المأساة المنسية في نابلس.. القوات الإسرائيلية أحدثت دمارا وخلفت ضحايا أكثر مما في جنين

TT

داخل الازقة الضيقة المزدحمة في قلب مدينة نابلس، ووسط حوانيتها الصغيرة ومنازلها القديمة، دارت الشهر الماضي معركة دموية ومدمرة ولكنها لم تشتهر. وعندما بدأ سكان المدينة يخرجون من مخابئهم ويقدرون الخسائر التي لحقت بالأسر والمنازل والمواقع الاثرية، توصل موظفو السلطة الفلسطينية ومراقبو اوضاع حقوق الانسان ومجموعات العون والاغاثة الى ان نابلس كانت الاكثر تضررا من كل مدن الضفة الغربية في الحملة الاسرائيلية التي تمت الشهر الماضي.

وقال رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون ان القوات الاسرائيلية اقتحمت الضفة الغربية لتدمير البنية التحتية لما يصفه بـ«الارهاب الفلسطيني». وقال ناطق باسم الجيش ان القوات الاسرائيلية وجدت داخل نابلس 18 ورشة لصناعة المتفجرات، و10 احزمة متفجرات معدة لتنفيذ هجمات انتحارية و7 صواريخ محلية الصنع. كان القتال عنيفا، ولكن تحديد حجم الخسائر في الارواح والممتلكات استغرق عدة اسابيع. قال ابراهيم مصلح الذي يدير فرع نابلس لوزارة الاشغال العامة التابعة للسلطة الفلسطينية والذي يريد ان يستأنف اعمال البناء من جديد: «يبدو ان احدا لم يكن يدري ما حدث هنا». فعندما غزت القوات الاسرائيلية مدينة نابلس، كانت انظار العالم موجهة الى القتال الذي كان دائرا في مخيم جنين للاجئين الذي يبعد 20 ميلا الى الشمال من نابلس، والى الحصار الذي كان مضروبا حول كنيسة المهد في بيت لحم التي تبعد 40 ميلا الى الجنوب.

لم تثبت التحقيقات المستقلة اتهامات الفلسطينيين التي اشارت الى ان مئات المواطنين لقوا حتفهم في جنين. وتشير التقارير التي صدرت عن منظمات حقوق الانسان الفلسطينية والاجنبية الى ان عدد القتلى كان حوالي 52 الى 54، بينهم حوالي 22 من المدنيين. كما ان كنيسة المهد كانت اصاباتها طفيفة كما تبدى بعد نهاية الحصار المثير، وقد تمكن مبعوث من قبل البابا يوحنا بولس الثاني من اقامة القداس هناك بعد يومين من انتهاء الحصار الاسرائيلي.

اما في نابلس فان تحقيقا اجرته احدى المنظمات الفلسطينية لحقوق الانسان توصل الى ان 75 شخصا قد قتلوا منهم 50 من المدنيين. ونتج القتل عن اصابات بطائرات الهليكوبتر من طراز «اباتشي ايه اتش 64»، وقذائف الدبابات ورصاص جنود المشاة، وذلك في مواجهة مجموعات من الشباب الفلسطيني مسلحة بالبنادق الآلية. وقال مصلح ان الفلسطينيين الذين قتلوا يبلغ عددهم 79، وهو عدد يشمل بعض الاشخاص من الذين قتلوا بالمخيمات.

وقال ناطق باسم الجيش الاسرائيلي ان جنديا اسرائيليا واحدا قتل اثناء الحصار الذي استمر 18 يوما وانتهى يوم 21 ابريل (نيسان). ولم ينف الجيش الرواية الفلسطينية حول عدد الضحايا ولكنه لم يصدر احصائية خاصة به.

ولحقت بالمدينة وضواحيها خسائر تقدر بـ114 مليون دولار، وهي جزء كبير من مبلغ 361 مليون دولار، قيمة كل الدمار الذي لحق بالضفة الغربية خلال الغزو الذي استمر شهرا، وذلك حسب تقديرات قامت بها للدول المانحة الامم المتحدة والبنك الدولي وحكومة النرويج.

وقال المحامي خضر شكيرات الذي يدير منظمة «قانون» الفلسطينية: «توصلنا الى ان الدمار الذي حاق بنابلس كان اكبر مما حدث في جنين». وكان تقرير الاضرار المشار اليه قد قدر ان الاضرار التي حدثت في جنين كانت 83 مليون دولار.

الجزء الاكبر من الاضرار في نابلس كان بسبب الدمار الذي الحقته الجرافات التي كانت تهدم المنازل اثناء تعقب خلايا المقاتلين في حرب الشوارع الضيقة في وسط المدينة. وقال السكان ان احدى هذه الجرافات سحقت بعض المنازل الحجرية القديمة على جانب تلة مرتفعة بحي قريون، مما ادى الى وفاة سمير الشوبي وزوجته وابنائه الثلاثة ووالده وشقيقته. وقد وجد عم وعمة له احياء تحت الانقاض، بعد عدة ايام.

ويقول تقرير المانحين ان الخسائر التي لحقت بوسط المدينة قدرت بـ42.5 مليون دولار. وبالاضافة الى المنازل المكونة من عدة طوابق والتي تقيم بها الاسر الممتدة، لحق الدمار بمسجد عتيق، ومصنع قديم للصابون وكنيسة يونانية ارثوذكسية وحمام يرجع الى العهد العثماني.

واستطاع زياد الصفدي (55 سنة) ان يصلح محل الخردوات الذي ظل يديره في وسط المدينة منذ عام 1982، عندما اطلق سراحه من سجن اسرائيلي قضى فيه 12 عاما بتهمة عضويته في منظمة فتح. وقال ان مصلح هو الذي دفع له ثمن الترميمات.

