فرنسا: تعيين السناتور رافارين رئيسا للحكومة والأنظار تتجه إلى الانتخابات التشريعية

شيراك يتجه نحو تشكيل حكومة انتقالية «ضيقة» وجوسبان ينتقل إلى «منفاه السياسي»

TT

تسارعت وتيرة الاحداث السياسية امس في فرنسا بعد الانتصار الساحق الذي حققه الرئيس جاك شيراك في انتخابات الدورة الرئاسية الثانية على منافسه جان ـ ماري لوبن، مرشح الجبهة الوطنية واليمين المتطرف. وفيما كان مستشارو ومساعدو رئيس الحكومة ليونيل جوسبان يشرفون على نقل ملفاتهم وأغراضهم الشخصية في قصر ماتينيون، مقر رئاسة الحكومة، زار جوسبان قصر الأليزيه ليقدم استقالته الى شيراك من المنصب الذي تولاه طيلة خمسة اعوام. وبعد دقائق قليلة دخل جان ـ بيار رافارين، عضو مجلس الشيوخ ورئيس منطقة بواتو ـ شارانت مكتب الرئيس ليخرج منه بعد ساعة ونصف الساعة رئيساً للحكومة الجديدة التي يريدها شيراك استجابة لـ«الرسالة» الشعبية التي حملتها اليه الدورة الانتخابية الثانية.

ولأن جوسبان، الذي اعلن اعتزاله العمل السياسي، اعرب عن عزمه ترك قصر ماتينيون في السادس من مايو (ايار) على أبعد تقدير، فقد جرت بعد ظهر امس عملية التسلم والتسليم بينه وبين رافارين. وفيما غادر جوسبان رئاسة الوزارة الى ما يشبه «المنفى السياسي» في منزله الريفي في جزيرة «دو ريه» الواقعة قبالة مدينة «لا روشيل» الأطلسية، فقد انشغل الوسط السياسي ببورصة الأسماء المرشحة لتسلم حقائب وزارية. وينتظر ان تعلن تشكيلة الحكومة اليوم على أبعد تقدير.

ووفق اوساط الرئيس شيراك، فان الحكومة الجديدة المنوط بها التحضير للانتخابات التشريعية الشهر القادم والبدء بتنفيذ وعود والتزامات شيراك الانتخابية، ستكون ضيقة، محصورة الاعضاء، بحيث لا تتجاوز الخمسة عشر وزيراً، يساعدهم عدد من الوزراء المفوضين ووزراء الدولة. ومن الاسماء المطروحة في بورصة التشريحات نيول فونتان، رئيسة البرلمان الاوروبي السابقة، وميشال بارنيه، المفوض الاوروبي، وميشال ـ أليو ماري، رئيسة الحزب الديغولي، ونيكولا سركوزي الذي كان مرشحاً لرئاسة الحكومة وكذلك المرشح الآخر السيئ الحظ فيليب درست ـ بلازي، وزير الصحة السابق المنتمي الى الاتحاد الديمقراطي الفرنسي (وسط) وفرنسوا فيلون، النجم الصاعد في الحزب الديغولي، والمرشح لحقيبة الدفاع، ودومينيك دو فيلبان، الأمين العام لرئاسة الجمهورية والعقل المدبر للرئيس شيراك وهو مرشح لوزارة الداخلية.

ولم يكن اختيار رافارين بمثابة مفاجأة. فرغم ان هذا الرجل لم يتقلد في السابق سوى منصب وزاري هامشي في حكومة آلان جوبيه ما بين 1995 و1997، فان خيار شيراك وقع عليه لأنه يجسد الانفتاح والتجديد، فيما كان اختيار سركوزي سيفسر على انه استكمال لهيمنة الحزب الديغولي واليمين على كل مؤسسات الدولة والاتجاه نحو سياسة يمينية واضحة اقتصادياً واجتماعياً، الامر الذي يتناقض مع الاجماع الذي تحقق حول اسم شيراك وحصوله على 82% من الاصوات التي جاءته من اليسار واليمين على حد سواء.

ويتميز رافارين، الذي ينتمي الى حزب الديمقراطية الليبرالية، بالبساطة والاقتراب من الناس وتعلقه بمدينة بواتيه، عرينه الانتخابي، المعروفة تاريخياً بالمعركة الشهيرة التي حصلت عام 732 بين الجيوش العربية القادمة من الاندلس (اسبانيا) وبين الجيوش الفرنسية بقيادة شارل مارتل. غير انه خصوصا حليف شيراك السياسي منذ العام 1995 واحد ابرز الداعين لقيام تجمع نيابي يضم كل اجنحة اليمين غير المتطرف، يكون غرضه دعم شيراك ومساعدته على حكم فرنسا، غير ان هذا التوجه يلقى معارضة فرنسوا بيرو، رئيس الاتحاد الديمقراطي (الوسط) وآلان مادلين، رئيس الحزب الديمقراطي الليبرالي، وكلاهما كانا مرشحين للمنصب الرئاسي.

