يهودا أميركا يلتفون حول إسرائيل وينقسمون حول شارون ومستقبل السلام

TT

كانت صالة الرقص غاصة بالحاضرين الذين بلغ عددهم 1400 وينتمون إلى منظمة «أصدقاء قوات الدفاع الإسرائيلية». وحينما أقسم عمدة القدس، ايهود أولميرت، في خطابه، بتدمير «الإرهاب الفلسطيني» لاقى تصفيقا عاصفا. لكن رجل الأعمال رونالد إيديلستاين، الذي تبرعت أسرته بـ 88 ألف دولار لتحقيق هذا الهدف، ردد معلقا على قسم اولميرت: «أنا مقتنع بأن علينا عدم التراجع» ثم أضاف ساخرا: «بسبب سفاسف بعض القيم الأخلاقية، التي لا يمتلك زملاؤنا العرب أيا منها». من جانب آخر، يقف، رونالدو ماتالو، حاخام المعبد التقدمي في غرب مانهاتن، منقسما بين موقفين متعارضين: دعمه الطويل الأمد لحقوق الإنسان الفلسطيني ودعمه لإسرائيل حينما تكون تحت الحصار. يقول ماتالو: «هناك فراغ واضح في موقع اليسار»، وكان هذا الحاخام قد تنصل من اعلان نشر في صحيفة اميركية اشاد بالجنود الإسرائيليين المنشقين في الضفة الغربية لرفضهم تنفيذ «الأوامر» والمشاركة في تحقيق «احتلال وحشي». يمكن اعتبار هذه الفترة عسيرة ومضطربة بالنسبة لليهود الأميركيين، الذين ظلوا لفترة طويلة منقسمين تجاه الطريق المناسب الذي يجب اتباعه لتحقيق السلام في الشرق الأوسط. مع ذلك وضع الكثيرون منهم خلافاتهم الآيديولوجية جانبا، خلال الأسابيع الأخيرة، وشاركوا علنيا في دعم إسرائيل، وهم ما زالوا مستمرين في خلافاتهم حول كيفية الوصول إلى حل طويل الأمد. ويقول الكثيرون من القياديين اليهود في أميركا، إن حالة الطوارئ التي تعيشها إسرائيل حاليا وتصاعد «معاداة السامية» عالميا، قد وحدا اليهود بطريقة لم تعرف منذ حربي 67 و.73 مع ذلك فهم يعترفون بأن الخلافات العميقة الموجودة بين اليسار واليمين لا يمكن كبتها بشكل دائم، وهذا ما يجعل الطائفة اليهودية الأميركية عاجزة عن تحديد الطريق الذي يجب اتباعه مستقبلا. ويعتبر صمويل فريدمان، الصحافي ومؤلف كتاب: «يهودي في مواجهة يهودي.. الصراع من أجل كسب الروح اليهودية الأميركية»، أنها لحظة حاسمة بالنسبة لليهود، لكنه حذّر من ان النزاع الفلسفي في أميركا حول إسرائيل ومستقبلها يعكس توترا طويل الأمد: «فمن جانب، هناك شعور عام بين اليهود بحاجتهم إلى احترام حقوق الإنسان والعمل من أجل تحقيق السلام، لكن من جانب آخر، هناك تشبث بالروح القبلية: الشعور بأننا الآن محاصَرون، وأن ليس هناك في العالم من يحبنا، لذلك فانه وقت يتطلب التعاضد فيما بيننا». هذه المشاعر ظلت تتحرك إلى الأمام وإلى الوراء، لكنها الآن تتركز حول الموقف القبلي. وهذا ما تجلى بأفضل صوره في المسيرات التي جرت في بداية هذا الشهر، بواشنطن، وجلبت أكثر من 150 ألف متظاهر، واستطاعت أن تحتل عناوين الصحف الكبرى. إضافة إلى ذلك شارك الآلاف بمسيرات مماثلة جرت في شيكاغو ونيويورك وديترويت ومدن أخرى. وفي هذا الأسبوع، سيبعث مركز سايمون ويزنتال في لوس انجليس، بـ 600 ألف كتيب تدعو إلى العمل وترفع شعار «إسرائيل تحارب من أجل الحفاظ على حياتها»، ويدعو اليهود الأميركيين الى الاتصال بالوجوه القيادية لحكومات ولاياتهم المحلية وبالمؤسسات الاعلامية على المستوى العالمي. وإذا كان أغلبية اليهود قد وضعوا الخلافات القديمة بينهم، جانبا، ووقفوا جنبا إلى جنب، فان البعض عبروا عن شكوكهم بطبيعة الرسالة التي يحملها هذا التآزر. فكثير من الذين شاركوا في مسيرة واشنطن، صدمتهم كلمات نائب وزير الدفاع الأميركي، بول وولفيتز، احد عناصر الصقور في الإدارة الأميركية، حينما قال إنه مع انشاء دولة فلسطينية، وإن هناك أبرياء فلسطينيين يعانون من الوضع الحالي، وهذا ما أثار صرخات الاستنكار ضده بين المتظاهرين. هذا التصادم دفع الزعماء اليهود البارزين إلى التخفيف من آثار ردود الفعل التي ظهرت في تلك المسيرة، إذ زعموا أن هنا سوء فهم لما قاله وولفيتز، أو أن عباراته كانت مفككة. مع ذلك، فان بعض اليهود الأميركيين، يعتقدون أن هذا الدعم لإسرائيل لا يعني تأييدا طويل الأمد لسياسة أرييل شارون العسكرية. لكن الشكوك بموقف موحد ولمدى طويل منتشرة بين العديد من الجماعات اليهودية. وقال رجل الأعمال من بروكلين، فيكتور ناي الذي يصف نفسه بانه مساند قوي لإسرائيل: «لدي أصدقاء أميركيون كانوا معتدلين سابقا حول تحقيق السلم عبر المفاوضات، لكنهم الآن يفكرون بهذه الطريقة: وجودنا كله معرض للخطر، لذلك علينا أن ندمرهم (الفلسطينيين) جميعا». لكنه استدرك: «أعرف أشخاصا آخرين، لا يكفون عن الاستفسار: إذا واصلنا قصف العرب، فكيف يمكننا أن نتوقع تحقيق سلم معهم؟». ويرى الكثير من القياديين اليهود أن الدعوة للتوحد، أدت الى اسكات الصوت المنتقد لشارون داخل الولايات المتحدة. ووجِّهت انتقادات شديدة للحاخام مايكل ليرنر، من سان فرانسيسكو، المؤسس لمجلة «تيكون» التقدمية، لنشره اعلانا مثيرا للجدل في جريدة «نيويورك تايمز». ويقول مايكل ليرنر، إن قناعاته الأساسية، المتضمنة دعم إسرائيل ونقد «الإرهاب» الفلسطيني، تم تحريفها من قبل منتقديه. لكن الشيء المهم بالنسبة له هو تسمله رسائل الكترونية تعكس القلق بين بعض اليهود من نبذهم في حالة توجيه أي نقد لأعمال شارون. ويوجه ليرنر أصابع الاتهام نحو بعض الزعماء اليهود الذين خلقوا «مناخا ماكارثيا جديدا»، ووفق ذلك يُنظر إلى كل «من يطرح أسئلة كخائن». وبالنسبة للبعض تحمل هذه المشكلة عمقا فلسفيا، اذ يقول دانييل سوكاتش، المدير التنفيذي للتحالف اليهودي التقدمي في جنوب كاليفورنيا، إن 400 شخص اجتمعوا مؤخرا باشراف منظمته تحت شعار: كيف يمكن دعم إسرائيل بدون أن تؤيد هجماتها العسكرية؟