قال الصفدي وهو يتحدث عن مصلح: «جاء وكانت النقود في جيبه. واخرج النقود، وبدأنا العمل».

وتوقف الرئيس ياسر عرفات ليتحدث مع الصفدي خلال زيارته للمدينة الاسبوع الماضي. وقال للمحارب القديم انه من اولئك «العظماء» الذين قاوموا الاحتلال الاسرائيلي عبر السنين. وقال الصفدي انه رد على عرفات على النحو التالي: «ربما اكون عظيما ولكنني اريد ان اعيش». واضاف: «ان لي اطفالا علي ان اوفر لهم الطعام وادفع نفقات دراستهم».

ولم تبدأ الترميمات في المنزل القديم الواقع عبر الشارع من محل الصفدي، والذي تحول الى كومة من الحجارة والاسمنت. وقال الصفدي انه اصيب بصواريخ اطلقتها مروحيات خلال القتال. وعندما سئل عن سبب استهداف محله ومنزله قال الصفدي: «كان الحي كله مليئا بالشباب».

«الشباب» هو المصطلح الفلسطيني الشائع للمقاتلين الشباب المنتمين لمنظمات مثل الجهاد الاسلامي وحركة حماس وكتائب شهداء الاقصى التي تقول عن نفسها انها الجناح المسلح لحركة فتح. وكان هؤلاء الشباب سواء في نابلس او في غيرها من مدن الضفة الغربية هم الوحيدين الذين قاوموا مقاومة ذات شأن الحملة العسكرية التي شنها شارون يوم 29 مارس (آذار)، بعد سلسلة من عمليات انتحارية نفذها الفلسطينيون ضد اهداف مدنية داخل اسرائيل. وكانت المقاومة شرسة بصورة خاصة في شوارع نابلس، مما يفسر اتساع الدمار.

وارتفعت في كل انحاء المدينة صور الضحايا. هناك صورة كبيرة تظهر فيها عائلة الشوبي بكل افرادها. وما يزال بعض الشباب الذين يحملون بنادق ام 16 يظهرون في زوايا الشوارع ولكن قادتهم اما اعتقلوا من قبل القوات الاسرائيلية او لجأوا الى الاختفاء في اماكن آمنة.

اما في ما يتعلق باعادة البناء فقد لجأ اهل نابلس الى السلطة الفلسطينية. وقال مصلح انه تلقى 4000 طلب للمساعدة في ترميم ممتلكات مدمرة، وذلك في مدينة عدد سكانها 150 الفا. وقال ان المسح الاولي يشير الى ان هناك 100 منزل دمر دمارا كليا، بما فيها بعض المباني التاريخية التي كانت تقيم فيها بعض الاسر. وهناك 1000 منزل اخر لحقها دمار كبير ولكن يمكن ترميمها، كما ان 1500 منزل اصيب بدمار طفيف.

وقال مصلح ان الاسر التي اصبحت بلا مأوى سيصرف لها مبلغ 800 دولار لتدبير امورها. وتأتي هذه الاموال من اصحاب الاعمال والجمعيات الخيرية ومن سلطات البلدية. وقال ان السلطة الفلسطينية ليست لديها اية اموال من اجل اعادة التعمير. وقدر رفضت الحكومة الاسرائيلية منذ عام 2000 اعطاء السلطة الفلسطينية اموال الضرائب التي تجمعها من الفلسطينيين. وقال مصلح ان نابلس تحتاج الى 35 مليون دولار للبداية فقط في اعادة البناء. وقال انه رفع تقريرا الى رئاسة عرفات في رام الله والتقى بمنظمات ومجموعات من المانحين والحكومات لطرح قضيته. وقال: «حتى الآن لم نتسلم شيئا. لم نتسلم دولارا واحدا، بل لم يتعهد لنا مانح واحد من هذه البلدان بانه سيجود علينا بشيء».

ولم ينتظر المصلون في مسجد الخضراء مساعدات السلطة الفلسطينية فبدأوا بالاموال التي جمعوها من اصحاب الاعمال، بترميم المسجد العتيق الذي تحول من كنيسة الى مسجد، عدة مرات، متجاوبا مع تاريخ نابلس الحافل بالتقلبات.

ومن الناحية الاخرى تمكن الاب جورج عوض من جمع تبرعات من المصلين في كنيسة سان ديمتروس، الاغريقية الارثوذكسية، التي تعتبر معلما اخر من معالم المدينة، وبدأ في ترميمها. وقال ان الدمار الذي لحق بالكنيسة يقدر بـ55 الفا من الدولارات. وقال ان اللوحات التي وراء المحراب اصيبت بخدوش وانه سيطلب من الخبراء تقدير حجم التلف وكيفية الترميم. وقال: «ان كل لوحة من هذه اللوحات تساوي 10 الاف دولار ولكننا لا نريد ان نبيعها. اننا نريد ان نحتفظ بها وان نستمتع برؤيتها».

ويبدو ان الدمار الذي لحق بالكنيسة كان نتيجة تفجير اسرائيل لاحد مصانع الصابون المحلية. ويقول عوض ان المقاتلين لاذوا بهذا المصنع الذي امتلأ بالمتفجرات. ويقول ان احد الجنود الاسرائيليين شاهده وصاح: «اخرج من هنا ايها الرجل. اننا سنفجر هذا المكان بعد خمس دقائق».

وقال انه شاهد من مدرسة مجاورة انفجارا هائلا بعد ساعة من خروجه، وان مصنع الصابون كان قد تحول الى حطام وركام عند عودته. ودمرت معه كذلك استراحة كان الاهالي يأملون في تحويلها الى موقع سياحي بعد اتفاقيات اوسلو للسلام.

*خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»