عشرات المنظمات الفلسطينية والإسرائيلية والدولية تباشر التحقيق في آثار العدوان بدون انتظار «لجنة تقصي الحقائق»

محامي منظمة «عدالة» لـ«الشرق الأوسط»: إسرائيل انتهكت كل بند بميثاق جنيف في جنين ونابلس وغيرهما

TT

في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بلجنة تقصي الحقائق الدولية في احداث جنين، وبالمحاولات الاسرائيلية لابتزازها وتقزيمها وافراغها من مضمونها، باشرت عشرات المنظمات الانسانية تحقيقا خاصا بها حول آثار العدوان الاسرائيلي على المناطق الفلسطينية في الشهر الاخير. وهي منظمات فلسطينية ودولية وحتى اسرائيلية، افرادها لا ينتظرون منّة من الامم المتحدة والوصي الاميركي عليها، ولا ينتظرون اذنا من السلطات المحتلة. ينتشرون بالمئات في المدن والقرى ومخيمات اللاجئين الفلسطينية التي تعرضت للاجتياح، يصورون، يحققون، يسجلون الشهادات، يجلبون الخبراء، ويعدون التقارير. وقد قطعوا شوطا طويلا في العمل، وتوصلوا الى استنتاج اساسي واضح وثابت هو: قد لا يكون ما فعله الجيش الاسرائيلي في جنين او نابلس مذبحة، ولكن المؤكد هو انه ارتكب جرائم حرب فظيعة، وانه لم يترك بندا واحدا في المواثيق الدولية والأعراف حول الحروب، الا وانتهكه بفظاظة، وجرائم الحرب لا تقل خطورة عن المذابح.

وعلمت «الشرق الأوسط» ان من بين هذه المنظمات:

* دوليا: منظمة الصحة الدولية ومنظمة الصليب الاحمر الدولية ومنظمة العفو الدولية ومنظمة «وصحافيون بلا حدود» والبنك الدولي ومنظمة الامم المتحدة من اجل حقوق الانسان ووكالة غوث اللاجئين ومحامون بلا حدود».

* فلسطينيا: منظمة «قانون»، وزارة التخطيط والتعاون الدولي، وزارة الثقافة والاعلام، اللجان الشعبية المحلية، المحافظات.

* اسرائيليا: جمعية حقوق الانسان وفرع العفو الدولية في اسرائيل واللجنة ضد التعذيب ولجنة الاطباء من اجل حقوق الانسان وعدالة (المركز القانوني لحقوق الاقلية العربية في اسرائيل)، ومركز الدفاع عن الفرد (بتسيلم).

وباشرت بعض هذه المنظمات عملها منذ بداية الاحتلال الاسرائيلي المدمر. وتمكن بعض افرادها من التسلل الى المدن الفلسطينية حتى عندما كان جيش الاحتلال يطوقها بالعساكر المدججين بالأسلحة والدبابات، خصوصا مدينة جنين. وحاولت بعضها، مثل «عدالة» وجمعية حقوق المواطن، عرقلة تقدم قوات الاحتلال ووقف جرائمها بواسطة رفع ممارساتها الى القضاء. فتوجهت الى محكمة العدل العليا سبع مرات في سبع دعاوى خلال ثمانية ايام. ومع ان المحكمة لم تتجاوب مع هذه الدعاوى، وردتها بمعظمها، الا ان مجرد البحث على هذا المستوى حقق شيئاً وعرقل اشياء، وكشف امام العقلاء من الاسرائيليين ان حكومتهم لا تدير حربا جنونية مدمرة ضد الفلسطينيين وحسب، بل هي تدمر ما تبقى لهم من ديمقراطية وقضاء نزيه مستقل، «فاسرائيل تأكل نفسها»، كما حذر البروفسور مردخاي ابن البروفسور يهوشع لايبونبش (الذي كان قد تصدى للقيادة الاسرائيلية المزهوة بالنصر على العرب سنة 1967، ونصحها بالانسحاب لأن هذا الاحتلال سيدمر اخلاق المجتمع الاسرائيلي).

