرئيس ميتران.

غير أن هذه الهدية مسمومة، ذلك ان حصول اليمين المتطرف على 20 في المائة من الأصوات يجعل منه قوة مهددة لليمين المعتدل في الانتخابات التشريعية التي ستجري في شهر يونيو (حزيران) المقبل. فالنظام الانتخابي الخاص بالانتخابات التشريعية يتيح لمرشح وصل الى الموقع الثالث ان يخوض الدورة الانتخابية الثانية، اذا حصل على نسبة 10 في المائة من الأصوات. والحال، ان الأكثرية النيابية التي سمحت لجوسبان ان يترأس الحكومة الفرنسية طيلة السنوات الخمس الماضية مردها ان لوبن حافظ على مرشحه في الدورة الاشتراعية الثانية عام 1997، مما أتاح فوز المرشحين الاشتراكيين او مرشحي اليسار وتوفير اكثرية سياسية لتحالف اليسار. والآن فان كل آمال الاشتراكيين والشيوعيين والخضر وكل من هو منضو تحت لواء هذا التحالف تكمن في قدرة الحزب الاشتراكي على النهوض من كبوته والتهيؤ بشكل لائق لمعركة الانتخابات التشريعية.

وامس، أعلن فرانسوا هولند امين عام الحزب الاشتراكي انه سيقود حزبه الى معركة الانتخابات التشريعية. ومرة أخرى، تكمن حظوظ تحالف اليسار في قناعته ان لوبن، الذي سيواجه شيراك لن يقوم بأي شيء من شأنه ان يسهّل امور رئيس الجمهورية في الانتخابات التشريعية وبالتالي فان احتفاظ لوبن بمرشحيه في الدورة الاشتراعية الثانية يوفر فرصة للاشتراكيين ولحلفائهم بالانتقام من هزيمة الأحد الماضي.

هذا السيناريو يمثل الأمل الوحيد لحزب جوسبان وحلفائه. ولكن دونه صعوبات وعلامات استفهام. فاليوم، ليس من السهل معرفة قدرة شيراك، الرئيس الحالي والمقبل، على اطلاق دينامية جديدة. ومنذ امس جاء اليه المرشحان فرانسوا بيرو وآلان مادلين ليقدما اليه الولاء مجدداً بعد ان امضيا 5 اشهر بتوجيه سهامهما اليه. وشيراك قادر، من وضعيته الجديدة على تحقيق لحمة اليمين في الانتخابات التشريعية، مما يسهل مهمته في توفير أغلبية يمينية تدعمه وتؤدي الى تشكيل حكومة يمينية. وآمال المحيطين بشيراك ان تكون هذه الدينامية كافية للقضاء على عقبة لوبن.

بأي حال، الأسئلة مطروحة، واسوأ الحلول هي اللجوء الى استطلاعات الرأي التي تثبت مرة أخرى فشلها في استقراء نيات الناخبين وفي اكتشاف ما يبدو انه ملامح «الجمهورية السادسة» التي بدأت بالظهور منذ ليل الأحد ـ الاثنين.