في الوقت نفسه، هناك تنامي الشعور بين اليهود التقدميين المنتقدين لإسرائيل من أن الرئيس عرفات قد خيّب ظنونهم به. ويقول آرثر هيرزبيرغ، أحد القياديين اليهود البارزين: «اعترف انني كنت واحدا من الداعمين لتحقيق السلام مع الفلسطينيين، لكن أصبح واضحا لمن ينتمون الى اليسار أن عرفات غير معني بانهاء النزاع الدموي». وإذا كان هيرزبيرغ لا يخفي دعمه المطلق لإسرائيل، فانه في الوقت نفسه غير مستعد لأن يخدع من قبل شارون «انا لا اساند احتلالا طويل الامد للأراضي الفلسطينية، لأن ذلك لا يمكن تبريره أخلاقيا». لكن الزعماء اليمينيين يطرحون مسائل أخلاقية أخرى، حينما يصرون على عدم تماثل ما يقوم به الجنود الإسرائيليون مع المهاجمين الانتحاريين الفلسطينيين. ويقول الحاخام آفي وايس: «شاهدنا طائرات تصطدم بمركز التجارة العالمي وتقتل الآلاف، ولم تبق سوى خطوة صغيرة واحدة كي يقوم البعض بلف أجسادهم بالمتفجرات والمجيء الى المدن الأميركية.. على إسرائيل أن تدافع عن نفسها مثلما تفعل أميركا». ومع تصاعد حدة النقاش، يرى المراقبون أن ما يجري في الولايات المتحدة بين اليهود، مشابه للوضع داخل إسرائيل. إذ ما زال الناشطون اليمينيون واليساريون في إسرائيل مختلفين فيما بينهم، على الرغم من توحدهم بمشاعر الخوف والحذر. مع ذلك يظل هناك اختلاف واحد: فالأكثرية في إسرائيل اليوم تساند الحل الوسط الذي يجمع بين تحقيق السلام والاستعداد لتحمل أي أعباء للحرب، حسب، غولدبيرغ، محرر جريدة «الى الأمام» الشعبية التي تصدر في نيويورك، منذ سنة 1989، الذي يرى ان امتلاك القوة مع الاستعداد لتحقيق السلم، هو السياسة التي تستوجب انسحاب القوات الإسرائيلية الى خط يمكن الدفاع عنه، وعلى إسرائيل أن تعد نفسها لمنع هجمات مستقبلية باستخدام الاسلاك الشائكة ونشر قوات كثيفة عازلة. ويقول غولدبيرغ: «أنت لا تسمع كثيرا من الأميركيين اليهود عن فكرة الانفصال، على الرغم من أنها مقبولة بشكل واسع وسط المؤسسة الحاكمة في إسرائيل.. وأنا أعتقد أن حذف هذه الفكرة داخل أميركا قد أفقر النقاش، ويمكن القول أن الكثيرين من الأميركيين لم يتسلموا كل ما هو مطروح (في إسرائيل)». ولعلهم شاهدوا أكثر مما يجب من صور مرعبة، جعلتهم يغرقون ثانية في نقاش جديد حول الشرق الأوسط، ومثلما يقول داي، فان اليهود الأميركيين منقسمون فيما بينهم حتى مع مساندتهم لدولة إسرائيل. ويضيف داي: «إذا قام مهاجم انتحاري بعملية في بروكلين وقتل أطفالا هنا، فانا سأغضب بشدة، مثل أي واحد آخر. لكنني كيهودي، اشعر بالاستغراب لعدم التمكن من حل المشكلة. لو جلس عرفات وشارون مع بعضهما وأظهر كل منهما للآخر صور أحفاده، كيف سيكون بامكانهما ان يقوموا بقتلهم؟ نحن جميعنا بشر».

* خدمة «لوس انجيليس تايمز» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»