بوش أذهل مساعديه بانتقاله من سياسة «الابتعاد» إلى التدخل المباشر في الشرق الأوسط

TT

حتى قبل حوالي شهر ظل الرئيس الاميركي جورج بوش بعيدا عن التعقيدات المثيرة للجنون في النزاع العربي الاسرائيلي، ولكن منذ ان قرر المشاركة في جهود صنع السلام ادخل بوش نفسه في تفاصيل متعلقة بالدبلوماسية الى درجة اذهلت حتى بعض مستشاريه. فعندما كان وزير الخارجية الاميركية كولن باول في جولة بمنطقة الشرق الاوسط محاولا التوصل الى اتفاق لوقف اطلاق النار، كان بوش على اتصال معه بالهاتف مرة على الاقل يوميا، كما كان يجري اتصالات مع مستشارته لشؤون الامن القومي، كوندوليزا رايس، حوالي 12 مرة في اليوم. وعندما زار ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز الولايات المتحدة اخيرا، قضى بوش معه خمس ساعات وتوصل معه الى اتفاق حول مجهود سعودي ــ اميركي مشترك لاجراء الترتيبات اللازمة لاجراء محادثات سلام. وعندما لاحت في الافق بوادر التوصل الى اتفاق بسحب القوات الاسرائيلية من محيط مقر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بمدينة رام الله، اجرى الرئيس بوش اتصالا هاتفيا برئيس الوزراء آرييل شارون لسحب القوات الاسرائيلية. واوضح مساعد بارز للرئيس الاميركي انه «شارك بصورة مباشرة ومكثفة» مما يشير الى خطأ من كانوا يعتقدون انه لن يشارك في هذه الجهود. قيادة بوش المكتشفة حديثا في قضية تعتبر تجربته وخبرته فيها ضئيلة، تتعارض مع ما عرف عنه كشخص حساس تجاه التفاصيل والفوارق الدقيقة. بيد ان معدل إلمام وادراك بوش لجوانب النزاع العربي ـ الاسرائيلي عكس نمطا بات اكثر وضوحا في مجموعة من القضايا الشائكة مثل استراتيجية الاسلحة النووية والجمارك على واردات الصلب وتمويل بحوث الخلية الجذعية. ووفقا لمساعدين واشخاص آخرين تعاملوا معه، فإن بوش يحجم في بعض الاحيان عن الخوض في موضوع جديد في البداية، لكنه سرعان ما يطالب في نهاية الامر بتزويده بالمعلومات ذات الصلة من الطاقم العامل معه، كما يستمع للجدل والنقاش الذي يدور بين اعضاء ادارته ويخرج في النهاية بحصيلة من المعلومات والتفاصيل اكبر مما يعتقد بعض الذين يقللون من شأن قدراته. واعرب السيناتور تشاك هاغيل، عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري الذي انتقد قبل عام عدم اشتراك بوش وإلمامه بصورة كافية بالامور وتفاصيل السياسات، عن اعتقاده بأن مشاركة الرئيس بوش بصورة نشيطة في عدد من القضايا ناتجة عن واقع الاحساس بمسؤولية الحكم. خلال فترة عمله كحاكم لولاية تكساس لمدة ست سنوات، نجح بوش الى حد كبير بفعل تمسكه ببضع رؤى ومواقف عامة واعتقاده بعدم الحاجة الى التركيز على السياسة الخارجية. ويقول ايليوت نيشتات، عضو مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي، ان الكثير من المسائل التي اجبر بوش على معالجتها والتعامل معها كرئيس هي في واقع الامر قضايا لم يكن لديه حولها خلفية ومعرفة او تجارب واقعية. ويبدو ان الرئيس بوش تعلم القضايا ذات الصلة بالسياسة الخارجية بالتتابع، أي كل قضية على حدة وكلما تفرض قضية نفسها على الساحة.

