رام الله مدينة الطبقة الوسطى الفلسطينية دفعت ثمنا فادحا

أطباء يرصدون ارتفاعا حادا في حالات الأمراض العصبية والنفسية * أوضاع اقتصادية صعبة ودمار هائل في البنية التحتية وتوتر في العلاقات الاجتماعية ومشاعر مرارة شديدة

TT

تعتبر اصلاح جاد، المحاضرة بجامعة بير زيت القريبة من رام الله، والتي تلقت تدريبها في بريطانيا، تجسيدا للتطلعات الفلسطينية. انها تعيش في منزل حجري كبير تظلله شجرة جوز ضخمة، وتسافر كثيرا الى الخارج، كما انها اسست مجموعة نسائية ظلت تحث الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عبر السنوات الماضية على احترام الديمقراطية وحكم القانون. وكانت تلك مهمة صعبة واصبحت اكثر صعوبة حاليا. وفي الوقت الذي تقوم فيه الجرافات بازاحة الحطام الذي خلفته وراءها القوات الاسرائيلية بعد شهر احتلت فيه هذه المدينة الواقعة على قمة الجبل، تخلت مجموعة اصلاح جاد عن اجندتها العادية لتلتفت الى مهام اكثر الحاحا، وعلى رأسها الحصول على الاغذية والمأوى والاثاث للفلسطينيين الذين فقدوا وظائفهم والذين دمرت ممتلكاتهم.

قالت اصلاح المولودة في مصر (50 سنة)، والمعروفة بدفاعها عن قضايا المرأة: «قررنا تحويل كل اهتمامنا حاليا الى اغاثة المحتاجين. لا يمكنك ان تتحدث الان عن التدريب او المحاماة او التحرير. هذا مستحيل».

ان التحولات التي طرأت على اولويات اصلاح وزميلاتها، توضح الى أي مدى تغيرت الخريطة الفلسطينية ـ المؤسسات المدنية والاقتصاد والنسيج الاجتماعي والنفسي ـ من جراء الغزو الاسرائيلي لرام الله وخمس مدن فلسطينية اخرى في الضفة الغربية. فبعد فترة من التفاؤل والرخاء النسبي في اعقاب اتفاقية اوسلو للسلام عام 1993، وجد الفلسطينيون في هذه المدينة التي يسكنها 40 الفا، اغلبيتهم من الطبقة الوسطى، والتي تقع على بعد 12 ميلا الى الشمال من القدس، وجدوا انفسهم في مواجهة الجريمة والصدمات الاجتماعية والفرص الضائعة والرغبة العارمة في الانتقام.

وربما تكون رام الله من النقاط الجيدة التي يمكن الانطلاق منها لتقييم تداعيات الغزو الاسرائيلي وآثاره على الفلسطينيين. وباعتبار رام الله المركز التجاري والسياسي الاساسي للضفة الغربية، فانها تعكس قمة التطلعات بالنسبة لاغلب الفلسطينيين، ولكنها في نفس الوقت تدفع افدح ثمن واعلى ضريبة للمواجهة مع اسرائيل التي بدأت مع اندلاع الانتفاضة قبل 19 شهرا، بعد انهيار محادثات السلام في كامب ديفيد.

الحقت اسرائيل دمارا هائلا بالبنية التحتية والمؤسسات المدنية برام الله، بما فيها مختبر للطب الشرعي، بني بمساعدة فرنسية، ودمر بشحنات ناسفة، حسب تقارير الشرطة هنا. وكانت اثار العدوان على الاقتصاد ماحقة، اذ توقفت الامدادات عن التجار واختفى الزبائن والمشترون لانعدام المال والوظائف. كما ان اعمال البناء توقفت تماما.

