غينا الأفغانية تعود إلى فردوسها المفقود بعد غياب 23 سنة فتصعق لحجم الخراب

TT

يبدو مطار كابل كأنه شبح قادم من عصر متلاش آخر. فحزام الأمتعة الدوار، نزعت عنه تروسه على يدي أحد أمراء الحرب. هناك علامات بالروسية لرحلات طيران لم تتحقق أبدا. هنا في هذا المطار الباعث على الاكتئاب، حيث الأسلاك تتدلى كشرائط السباغيتي، وروائح المرافق الصحية تنتشر في الجو، حطت غينا حمرا عائدة بحثا عن فردوسها المفقود.

بعد 23 سنة على رحيلها تعود غينا حمرا إلى أرض طفولتها، إلى المكان الذي تتذكره دائما لزرقة سمائه الحادة، ولشوارعه الراقصة بالأضواء الملونة. اليوم، غينا بلغت سن التاسعة والثلاثين، ولديها طفلان في سن المراهقة، إضافة إلى نصف مليون دولار في حسابها في المدينة التي تقيم فيها، ستيرلين، في ولاية فرجينيا. مع ذلك، لم تشعر غينا حمرا يوما أنها ليست أفغانية. فعبر كل هذه السنين التي مرت بها أفغانستان ابتداء من التدخل السوفياتي، إلى الحرب الأهلية، إلى حكم طالبان، وما خلفته كل هذه الحروب من مقتل مليون فرد، وتشريد مليون آخر، كانت غينا تعيش في ولاية فرجينيا وتحلم في الوقت نفسه بهذا المكان.

عبّرت غينا حمرا عن هذا الشعور بالقول: «أنت تعرف الشعور عندما يكون هناك شيء أخذ منك في زمن طفولتك، وتريد أن تسترجعه».

استرجع مطار كابل، مؤخرا، حياته، ومع بدء الطائرات بالهبوط فيه، بدأ أبناء الطبقة الوسطى المنفيون بالعودة الحذرة إلى بلادهم، قادمين من مدن مثل باريس ولوس أنجليس وبيرك وأناديل، وفي المطار راحت حقائبهم تدفع بالأيدي فوق حزام الأمتعة العاطل.

ما الذي تحمله معك عندما تسترجع بلدك الذي فقدته طويلا؟ يحمل بعض العائدين من المنفى، وثائق ملكية عقارات. بعضهم يجر معه تصاميم كبيرة لإعادة بناء أفغانستان. في مطار كابل، تحول صندوق إلى شكل كروي تحت تأثير ضغط محتوياته الكثيرة، حيث اقحم فوق حزام الأمتعة العاطل.

قبل الشروع بالرحلة بيومين، شعرت غينا حمرا بالتوتر الشديد أثناء تهيئتها لحقائب السفر. فابنها ابراهيم، 15 سنة، ظل يحشو اكواما من الأشياء في صندوق متحرك مصنوع من المقوى، أما ابن عمه فراح يدفع بقطع مغسلة من الخزف، مخصصة لمحلات الحلاقة، داخل صندوق كبير.

قالت غينا: «اتمنى الا أتجاوز حدود الحماسة المعقولة». فهي لم تكن قبل بضعة أشهر، سوى أم عاملة، مع سيارة مارسيدس وقرض عقاري، ثم جاءت حرب أفغانستان، لتجذبها ليلة بعد ليلة إليها، عبر محطتي «سي إن إن» و«إم إس بي سي»، برفقة أكواب من الشاي وعلبة محارم ورقية.

مع حلول شهر ديسمبر (كانون الاول) الماضي، بلغ الزوجان قمة اليأس. قالت غينا آنذاك: «كفى تأففا، يجب أن يرجع أحدنا إلى البلد».

ولتنفيذ رغبتهما، وضعا خطة تقتضي بسفر الزوج أولا، للعمل متطوعا داخل أفغانستان، لمدة ستة أشهر، وأثناء ذلك، ستتحمل غينا، إضافة إلى عملها، مسؤولية التسوق والتنظيف والطبخ. وستقوم بالالتحاق بزوجها في مايو (ايار) الحالي للبقاء معه لمدة أسبوعين. والآن حلت هذه اللحظة. كانت تعلم أن الكثير من الناس لن يستوعبوا سبب سفرها، وسبب عواطفها وتشوقها لأفغانستان.

لم يكن عمر غينا، يزيد عن الأربع عشرة سنة عندما سقط النظام الملكي في أفغانستان، ومع دخول القوات السوفياتية، سنة 1979، هربت أسرتها إلى الولايات المتحدة، تاركة كل ما تملك وراءها.

فجأة أصبحت الأسرة غارقة في الفقر، ولم يكن أي من أفرادها قادرا على تكلم اللغة الانجليزية بشكل سليم. وفي مسكن الأسرة، لم يكن هناك سوى كرسي واحد. وحينما زارهم أحد الأصدقاء الدبلوماسيين القدامى بكت أم غينا تحت وطأة الحرج والشعور بالخجل.

في أول يوم لها في كابل، كان عليها أن تلف وشاحها الحريري لفتين حول رقبتها، أثناء تنقلها بسيارة الجيب التي كان الزوج يسوقها. كان يوما عابسا حقا. فشوارع كابل غارقة بالغبار، وضاجة بأبواق السيارات ودخانها الأسود، ومزدحمة للغاية بالدراجات، والنساء يبدين ملفعات بالبرقع. لم يكن في ماتراه عينيها صلة بالمدينة المنظمة التي تركتها قبل 23 سنة.

كانت غينا، بالطبع، تتوقع حدوث قدر من الخراب، لكن ليس لهذه الدرجة: بنايات منهارة بكاملها، بيوت بجدران محطمة مثل بيوت الدمى. أمامها جلس عجوز على بطانيته الزرقاء وسط طريق السيارات، وبرزت من تحتها ساقه الخشب. صاحت غينا: «آه يا إلهي»، ليتلبس وجهها ملامح الحجر.

أخيرا وصلوا إلى حي «المدينة الجديدة» الذي لم يلحق به الخراب. رفعت غينا رأسها بابتهاج، فالشوارع في هذه المنطقة تحفها المحلات بدلا من الأنقاض، هناك محل أثاث وعيادة طبيب أسنان ومخبز يعرض كعكات هرمية الشكل، وإذا كانت هناك آثار قليلة للهدم وتكسر بعض النوافذ، فان المشهد العام يبعث على الثقة بانطلاق سريع للعمل التجاري.

صاحت غينا، وهي تضغط برأسها على زجاج نافذة سيارة الجيب: «كنت آتي إلى هذا المكان للذهاب إلى السينما». كان هناك مطعم تحبه يحمل اسم «مطعم خالد». وصلت الأسرة آنذاك إلى نقطة تقاطع، كانت أمها آنذاك، تدير صالون حلاقة قريبا منها.

رددت غينا، وهي تقفز من السيارة: «هذا هو المكان الذي كان مسرح طفولتي».

فجأة، طرفت عيناها، عند مشاهدتها دكانا مملوءا بثياب نسائية ذات الوان بيضاء وقرنفلية، وفوق الدكان كان هناك يافطة: «دكان غينا» صاحت مبتهجة: «اسمي ما زال في محله».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»