شاهد على كابل ـ قبل سقوط طالبان وبعده (4) * جدل حول إعادة تماثيل بوذا في باميان وعودة تجمعات شرب الشاي الأخضر مساء في المقاهي

أنبوبة زجاجية استخدمها رجال طالبان في المحاكم لقياس طول اللحى * الفانلات الرياضية لأشهر الفرق الأوروبية وأغاني البوب في سوق كابل

TT

يقف رجل المرور الافغاني عبد الحق في ميدان اريانا في قلب العاصمة الافغانية كابل حائرا وسط الفوضى المرورية وابواق السيارات التي تصم الآذان في طريقها الى شارع مسعود الكبير قبل ان تنحرف بمحاذاة مقر وزارة الخارجية، وتمر امام مركز الشرطة والسجن الكبير حيث يحتجز بعض اعضاء «القاعدة»، من بينهم حسب المصادر الرسمية مواطن سعودي ومواطن مصري اسمه محمود حبيب يحمل الجنسية الاسترالية.

وتهدئ السيارات من سرعتها عند حواجز التفتيش الامنية في شارع مسعود قبل الاقتراب من مقر السفارات الاوروبية والايرانية والتركية، وجميعها قد اعيد طلاء جدرانها من الخارج بألوان فاتحة تناسب مرحلة ما بعد طالبان.

وامام مقر حديقة كابل المركزية، او «هايد بارك كابل»، ظهرت عدة مطاعم ومقاه الى جانب مطعم هرات الذي يقدم المشويات والاكل الافغاني، وهو المطعم الوحيد بالعاصمة كابل الذي كان يستقبل الزوار الاجانب قبل سقوط طالبان، غير ان المطاعم الافغانية طرأ عليها عامل جديد لم يكن في الحسبان، وهو تجمع المواطنين منذ ساعات المساء لشرب الشاي الاخضر، ومشاهدة الافلام الهندية المدبلجة في التلفزيون.

* مطعم هرات الملجأ الوحيد للصحافيين

* ويظل مطعم هرات الملجأ الوحيد للصحافيين ومراسلي التلفزيون الاجانب القادمين. ونوعية الطعام فيه افضل بكثير من مطعم فندق الانتركونتيننتال الذي يتصدره نموذج كبير لتماثيل بوذا في باميان، ولم تسلم هي الاخرى من معاول التخريب لرجال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لطالبان. ونموذج تماثيل باميان في مطعم الانتركونتننتال من عمل الفنان الافغاني المتميز امان الله حيدر زادة وهو في الخمسينات من العمر، ويلف شعره على هيئة ضفيرة تتدلى من الخلف وسط كتفيه. وقد عاد الفنان حيدر زادة الى العاصمة كابل فور سقوط طالبان، والتقيته في مطعم الفندق عدة مرات على الافطار، وهو صاحب مدرسة فنية متميزة ترى وجوب اعادة بناء احد تماثيل بوذا في باميان، وترك الاخرى مدمرة ليرى العالم فظائع فترة السنوات الخمس الحالكة التي سيطرت فيها طالبان على الحكم في افغانستان.

ويرى الفنان حيدر زادة ان بناء تماثيل بوذا في باميان سيوفر الكثير من فرص العمالة لابناء وطنه، واضاف ان هناك اتصالات مع ايطاليا وسويسرا لتمويل المشروع.

ويعارض سيد مخدوم رحيم وزير الاعلام والثقافة الافغاني مشروع بناء تمثال بوذا، رغم انه استاذ جامعي متخصص في الفنون الجميلة، ويدرس المخطوطات الاسلامية في جامعة كابل، وبمكتبه بمنطقة بل باغ عمومي بوسط كابل، مخطوطة ذات تصاوير جميلة من الشاهنامة للفردوسي في درج مغلق اسفل صورة جدارية معلقة للقائد الافغاني احمد شاه مسعود. ويقول ان المشروع برمته سيكون تزييفا تاريخيا للاثر الافغاني. علما بأن منظمة اليونسكو تعتبر كل ما مر عليه مائة عام على الاقل اثريا.

وعلى بعد عدة امتار من مطعم هرات الشهير، ثمة متجر يبيع اجهزة الكومبيوتر الشخصية، وقطع الغيار الالكترونية، وامامه نسوة يرتدين البرقع الشهير في انتظار خروج زبائن المطعم لسؤالهم عما يجودون به من العملة الافغانية التي تدهورت كثيرا وبلغ سعر الدولار عند صراف فندق الانتركونتننتال نحو 28 الف افغاني.