ويتضح من اتجاهات البحث والتحقيق الذي تعده كل واحدة من تلك المنظمات وكلها مجتمعة، ان استنتاجاتها ستشكل ادانة خطيرة لحكومة اسرائيل، وسيكون من الصعب على العالم تجاهلها. وحتى لو تجاهلها اليوم، فلا بد ان يعود الى نبشها بعد سنين لن تطول. وستشكل اساساً متيناً لمحاكمة كثيرين بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

والمهم في ذلك بالأساس، انه رغم المأساة الكبرى في جنين، الا ان الجريمة كانت اكبر من هذه المأساة وهذه المدينة ومخيمها. والجرائم في الاماكن الاخرى لم تكن اقل خطورة. وحصلت «الشرق الأوسط» على تقريرين اوليين حول ما جرى في كل من رام الله ونابلس، اضافة الى عدة تقارير عن جنين، وفي ما يلي ملخص لها:

* رام الله والبيرة

* بدأت قوات الاحتلال عملية «السور الواقي» في رام الله، مساء 28 مارس (اذار) الماضي، وبدا واضحا ان عملها يسير وفق خطة مرسومة سلفا: احلال وتحطيم كل ما تملكه السلطة الوطنية الفلسطينية من مبان ومكاتب ومقرات رسمية وغير رسمية، وتحطيم وسائل الاعلام الرسمية والخاصة. فكانت تفجر الابواب الخارجية بالديناميت وتقتحم الى الداخل، فتصادر الوثائق الالكترونية والورقية، وتحمل اجهزة الحاسوب بالشاحنات، وتسرق الاموال في الخزانات ثم تحطم الاثاث والنوافذ. وفي ما بعد نهبت الحوانيت والمتاجر والبيوت ايضا.

بهذه الطريقة تم ضرب وتخريب مبنيين المجلس التشريعي ومعظم الوزارات الفلسطينية في رام الله ومقار اجهزة الامن كلها، من الشرطة المدنية والمخابرات والامن الوقائي والأمن الرئاسي، وبلديتي رام الله والبيرة والغرفة التجارية اللوائية، وحتى المكتبة العامة لم تسلم من العدوان فقصفت عن قرب، واشتعلت النيران في احد اجنحتها، وحطم اثاث بقية الاجنحة فانهارت اعمدة المكتبة الخشبية ولحق الضرر بألوف الكتب ولحقت الاضرار بمكاتب جمعيات حقوق الانسان: الحق وماتن ومعهد مانديلا واتحاد لجان الاغاثة الشعبية ونادي الاسير.

وقصفت وهشمت غالبية شبابيك وابواب وجدران نادي جمعية الشبان المسيحيين ومركز خليل السكاكيني الثقافي ومكتب الشاعر محمود درويش والمعهد الموسيقي التابع لجامعة بير زيت، ومعهد الاستكمال التربوي ومركز الاحصاء المركزي. ودمرت قوات الاحتلال دار الاذاعة الفلسطينية وقصفت مقر التلفزيون وكذلك محطات الاذاعة والتلفزيون المحلية.

على سبيل المثال، ورد الوصف التالي لما جرى في وزارة المعارف والتعليم في رام الله:

«تقع بناية وزارة المعارف في حي الماصيون في رام الله وتقدم الخدمات لحوالي مليون تلميذ، اي ثلث سكان الضفة الغربية وقطاع غزة تقريبا. فمن هنا تدار جميع المدارس الحكومية الابتدائية منها والثانوية وطواقم المعلمين والمديرين، ويوجد هنا الأرشيف الوثائقي للطلاب.

في الساعة الرابعة من بعد ظهر 3 ابريل (نيسان) الجاري، اقتحمت البوابة الرئيسية لمبنى الوزارة قوة من الجيش على متن 30 دبابة ومجنزرة و150 جنديا تقريبا. وكان بداخل المبنى اربعة حراس، ففتحوا للجنود الابواب كي لا يقوموا بتحطيمها، وعندما يستعصي فتح احد الابواب يقوم الجنود بتفجيره بالديناميت. واحتجز الجنود الحراس الاربعة وعددا من الموظفين الذين هرعوا الى المكان ليمنعوا الجيش من العبث بالمكاتب، وأبقوهم محتجزين في العراء حوالي 60 ساعة، اي طيلة الوقت الذي امضاه جنود الاحتلال داخل المبنى. اما الاضرار التي خلفوها فكانت على النحو التالي: تدمير البوابة الرئيسية لمبنى الوزارة وسبعة ابواب داخلية، وتحطيم الاثاث في 80% على الاقل من غرف المكاتب، ومصادرة كل محتويات المخزن من حواسيب وأجهزة ومواد تعليم حديثة، والسطو على الخزانة الرئيسية، في الوزارة ومصادرة ما بداخلها من اموال ودفائر شيكات لم تستعمل، وديسكات اجهزة الكومبيوتر، واتلاف العديد من الوثائق الضرورية ومصادرة بعضها».

