الأوضاع في مستشفى بيت لحم للأمراض النفسية نموذج للدمار الذي لحق بحياة الفلسطينيين

عمال الإغاثة الغربيون يشكون من منع إسرائيل وصول المساعدات الإنسانية للمرضى الفلسطينيين

TT

يعاني عبد الغني حسين (62 عاما)، من حالة اكتئاب نفسي، وكان قد قضى العام الماضي في مستشفى الامراض النفسية الوحيد بالضفة الغربية، بيد ان هذا المستشفى، الذي شيد بمعونة بريطانية، يعاني من نقص حاد في الادوية والاغذية بسبب الحصار الاسرائيلي، شأنه شأن المرضى الـ172الآخرين، ولم يتلق حسين على مدى الاسابيع السابقة الادوية التي تساعده على الاحتفاظ بالتوازن غير المستقر داخله بين الظلام والواقع.

لم يستطع الاطباء ان يحددوا بصورة قاطعة ما اذا كان نقص الادوية المهدئة هو السبب في ما حدث لعبد الغني حسين الذي يعاني من حالة اكتئاب يخشى من إقدام من يعاني منها على الانتحار، لكنهم يعرفون جيدا انه نهض من سريره بعد ان تناول غداء مكونا من الارز والماء، وفتح النافذة في الطابق الثاني.. وقفز منها مما تسبب في اصابته بكسر في عظمة الفخذ الايسر ونزيف داخلي.

يرقد حسين الآن في احد اقسام مستشفى الامراض النفسية ببيت لحم ويتمتم بعبارات غير مفهومة، فيما كان الطبيب يربت على يده ليشعر بشيء من الطمأنينة. اتصل نائب مدير المستشفى الدكتور عصام بنور بالجيش الاسرائيلي طالبا السماح بنقل عبد الغني حسين بسيارة اسعاف الى مستشفى تتوفر فيه خدمات جراحية.

ويقول الدكتور بنور انه في ظل انعدام الادوية في مستشفى بيت لحم للامراض النفسية بات الوضع اكثر خطورة. ومن خلال تأمله لاحتلال هذه المدينة التاريخية، يرى بنور ان الخط الفاصل بين العقل والجنون بات مشوشا وغير واضح. واضاف ان كل المرضى باتوا اكثر شعورا بالانزعاج، واصبحوا سريعي الانفعال واكثر اثارة للازعاج والمتاعب ايضا، كما ترتفع اصواتهم بصورة ملحوظة خلال الليل.

ثمة مشاهد اخرى اكثر اثارة ودرامية للهجوم الاسرائيلي على الضفة الغربية مقارنة بمنظر رجل في العقد السادس يرتدي فانلة بالية، وهو ممدد على البلاط يرغب في الموت. فهناك اسر دفنت وافرادها ما يزالون على قيد الحياة تحت ركام المنازل التي هدمت فوق رؤوسهم في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، كما توجد هناك 35 جثة مسجاة في بدروم مستشفى نابلس لم يظهر ذووها، الذين لا يمكن ان يجرأوا على انتهاك حالة حظر التجول المفروضة والا أصابتهم نيران القناصة الاسرائيلية، فضلا عن حظر الجنود الاسرائيليين دخول قوافل المساعدات الانسانية الى مدينة بيت لحم. بيد ان حالة مستشفى بيت لحم للامراض النفسية تعتبر نموذجا للخراب الذي لحق بحياة الناس والمرافق في الضفة الغربية. فعبد الغني حسين واطباؤه والنزلاء الآخرون، والكثيرون مثلهم، هم تحديدا من كان يتحدث مجلس الامن يوم الجمعة الماضي عنهم، عندما اعرب عن قلق واضح ازاء «الوضع الانساني المؤلم» للمدنيين الفلسطينيين مطالبا بأن تسمح القوات الاسرائيلية بدخول وكالات الاغاثة والعون الانساني الى المناطق الفلسطينية المحتلة.