والمشاهد في كابل اليوم تتميز باختفاء آلة القمع الطالبانية الممثلة في رجال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من مسرح الحياة اليومية. وامام متاجر السجاد المنتشرة في السوق او في شارع «تشيكن ستريت» أو «اكسفورد كابل» الذي يقصده السياح والصحافيون تجد خليطا من المتبرقعات، وكاشفات الوجه، وصيحات اصحاب المتاجر وهم يعلنون عن تخفيض الاسعار.

ويتحدث المراقبون في العاصمة الافغانية عن ازدياد حالات الجريمة والسرقات المسلحة بمعدلات اكثر مما كانت معروفة في عهد طالبان، الذين فرضوا الامن بقوة السلاح، واغتالوا الحرية الشخصية للسكان.

وفي «البازار» بوسط كابل يمكن ان تحصل على كل شيء بدءاً بالفانلات الرياضية لاشهر الفرق الاوروبية مثل مانشستر يونايتد ويوفنتوس وارسنال، الى جميع انواع الاسطوانات المدمجة الغنائية لاشهر الفرق الغنائية الاوروبية، وصور لفتيات شبه عاريات، وشرائط افلام الفيديو الاباحية، والواحد منها سعره يتعدى الـ50 دولارا.

وفوجئت بالمترجم التاجيكي احمد سيار (25 عاما) الذي يجيد البشتو والداري والفارسي والانجليزية، يطلب مني التقاط عدة صور له امام مدخل فندق الانتركونتننتال مع سائق الحافلة، التي اقلتني مع ستة صحافيين آخرين في جولة بالعاصمة كابل بدعوة من الخارجية البريطانية، بالكاميرا الرقمية التي اصطحبتها معي، سألته كيف سيأخذ الصور؟ فطلب مني ان احفظها على فلوبي ديسك حتى يستطيع ان يخزنها في كومبيوتره الخاص به.

احمد سيار اعتقله رجال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر التابعين لطالبان عدة مرات لان لحيته كانت خفيفة للغاية، ولم يستطع سيار ان يقنع قاضي المحكمة الشرعية بأنه «املط» اي ان طبيعته الجسمانية لم تمنحه شعر ذقن كافياً، ولكن القاضي الشرعي لم يقتنع بهذه الحجج الواهية، فسجنه ثلاثة ايام. وسبب ضيق قاضي المحكمة الشرعية ذرعا بالمترجم سيار كونه ضبطه يمارس لعبة كرة القدم في حي قلعة فتح الله شرق كابل، وهي من الرياضات والالعاب التي حرمها رجال طالبان، مثل لعب الورق والطاولة وصراع الديكة لانها تلهي الانسان عن ذكر الله. ومنعت طالبان كذلك التصوير الفوتوغرافي والتلفزيون. وبسبب تلك القيود الصارمة انتشرت محلات التصوير ومحلات بيع الاطباق الفضائية بعد سقوط طالبان.

يقول احمد سيار، الطالب في كلية الطب بجامعة كابل، ان جميع افراد عائلته باستثناء والده، حلقوا ذقونهم في اعقاب سقوط طالبان، ونصحه شقيقه الاكبر، وهو مهندس مسؤول عن الصيانة بمطار كابل التريث وعدم التسرع، والانتظار الى اليوم الثالث بعد اختفاء العمامات السوداء من العاصمة كابل، وذهبا سوية الى الحلاق القريب. ويضيف «لقد دفعني احد رجال طالبان بقوة الى داخل الزنزانة وهو يقول: اتريد ان تقلد الكفار.. عليك اللعنة». وبعد استيلاء طالبان على افغانستان كان لزاما على الرجال اطلاق اللحية وليس «سروال قميص»، اما النساء فمنعن من الخروج من المنازل الا بصحبة محرم وارتداء البرقع، وهو لباس ازرق اللون يغطي الجسم من الرأس الى اخمص القدمين. وحرمت البنات من بعد سن التاسعة من التعليم.

* أنبوبة زجاجية لقياس طول اللحية

* ويشير سيار الى ان رجال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كانوا يستخدمون في المحكمة الشرعية ضد المخالفين اسطوانة زجاجية لقياس طول اللحية التي كان من المفترض ان تكون قبضة يد واحدة، ومن الافضل قبضتين، واذا لم ينفذ شعر اللحية من الانبوبة الزجاجية فهذا يعني مثول المخالف لبنود الشريعة امام القاضي لتوقيع الحد والجزاء المطلوب. وكثيرا ما فتش رجال طالبان عن الشعر تحت الابطين، وكانوا يطالبون بحلاقته، وترك شعر اللحية.