ولكن الاثار الاعمق والاكثر بقاء هي في نفس الوقت مستعصية على القياس. ويقول بعض الفلسطينيين انهم يلاحظون توترا خطيرا في العلاقات الاجتماعية التي ظلت تشد مجتمعهم خلال 35 سنة من الاحتلال العسكري الاسرائيلي، وخلال انتفاضتين بدأت اولاهما عام .1987 ويورد هؤلاء حادثة اعدام ثلاثة فلسطينيين في ميدان المهد، يوم 22 ابريل (نيسان)، لاتهامهم بالتعاون مع الاسرائيليين، كما يشيرون الى ازدياد حالات النهب التي قام بها فلسطينيون اقتحموا بعض المحال وسط المدينة في خضم القتال الذي كان دائرا الشهر الماضي.

قال محمود شويل، اخصائي الامراض النفسية الذي يدير مركزا لعلاج ضحايا التعذيب: «ينتابني قلق حقيقي بالنسبة للمجتمعين الفلسطيني والاسرائيلي. فكل من يتعرض للعنف يمكن ان يسقط نزعاته العدوانية على المجتمع، سواء كان ذلك سرقة او قتلا».

وعلى نفس المنوال يقول خبراء الصحة العقلية ان هناك ارتفاعا حادا في حالات الاكتئاب والتوتر النفسي وغير من ذلك من الامراض النفسية. وفي احدى هذه الحالات التي اثارت اهتماما واسعا، اصيبت الصيدلانية ايمان طيطي، بثلاث طلقات في رجليها عندما اقتحمت في الشهر الماضي موقعا عسكريا اسرائيليا خارج مقر ياسر عرفات مطالبة باطلاق سراح زوجها. وكانت في حالة من الانفعال الهستيري الشديد.

قالت ايمان، (31 سنة)، وهي تتماثل للشفاء في شقة اسرتها: «لم اكن استطيع النوم. فقدت عقلي تماما».

ان كثيرين من الفلسطينيين قد تمكنوا من التحكم في مصائرهم بعد ست سنوات من تسليم المدينة الى السلطة الفلسطينية. ولكنهم وجدوا انفسهم وبصورة مفاجئة يواجهون مستقبلا مجهولا.

قالت عديلة العيدي، (35 سنة)، مديرة مركز ثقافي برام الله: «الدمار الذي حدث في التركيبة النفسية كبير. كنا نعيش في امان. ولكننا الآن نتوقع عودة الاسرائيليين في كل لحظة».

وقال برهان عودة، (37 سنة) مدير فندق سيتي ان: «في الحقيقة نواجه واقعا مظلما، مظلما. وبدون نهاية الاحتلال لا يمكن ان يكون هناك استقرار مطلقا». وقد اسس الفندق الذي يديره قبل عام واحد بدعم من ممول فلسطيني اميركي كان يأمل في الاستفادة من فترة الرخاء.

ويقول الكولونيل منصور، ان سبعة من اعضاء شرطة المرور لقوا مصرعهم. كانت القوات الاسرائيلية قد غادرت رام الله يوم 21 ابربل (نيسان) وانسحبت من المنطقة حول مقر عرفات صباح الخميس بعد موافقة عرفات على محاكمة ستة من الفلسطينيين المطلوبين من قبل اسرائيل.

ولكن الفلسطينيين يبذلون قصارى جهدهم للعودة للحياة العادية. وقد تمكنت الجرافات من اعادة فتح الطرق المغلقة وازيلت الاوساخ من جوانب الطرق. وعادت الكهرباء والمياه الى اغلب احياء المدينة، وفي قاعة مجلس المدينة يحاول الموظفون استعادة المعلومات من اجهزة الكومبيوتر التي حطمها الاسرائيليون. وكان بستاني يعتني بالزهور قريبا من مدخل البناية.

قال عمدة المدينة يعقوب رباح، الحاصل على درجة في الهندسة المدنية من جامعة ديترويت: «نحن في الواقع افقنا. ويحاول كل شخص في فريقنا اعادة الامور الى سابق عهدها، وبأسرع فرصة ممكنة».