صوت مجلس الامن التابع للامم المتحدة بالاجماع على ارسال ممثلين الى مخيم جنين، الذي سوته القوات الاسرائيلية بالارض في هجومها الاخير، بغرض «توضيح الحقائق». اسرائيل، التي ظلت تنفي ارتكاب مجزرة هناك قائلة «ان قواتها كانت تتعقب ارهابيين»، وافقت على التعاون في هذه المهمة، لكنها عادت عن هذه الموافقة مثيرة اعتراضات. الجدير بالذكر ان منظمات الاغاثة الانسانية كانت من اولى الجهات التي انتقدت بصوت عال سياسات اسرائيل في الضفة الغربية، اذ ان القوافل الطارئة التي ارسلتها هذه المنظمات بصحبة دبلوماسيين اجانب منعت من دخول المناطق الفلسطينية في بادئ الامر، ثم سمح لبعضها بالدخول اخيرا بعد تأخير في نقاط التفتيش استمر في بعض الحالات لمدة ست او سبع ساعات. اما المستوطنون اليهود الذين يمرون بقوافل الاغاثة على الطرق، فكثيرا ما يوجهون لعمال الاغاثة المرافقين لهذه القوافل اشارات تنم عن البذاءة والاستفزاز كما يرمي بعضهم سيارات الاغاثة بالقوارير الفارغة. يقول نسيم نور، مدير العمليات بمنظمة «وولد فيشن» الدولية للاغاثة التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرا لها، ان عمل المنظمة تعرض للعرقلة على مدى 18 شهرا وليس خلال الاسابيع الثلاثة الاخيرة. واضاف انهم اضطروا لاستخدام المركبات ذات الدفع الرباعي لأن الفلسطينيين لا يسمح لهم باستخدام الطرق الرئيسية مما زاد من تكلفة العمليات بصورة عامة. ويقول نور ان المنظمة اضطرت للتحرك عبر الحقول للوصول الى المشاريع التي تعمل بها مما زاد من مخاطر العمل بصورة كبيرة. وواصل نور قائلا انه كان يتحرك بحرية عابرا الحدود عندما كان يعمل في القارة الافريقية عقب مجازر رواندا. واضاف: «ان السبب في ذلك انه لم تكن لدي سيارة توضح لوحاتها انه فلسطيني». كما اوضح كذلك انه قرر ان يأتي الى المناطق الفلسطينية لمساعدة شعبه لكنه وجد نفسه سجينا في بيت لحم. وكانت القوات الاسرائيلية قد خففت خلال الايام القليلة الماضية حصارها على مدن الضفة الغربية المحتلة، الا ان وكالات الغوث لا تضمن تماما انها تستطيع ان تجتاز نقاط التفتيش، كما ان التأخير في هذه النقاط ربما يستمر ساعات طويلة. وادت هذه المضايقات التي تستهدف الفلسطينيين الى اعتماد هذه الوكالات على عمال الاغاثة الاجانب مما زاد من التكاليف المالية لعمليات الاغاثة، كما انها علقت مشاريع التنمية طويلة المدى وباتت تركز بدلا من ذلك على عمليات الغوث الطارئة. واعرب مايكل كلارك، رئيس «رابطة وكالات التنمية الدولية» التي تضم 55 منظمة غير حكومية، عن دهشته واستغرابه ازاء السبب في اتخاذ اسرائيل لهذا الموقف، مشيرا الى انه ليس من مصلحة اسرائيل اتخاذ موقف كهذا. ويعتقد كلارك ان السبب الوحيد لهذا المسلك هو «عدم رغبة اسرائيل في تلقي الفلسطينيين للماء والاغذية والادوية».

وحتى صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية قالت ان حظر وكالات الغوث الانساني الدولية من دخول المناطق الفلسطينية كان بمثابة «كارثة علاقات عامة». كما كتبت الصحيفة عقب ايقاف القوات الاسرائيلية لـ30 شاحنة محملة بالمساعدات الانسانية واطلاق الجنود الاسرائيليين الغاز المسيل للدموع على مظاهرة نظمها يساريون اسرائيليون وعرب عند احدى نقاط التفتيش للمطالبة بدخول المساعدات الانسانية قائلة: «ان اسرائيل اليوم غير قادرة فيما يبدو على اطلاق مثل هذه البوادر، حتى اذا صبت في مصلحة الجانب المتعلق بالعلاقات العامة».

وعلى العكس من تصريحاتهما الرسمية، يبدو ان الدولة والجيش على السواء لا يستطيعان تحرير نفسهما من آثار الفهم القائم على اساس ان كل من هم في الطرف الآخر أعداء، وبالتالي فإن كل من يسعى الى مساعدتهم عدو ايضا».

وفي نهاية الامر سمح الجيش الاسرائيلي لاطباء مستشفى بيت لحم للامراض النفسية بنقل عبد الغني حسين بسيارة اسعاف الى مستشفى في بيت جالا، وهو المستشفى الرئيسي الوحيد في المنطقة، بيد ان المستشفى يفتقر الى المواد اللازمة لاجراء العملية، مما يعني ان على عبد الغني المزيد من الانتظار. عندما وصل عبد الغني الى مستشفى بيت جالا كان مديره، الدكتور بيتر قمري، يتحدث بالهاتف مع شخص متسائلا عن افضل الطرق للتخلص من النفايات البشرية، اذا ان الاطباء العاملين معه يضعون المشيمات عقب عمليات الولادة التي اجريت على مدى شهر كامل داخل اكياس بلاستيكية، كما انهم يلفون الاطراف المبتورة داخل ملاءات، الا ان القطط تجد طريقها ليلا الى المستشفى وتقضم ما تجده منها.

اما الدكتور قمري، فلم يتلق أي اجابة مقنعة عن سؤاله الذي تبعه بسلسلة اسئلة اخرى: «هل حدث ان شاهدتم طبيبا مقعدا؟ نحن مقعدون.. الجراحون ليسوا قادرين على مساعدة من هم في حاجة الى جراحة كما انهم عاجزون عن الوفاء بواجباتهم المهنية.. ماذا نفعل؟ ولماذا حتى نعيش؟». الجدير بالذكر ان الدكتور قمري وطاقم الاطباء العامل معه في مستشفى بيت جالا ظلوا يقيمون بالمستشفى بصورة مستمرة منذ بدء الهجوم الاسرائيلي في 29 مارس (آذار) الماضي خوفا من عدم التمكن من العودة الى عملهم اذا خرجوا منه.

*خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»