* نابلس

* اضافة الى تدمير مقرات السلطة الوطنية، ارتكبت هنا مذبحتان: الاولى تتعلق بالبشر، حيث ان قوات الاحتلال قتلت 74 فلسطينياً، بعضهم رجال مقاومة مسلحون، وحوالي ثلثهم مدنيون من الاطفال والنساء، قتلوا جراء القصف والهدم.

اما المذبحة الثانية، فتتعلق بالآثار القديمة لحي العقبة والمباني المحيطة به في البلدة القديمة. فهذه تعتبر كنوزاً ثقافية، كانت السلطة الوطنية قد بدأت تعمل في صيانتها وتجميلها لتحويلها الى مناطق اثرية وسياحية.

فهذه المدينة هي الثالثة من حيث اهميتها السياحية والاثرية في الضفة الغربية بعد القدس وبيت لحم، والرابعة في فلسطيم كلها (بعد الناصرة). مبانيها القديمة، جعلتها بلدة الحضارات المتوارثة. بعضها يعود بناؤه الى سنة سبعين قبل الميلاد، منذ الزمن الروماني والبيزنطي، وبعضها الى العهد الاسلامي. ودمر القصف الاحتلالي مباني على مساحة الف دونم، شملت بين ما شملت القناطر الجنوبية ومبنى السرايا العثمانية، والجامع الصلاحي (نسبة الى القائد صلاح الدين الايوبي) الذي بني على الطراز البيزنطي مثل مساجد الاندلس، وجامع الخضراء (الذي بناه السلطان قلاوون)، وجامع النصر ذا المئذنة الاسطوانية، والقصور العائلية الشهيرة (قصر آل طوقان وقصر آل عبد الهادي وقصر آل النمر)، والبرج الصليبي في حي الياسمينة. فهذه الآثار بمعظمها دمرت، ويجري حاليا فحص امكانية ترميمها بأسلوب فني يعيد لها رونقها ويحافظ على طابعها الأساسي.

يضاف الى ذلك الدمار الذي لحق بالبيوت والحوانيت والسوق والشوارع، التي تعتبر قضية بحد ذاتها.

* جنين

* يقول المحامي عزمي عودة، عضو ادارة منظمة «عدالة»، انه لا يوجد هناك اي تحديد علمي او قانوني لكلمة مذبحة، ولكن ـ حسبما سمع ورأى، فان «ما جرى في جنين هو مذبحة بحق الانسانية، اذ قتل اناس ابرياء غير مسلحين وهدمت بيوتهم فوق رؤوسهم، يكفي ان تكون عائلة واحدة من أب وأم وبعض الاطفال، قتلت بهذه الطريقة، فانها مذبحة».

يذكر ان هناك ثلاث عائلات على الاقل قتلت في جنين بهذه الطريقة. واعترف الناطق بلسان الجيش والعديد من الجنرالات بأن «يكون هناك احتمال بوقوع خطأ ما ادى الى قتل بعض المدنيين. فظروف القتال صعبة، واختبأ بين الناس مئات المسلحين. وقد قتل حوالي مئتي فلسطيني خلال المعارك، معظمهم مسلحون وقد يكون بينهم بعض المدنيين».

في بداية المعارك تباهى الاسرائيليون بمقتل هذا العدد الكبير، لكي يهدئوا من هيجان اليمين الذي طالب بالانتقام لمقتل 27 جنديا اسرائيليا في مخيم جنين. وفقط بعد ان ثار العالم ضد هذه الجريمة وراح يتحدث عن مذبحة، تراجعت اسرائيل وراحت تتحدث عن عشرات القتلى الفلسطينيين.