ولكن رباح اعترف بأن الحياة ليست عادية عندما حوصر بالاسئلة. فالمدينة تعتمد على الضرائب والتراخيص للصرف على الخدمات الاساسية، مثل تصريف الاوساخ. ولكن لان البطالة وصلت الى 50% فلا احد يستطيع ان يدفع الضرائب كما قال رباح، واضاف «انني اتوقع ان يكون دخلنا صفرا».

ويقدر منصور، مدير شرطة المرور، ان الاسرائيليين ربما يكونون قد دمروا 80% من من البنية التحتية الخاصة بالشرطة خلال الـ19 شهرا الماضية، ومن ضمنها المعمل الجنائي واغلب زنازين السجون. وقد وجهت اسرائيل ضرباتها الى مباني الامن الفلسطيني في مناسبات عديدة وخاصة بعد حدوث هجوم انتحاري، مدعية ان عرفات لم يبذل الجهد الكافي لايقاف الانتحاريين.

كثير من الاعمال متعثر وبعضها اغلق ابوابه تماما. كان راجي نجار، على سبيل المثال، وحتى وقت قريب، يدير محلا لتسليف شرائط الفيديو في مبنى بوسط المدينة. ولكن القوات الاسرائيلية حولت المبنى الى مركز للتحقيق وهو يتهمها بسرقة 600 شريط وبلاي ستيشن واجهزة فيديو.

وينتاب الفئات الاكثر حظا مثل المحاضرين بالجامعات شعور مماثل باليأس. وتذكر اصلاح جاد، المحاضرة بالجامعة، حادثة تتعلق برجل شرطة فلسطيني شاب، كان صديقا لابنها وكان زائرا منتظما لمنزلها. كان الشاب مع 40 من رجال الشرطة المسلحين، داخل مبنى حاصرته القوات الاسرائيلية. وقد اتصل بمنزلهم طلبا للمساعدة. وقد اتصلت اصلاح جاد في قمة يأسها بالهيئة البلدية للكهرباء وترجت المسؤولين قطع الامداد عن الحي الذي يحاصر فيه الشاب حتى يتمكن هو والاخرون الذين معه من الهرب تحت جنح الظلام. ولكن العامل على الطرف الاخر ضحك وقال لها انه لا يستطيع مغادرة الحمام الذي يختفي فيه نسبة لكثافة النيران المصوبة الى مبنى الهيئة. ثم اتصلت بالهلال الاحمر الفلسطيني دون جدوى. قالت السيدة جاد: «كان يتصل بنا كل دقيقتين. وشعرت انني سأفقد عقلي». في النهاية توقف الشاب عن الاتصال وعرفت هي بعد 11 يوما انه قتل. قالت انه قتل في مواجهة مع الاسرائيليين ولكنها لم تعرف التفاصيل.

قالت السيدة جاد انها، مثلها مثل كثيرين، كانت تعتقد ان السلطة الفلسطينية ستتحول من منظمة ثورية الى دولة ديمقراطية تتسم بالشفافية، «كنت اعتقد اننا نتوجه نحو بناء دولة». ولكن احداث الشهر الماضي هزت قناعتها.

وبالنسبة للمجتمع الفلسطيني فان الجرائم الكبرى تعتبر احداثا نادرة. ويفخر الفلسطينيون بانهم قادرون على التمسك بالقيم التقليدية والروابط الاجتماعية في وجه الاحتلال وعلى الرغم منه. ولكن الهجوم الاسرائيلي الاخير جعل بعض الفلسطينيين يشكون في هذه المسألة ايضا. ومع ان رجال الاعمال يتهمون الاسرائيليين باغلب السرقات واعمال النهب التي حدثت الشهر الماضي، الا انهم يقولون ان بعض الفلسطينيين مسؤولون عن عدد من الجرائم. وقال يوسف طاحون، (26 سنة)، ان الفلسطينيين سرقوا ما قيمته 731.16 دولارا من المعدات من محله لاجهزة الكمبيوتر بوسط رام الله وان ذلك حدث في الايام الاولى من الغزو.