لكن المهمة الاولى التي تثقل كاهل رافارين هي بلا شك التحضير لمعركة الانتخابات التشريعية. وبعيداً عن الغنائية التي دمغت كلمة شيراك عقب اعلان النتائج ثم خطابه المكتوب الذي القاه في ساحة «لا ريبوبليك» حيث تجمع الآلاف من الناس وفيه حديث عن الحرية والقيم والجمهورية والمستقبل والمصالحة الوطنية، فان السؤال الذي يشغل الاحزاب السياسية في فرنسا منذ ما قبل الخامس من مايو هو تحديداً الانتخابات التشريعية ومعرفة ما اذا كانت ستفضي الى بروز اكثرية نيابية من احزاب اليمين المعتدل تدعم شيراك. ووفق استطلاع للرأي قالت به مؤسسة «سو فريس» ونشرت نتائجه امس صحيفة «لو فيغارو»، فان 44% من الناخبين يتمنون فوز اليمين في الانتخابات التشريعية فيما يتمنى 41% فوز احزاب اليسار. اما النسبة الباقية (15%) فهي اما لا تريد الاثنين او لا رأي لها. وبموجب هذا الاستفتاء، فان اليمين مؤهل للفوز بالانتخابات عبر حصوله على 331 مقعدا كحد اقصى (271 مقعداً كحد أدنى). اما احزاب اليسار المتعدد، فلن يحصل سوى على 272 مقعداً كحدٍ اقصى وعلى 332 كحد ادنى، فيما الاكثرية المطلقة تتكون من 289 مقعداً.

لكن هذه العملية الحسابية لا تعني الكثير في الوقت الحالي وبالتالي يتوجب معرفة ما اذا كان اليسار سوف ينجح في الذهاب موحداً الى هذه الانتخابات. والتساؤل نفسه يصح على احزاب اليمين المعتدل. اما علامة الاستفهام الكبرى فتتناول تصرف الجبهة الوطنية. وبامكان هذه الجبهة، وفق نتائج الدورة الرئاسية الاولى، ان تحافظ على مرشحها في الدورة التشريعية الثانية التي ستجري في السادس عشر من الشهر القادم في 237 دائرة انتخابية حيث يمكنها ان تحصل على اكثر من 12.5% من اصوات الناخبين المسجلين وهو الحد الأدنى الذي يفرضه القانون لخوض الدورة الثانية. اما اذا اضيفت اليها اصوات الحزب اليميني المتطرف الآخر بقيادة برونو ميغريه، فبامكانها البقاء في 31.9 دائرة انتخابية. وفي كل هذه الدوائر، تستطيع الجبهة الوطنية ازعاج احزاب اليمين المعتدل، بما يفيد آلياً احزاب اليسار. وكانت هذه «الثلاثيات» قد اهلت التحالف اليساري، بقيادة جوسبان، لحكم فرنسا طيلة السنوات الخمس الاخيرة.

وبأي حال، فان فرنسا خرجت كبيرة من هذا الامتحان الرئاسي الذي شهد اتحاد اليمين واليسار من اجل قطع الطريق على جان ـ ماري لوبن. وامس، كتب جان ـ ماري كولومباني، مدير تحرير جريدة «لوموند» ان شيراك دخل التاريخ مرتين: الاولى لأن نسبة الاصوات التي حصل عليها في الدورة الاولى كانت الاقل التي يحصل عليها رئيس يسعى لتجديد انتخابه، والثانية لأن نسبة الاصوات التي حصل عليها في الدورة الثانية لم يسبقه اليها اي رئيس جمهورية، منذ ان اعلن النظام الجمهوري في فرنسا، وفق الانتخاب المباشر.

وقد غمرت الفرحة، بعد اعلان النتائج، جميع الفئات والاحزاب، باستثناء الجبهة الوطنية. وكان لافتاً في التجمع الضخم الذي حصل في ساحة «لا ريبوبليك» في باريس وفي عدة مدن فرنسية، الوجود الملحوظ لأشخاص من اصول اجنبية، كما رفعت في باريس وليون وتولوز اعلام جزائرية ومغربية. لكن هذا الاجماع حول شخص شيراك قد لا يدوم طويلاً اذ ان الانتقال من فرحة الانتصار على جان ـ ماري لوبن الى حقيقة التناحر السياسي والحزبي سيبدد، بلا شك، هذا الاجماع.