ويقول نقيب الله ضياء المشرف على مركز «اريانا» لتعليم النساء المهن الحرفية مثل الخياطة والتطريز وعمل السجاد ومركز لتعليم اللغتين الانجليزية والالمانية بدعم مباشر من السفارة البريطانية بكابل، التي زودتهم اخيرا بجهاز كومبيوتر، ووعدت بآخر، انه قد تعرض للضرب في عهد طالبان، وانذروه مرة كتابيا بضرورة اغلاق «المدرسة السرية» التي كان يشرف عليها، وكان ضبطه في المرة الثانية يعني ارساله الى الملعب الرياضي بوسط العاصمة لتوقيع الحد عليه.

وتقول مساعدته شفيقة معابر، الاستاذة الجامعية، انها فرت مع نقيب الله ضياء قبل اربعة شهور من سقوط طالبان الى بيشاور في باكستان، بعد تلقيها خبرا من الاوساط الطالبانية عن قرب اعتقالها.

وتقول شفيقة معابر ان لديهم الآن 800 تلميذ بمركز التدريب في كابل، و500 تلميذ آخر في مدينة لوجار يتراوح اعمارهم ما بين العاشرة والـ45.

وهناك بعض المنظمات غير الحكومية التي تعمل بكثير من الجد لرفع المعاناة عن كاهل الشعب الافغاني مثل منظمة «كير» التي تعمل في سبع مقاطعات حاليا بشرق افغانستان، هي كابل، ووارداك ولوجار، وباكتيا، وخوست، وغزني مسقط رأس الملك محمود غزنوي. ووسعت منظمة «كير» انشطتها الى جنوب افغانستان مثل زبيل، وقندهار، والى الغرب ايضا.

* ارتفاع نسبة الجريمة في مناطق الهزارة

* ورغم مظاهر الجاه التي ظهرت على بعض رجال الاعمال مثل عبد الله، زوج الصحافية الافغانية شكيرة التي تعيش في فيلا فخمة على بعد امتار من قصر الملك ظاهر شاه بوسط حي وزير اكبر خانة، الا ان هناك الآلاف من المهاجرين الافغان العائدين من بيشاور وكويتا في باكستان لا يستطيعون توفير ايجار منزل وهو في حدود الـ50 دولار شهريا.

وهناك ارتفاع في نسبة الجريمة بالمنطقتين الخامسة والسادسة بالعاصمة كابل، وتتعرض دوريات من القوة الدولية «ايساف» الى هجمات في غرب كابل حيث ازدادت اعمال العنف والسرقة في الايام الاخيرة، في الوقت الذي تشتبه فيه القوة الدولية في وقوف عناصر من التحالف الشمالي وراء هذه الحوادث.

وتبدي قوة «ايساف» قلقها ازاء المنطقة الخامسة والسادسة ايضا ولكن بدرجة اقل، وكشفت عن ازدياد معدلات الجريمة في الاحياء الواقعة غرب العاصمة حيث تعيش غالبية من الهزارة. الا انه سبق لكابل ان شهدت الاسوأ خلال حرب فصائل المجاهدين في التسعينات عندما تم تدمير المدينة بالكامل قبل فرض سيطرة طالبان عليها عام 1996.

ويقوم الجنود بدوريات على مدار الساعة في جميع ارجاء المدينة وضواحيها. وما زال حظر التجول ما بين العاشرة ليلا والخامسة صباحا ساري المفعول كما كان خلال حكم طالبان التي تمكنت من وقف العنف وفرض الامن.

وفي جميع احياء كابل هناك عشرات الآلاف من الاطفال يلعبون في تراب الشوارع او مياه المجاري على الجانبين من مخلفات الامطار القليلة، وهناك الكثير من هؤلاء الاطفال داس على ألغام من مخلفات الحرب ضد الروس او فصائل المجاهدين، وبعض هؤلاء الاطفال قتل او فقد اطرافه وما زال يسير بأرجل صناعية.

ورغم مرور ستة اشهر على فرار طالبان من كابل، لم تظهر بعد اية مؤشرات على وجود برامج اعادة بناء هائلة كان العالم الخارجي قد التزم بها. فقد تعهد المانحون الاجانب بتقديم مليار و800 مليون دولار اميركي على هيئة «دعم عاجل» خلال هذا العام. وحتى الآن يبدو ان أياً من هذه المبالغ لم تصل بعد. ويقول وزير الاعلام الافغاني سيد مخدوم رحيم «لقد تلقينا الكثير من الوعود من الغرب، وفي انتظار تحقيق بعضها».

ولقد افرجت واشنطن عن ما يقرب من 200 مليون دولار من الاموال الافغانية التي تم تجميدها خلال الاشهر الاخيرة من حكم طالبان. لكن حتى تلك الاموال يتم تسليمها على مراحل بطيئة، الامر الذي زاد من صعوبة الوضع الذي تتعامل معه حكومة حميد كرزاي المؤقتة وجعلها غير قادرة على دفع مرتبات موظفيها.