ركز بوش خلال حملته الانتخابية عام 2000 على الاستراتيجية النووية للولايات المتحدة عندما توصل الى ان طرح مقترحات مفصلة حول نظام الدفاع الصاروخي ربما يجعل منه مرشحا اكثر مصداقية كقائد عام. كما تعلم السياسة الخارجية ذات الصلة بالصين من خلال الازمة التي تسببت فيها بكين باحتجازها في ابريل (نيسان) 2001 لطائرة استطلاع اميركية تعرضت لاضرار واعطال دفعتها الى هبوط اضطراري. وبات بوش اكثر ادراكا لجوانب العلاقات مع روسيا عندما توصل الى ان الدبلوماسية الشخصية وحدها هي الكفيلة باقناع نظيره الروسي فلاديمير بوتين بقبول نشر الولايات المتحدة لنظم الدفاع الصاروخي الاميركية. فضلا عن انه تلقى معرفة عاجلة حول الارهاب والسياسة الخاصة بمنطقة آسيا الوسطى بعد هجمات 11 سبتمبر (ايلول) الماضي بتعلمه اسماء المطلوبين من قادة «القاعدة» الذين يحتفظ بمعلومات عنهم في بطاقة على مكتبه.

وكجزء من تركيزه الراهن على الشرق الاوسط، من المقرر ان يلتقي بوش اليوم رئيس الوزراء الاسرائيلي، آرييل شارون، كما يلتقي غدا العاهل الاردني الملك عبد الله الثاني الذي يزور البيت الابيض في اللقاء رقم 13 لبوش مع زعيم عربي. اقتحام بوش لمجال السياسة الخارجية لم يكن خاليا من الاخطاء، فخلال الازمة مع الصين آثر بوش احداث ضجة حول القضية، وهو رد فعل ابدى بوش، او على الاقل مساعدوه، الندم تجاهه في وقت لاحق. اما جهوده الرامية لكسب تأييد عربي لدبلوماسية الولايات المتحدة في الشرق الاوسط، فقد تعثرت بسبب وصفه شارون علنا بأنه «رجل سلام».

منهج بوش ازاء القضايا الجديدة والمعقدة يتبع في ما يبدو اسلوبا متعجلا. فعقب تجاوز أي احجام سابق عن الدخول في قضية محددة، يتجه بوش في ما بعد الى التركيز على ذات القضية بصورة مكثفة ثم يدخل فيها في النهاية. فهو يظهر في البداية بموقف متصلب ينسجم مع ميله الى الآراء الواضحة «المعبر عنها بصورة لا لبس فيها». ولكن عندما تصطدم مواقفه المباشرة وغير المعقدة بأي عقبة، فإنه غالبا ما يتراجع. فعلى سبيل المثال، بدأ بوش مساعيه الدبلوماسية في الشرق الاوسط الشهر الماضي باعلان واضح تلخص في ان عرفات لم يعد يستحق ان يجرى التعامل معه، بيد ان بوش ساعد في نهاية الامر في انقاذ عرفات من الحصار الذي كان مضروبا حول مقره بمدينة رام الله، كما جدد اعتراف الولايات المتحدة بعرفات زعيما للفلسطينيين. وكما هو واضح، فإن صورة بوش الحالية تعكس واقعه كرئيس يواجه نزاعا بين دواخله كمحافظ والمواقف الاكثر اعتدالا لمستشاريه، لكنه غالبا ما يختار الطريق الاكثر اعتدالا. ويعتقد هاغيل ان بوش نجح في «اقامة توازن جيد بين عقله وقلبه». ويقول هاغيل: «تتضمن الرئاسة نزاعا يوميا هائلا ينتزع الرئيس من عواطفه ومعتقداته وقيمه من ناحية، ومن الناحية الاخرى هناك الواقع المتمثل في عالم غير مستقر يجبر الرئيس على التكيف والتوفيق سعيا لتحقيق الاهداف الاكبر والاكثر اهمية»، وعلى حد تعبير هاغيل، فإن الرئيس بوش «وجد مركز ثقله في الكثير من جوانب هذا الواقع».

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»