واصيب اخرون بانزعاج كبير من جراء الفوضى التي سادت انحاء رام الله، في الساعات الاولى من انسحاب اسرائيل من المدينة. ولان الشوارع كانت خالية من الشرطة، فقد قام مسلحون بنقل الرجال الثلاثة المتهمين بالتعاون مع اسرائيل، في اليوم التالي للانسحاب، الى ميدان المهد وسط المدينة واطلقوا النار على ايديهم وارجلهم من مسافة قريبة وهم يطلقون صيحات الالم. ومع ان مثل هذه المشاهد حدثت في بعض الاماكن بالضفة الغربية، ولكنها لم تكن حدثا مألوفا في رام الله. وكان بعض المشاهدين يرسلون صيحات الاستحسان وبعضهم حاول عرقلة سيارات الاسعاف من الوصول الى الجرحى. وقد توفي احد الرجال فيما بعد.

قال عمدة المدينة رباح: «لا احد يمكن ان يوافق على هذا العمل. الشرطة عادت الان الى الشوارع وسيتم تطبيق القانون».

وربما يتضح ان استعادة التوازن النفسي للفلسطينيين تمثل تحديا كبيرا. وقال شويل، الطبيب النفسي، ان 55% من الاشخاص الذين اجرت منظمته بحوثا عليهم كانوا يعانون من اضطرابات نفسية من اثر الصدمات، مثل الارق والقلق وصعوبة التركيز، وقال ان هذه النسبة ستكون اعلى حاليا. واحدى الامثلة التي يوردها شويل هي الصيدلانية ايمان طيطي، وهي احدى مريضاته. وتعاني مما يصفه شويل بانه «اضطراب نفسي حاد» وذلك على اثر اعتقال الاسرائيليين لزوجها في اليوم الثاني لغزوهم.

وتذكر ايمان وزوجها سمير، ان الاسرائيليين في بداية غزوهم، كانت قواتهم تذرع الشوارع بمكبرات الصوت وهي تأمر الرجال بين 16 و45 بالتجمع في مدرسة قريبة من هناك. واعتقد زوجها سمير الذي تلقى تعليمه في بريطانيا انه لن يستغرق سوى ساعات قليلة يعود بعدها الى منزله، ولكنه اعتقل ونقل الى معسكر اعتقال مؤقت خارج رام الله ولم يعد لمدة اسبوع كامل. ولم يكن لدى زوجته اية فكرة حول مكان اعتقاله، كما لم تكن تعرف ما اذا كان على قيد الحياة. ولذلك انتابها قلق شديد على زوجها وعلى نفسها وعلى بناتها الثلاث اللائي تبلغ اعمارهن بين ستة اشهر وخمس سنوات. كانت المدينة خاضعة لحظر التجول وكان قتال عنيف يدور في الشوارع، مما جعلها عاجزة عن مغادرة منزلها لجلب الطعام او الشراب. قالت انها اصيبت بانهيار عصبي بعد ذلك. وجرت حتى مقر عرفات حيث ضربتها القوات الاسرائيلية بالرصاص، ربما لانها اعتقدت انها انتحارية.

قال سامر الطيطي الذي عاد من المعتقل ليجد زوجته بالمستشفى وبينما تقوم شقيقته برعاية بناته، انه لن يغفر للاسرائيليين ما فعلوه هنا. قال: «انا اشعر بمرارة شديدة. ليس هناك أي شعور بالامان هنا. يمكنهم في كل لحظة ان يقتلوا كما يحلو لهم. يمكنهم ان يعتقلوك اذا فعلت شيئا او لم تفعل. انا رجل يؤمن بالسلام، لكن ليس هذا السلام الذي يحاولون فرضه علينا».

*خدمة واشنطن بوست ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»