أمل السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ابتعد كثيرا.. لكنه لم يتلاش تماما

TT

من التجارب المفيدة والحافزة على التأمل، ان يعيد الكاتب قراءة مقالاته القديمة حتى اذا لم يكن قد وصل بعد الى مرحلة كتابة المذكرات. وعندما هممت بالعودة الى القدس في مهمة صحافية، خطر لى ان اقرأ المقالات التي سطرتها اوائل التسعينات عندما كنت اقيم هناك. كانت احدى المقالات الاخيرة التي كتبتها من هناك في اغسطس (آب) 1994، تستكشف روح الثقة التي كانت تملأ جوانح الاسرائيليين في ذلك الوقت، حين كانت اتفاقيات اوسلو مزدهرة وتملأ الجو بأريج التفاؤل والامل.

في ذلك الجو الذي كان الفلسطينيون يتطلعون فيه الى اقامة دولتهم، علقت قائلا:

«سيستغرق الامر بعض الوقت بالطبع، ولكن يبدو حتميا الآن ان الناس على جانبي النزاع، سيتمكنون من انقاذ انسانيتهم من الآثار الماحقة للفردية التي تسببها الحرب».

اقول وانا اطمئن نفسي، ان المسألة ربما استغرقت وقتا اطول مما تصورت. ولكننى لم اتمكن خلال الاسبوعين الماضيين، من ان اخفي عن نفسي الشعور بالصدمة واللوعة من العمق الذي وصله فقدان الثقة بين الاسرائيليين والفلسطينيين. الغاء الآخر بلغ منتهاه واصبح اسلوبا للحياة. وبعد شهر، او نحو ذلك، من الحظر المتواصل للتجوال والذي يطبق تحت تهديد اطلاق الرصاص على كل من تقع العين عليه، فان كثيرا من الفلسطينيين اصبحوا يعتبرون كل الاسرائيليين الذين يلمحونهم، وهم الجنود في هذه الحالة، قتلة وادوات للقمع والاضطهاد. ومن الجانب الاخر صار الاسرائيلي العادي يرى في كل فلسطيني مشروع انتحاري ويتعامل معه على هذا الاساس ويحتفظ بمسافة كافية تحميه من الخطر الداهم.

توقفت الحياة العادية بالنسبة للطرفين، الا ان الاحوال على الجانب الفلسطيني اكثر سوءاً بكثير، اذ اصبح الناس محاصرين في المدن التي يقيمون فيها بفعل الحواجز الاسرائيلية. ولا يوجد في الضفة الغربية او قطاع غزة من يستطيع ان يجزم ان الدبابات الاسرائيلية لن تعود دونما انذار لتبدأ باطلاق نيرانها.

توقف الكثيرون من الاسرائيليين عن الخروج ليلا وعن ارتياد المقاهي والاسواق والاندية المزدحمة التي يجد فيها الانتحاريون اهدافا سهلة لهجماتهم. وبعد ان شاهدوا 126 شخصا من بني جلدتهم يلقون حتفهم بهذه الطريقة، فقد صاروا يفضلون البقاء في منازلهم. انني اعرف مشاعر هؤلاء. قبل يومين، كنت في طريقى الى بقالة قريبة لاشتري بعض اللبان، ولكني لاحظت ان الشوارع محروسة بشرطة الحدود. لا بد ان معلومات قد وصلتهم بان هناك انتحاريا يستهدف هذا الحي. ولم استطع مقاومة شعوري بالقلق وبالغباء كذلك. كيف اخاطر بحياتي من اجل لبانة؟! وقد اندهشت فعلا برد الفعل لدى صديقين احدهما فلسطيني والاخر اسرائيلي، اختارا اللجوء الى حديقتي منزليهما، كملاذ من الارهاب الذي يستهدفهما معا. وقد فعلا ذلك دون تنسيق او معرفة بينهما. وعندما كنت جالسا تحت عريشة منزل احد اصدقائي الفلسطينيين في رام الله، بالضفة الغربية، وهو محاضر في الجامعة، وكانت الازهار تلقي ضوءا خافتا على المكان، كدت انسى مظاهر الدمار التي خلفتها القوات الاسرائيلية وراءها في كثير من انحاء المدينة.

قبل عدة ليال كنت جالسا مع ناشرة اسرائيلية في منزلها الهادئ بالقدس الغربية. كان مكان الجلوس تحت شجرة الكرز، وخلف الحيطان العالية التي تغطيها شجيرة ازهار الجهنمي الحمراء، هي المكان الوحيد الذي تشعر فيه صديقتى بالامان وتشعر ان بامكانها ان تسترخي بصورة كاملة.

هذان الشخصان، المفكران المتزنان، المتسامحان، المعتدلان، لا يفكر أي منهما حاليا في الاستماع الى الاخر واللقاء به عند منتصف الطريق. فقد تعرض كلاهما لقدر من الاذى من الطرف الاخر، بحيث لا يستطيع ان يستجمع من الثقة ما يجعله يتصور العيش مع الاخر كجار وصديق.

ولكن مع ذلك هناك ومضات من الامل. هناك المرأة الفلسطينية التي اتصلت بصديقتها الاسرائيلية قبل يومين لتقول لها ان ابنها الذي كان يؤدي الخدمة العسكرية بخير. كانت المرأة الفلسطينية قد ابصرت من خلال النافذة ابن صديقتها وهو يشارك في الحراسة. ومن الممكن تماما ان تكون الاسس التي امكن ارساؤها خلال السنوات القليلة التى ساد فيها السلام، قواعد ملائمة للبناء فوقها حينما يحين وقت البناء من جديد.

آمل فقط الا يستغرق الامر ثماني سنوات اخرى.

*خدمة «كريستيان ساينس مونيتور» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»