ولكن، لنفترض جدلاً ان عدد القتلى يقدر «فقط» بالعشرات، فهل يعقل ان يكون القتلى المدنيون قتلوا بالخطأ؟ هنا يرد عليهم ناطقون آخرون باسم الجيش، تباهوا «بالقدرات التكنولوجية العالية للجيش». وحسب صحيفة «يديعوت احرونوت» في عددها الصادر في 27 ابريل الجاري، فان في حوزة الجيش الاسرائيلي اجهزة استكشاف دقيقة تخترق جدران البيوت بسمك حتى 60 سنتمترا وتخترق ألواح حديد بسمك 6 سنتمترات، وبامكان الجنود ان يشاهدوا من بداخل تلك البيوت ليل نهار ويحددوا وجود البشر في كل زاوية منها. اذن، هل يوجد مجال للخطأ؟

ويقول المحامي عودة: «للحروب ايضا توجد قوانين واعراف تمت صياغتها فيما يعرف بميثاق جنيف، الذي وقعت عليه اسرائيل. لقد راجعنا مواد هذا الميثاق فوجدنا ان قوات الاحتلال لم تترك مادة او بندا في هذا الميثاق الا وخرقتهما وداستهما. واذا اخذنا المادة الرابعة حول «حماية المدنيين في النزاعات الدولية» لوجدنا انه يحظر بأي شكل من الاشكال نقل المدنيين من منطقة لاخرى. وفي مخيم جنين وحده جرى تشريد 1100 عائلة ما زالت مهجرة حتى اليوم. وهناك حارتان في المخيم، الحواشين وجورة الذهب، دمرتا بالكامل، عوضا عن تدمير جزئي لعشرات البيوت في الاحياء الاخرى. وتحت الركام في هذه الاحياء توجد عشرات الجثث. وبغض النظر عن المعارك ومن شارك او لم يشارك فيها، فان كثرة الجثث وقلة الجرحى تدلان على ان هناك قتلا متعمدا ومنعا لوصول الاسعاف للجرحى. في هذا المكان الذبابة تفضح اسرائيل، وليس بالضرورة التحقيقات العلمية. وقد شوهدت اكثر من حالة يظهر فيها ان جرافات عملت على ان تجبل الجثث الآدمية والحيوانية مع التراب في عمليات التمهيد للأرض. وقد اخرجت الجثث اشلاء، وهذه وحدها دليل على جرائم الحرب البشعة، ولسنا بحاجة معها ان نتحدث عن مذابح. ولكن، اذا جمعنا ما قاله ضباط كبار وصغار في الجيش الاسرائيلي للصحف الاسرائيلية، فاننا نستخلص ان هناك امورا فظيعة ارتكبت. حتى وزير الخارجية شيمعون بيريس سجل وهو يتحدث عن مذبحة».

ورداً على سؤال ان كانت هذه الشهادات كافية لإدانة اسرائيليين في جرائم حرب، قال عودة: «بالتأكيد، فاذا عقدت محاكمة نزيهة في اي مكان في العالم، ستجد الأدلة الكافية لمحاكمة القادة الاسرائيليين، الآمرين والمأمورين، بارتكاب جرائم حرب». وسألناه عن سبب فشل منظمته «عدالة» في اقناع المحكمة الاسرائيلية العليا بأن تتصدى لتلك الجرائم، فأجاب: «للأسف، المحكمة العليا في اسرائيل، فشلت دائما في الحفاظ على حقوق الانسان الفلسطيني، منذ عام 1967 وحتى الآن. فهي نشطة ومبدعة في الحفاظ على حقوق الانسان اليهودي في اسرائيل والى حد ما الانسان العربي في اسرائيل (فلسطينيي 48) ايضا. ولكن ألوف الدعاوى التي قدمت لها بخصوص الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة فشلت، فالعدالة عندها ليست لهؤلاء الناس».

اذن، فالأمل هو ليس في المحكمة الاسرائيلية ولا في لجنة الامم المتحدة لتقصي الحقائق، بل في ذلك التحقيق الذي يقوم به انصار حقوق الانسان الاسرائيليون والفلسطينيون والأجانب، ففيه ادانة صارخة لحكومة اسرائيل على جرائم الحرب التي تقترفها.