الفرنسيون يختارون أعضاء برلمانهم اليوم وتوقعات بأغلبية مريحة لصالح شيراك تخلصه من «التعايش» مع اليسار

TT

41 مليون ناخب فرنسي مدعوون اليوم (الأحد) للادلاء بأصواتهم، في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية التي تختتم يوم الأحد القادم، والتي من المفترض، وفق كل المؤشرات السياسية واستطلاعات الرأي، ان تقود الى منح الرئيس جاك شيراك الأكثرية التي يحتاجها في الجمعية الوطنية من أجل حكم فرنسا طيلة السنوات الخمس القادمة.

واذا كانت المفاجآت غير مستبعدة تماماً بعد «الحمام البارد» الذي أصاب الفرنسيين في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، والمتمثل باقصاء مرشح اليسار ورئيس الحكومة ليونيل جوسبان لصالح مرشح اليمين المتطرف جان ـ ماري لوبن، فان ثمة مجموعة عوامل تدفع باتجاه توقع انتصار لوائح اليمين الكلاسيكي المعتدل، أي معسكر شيراك، والتي انضوت تحت لواء ما يسمى «تجمع اتحاد الأكثرية الرئاسية» والذي عمد الى ترشيح 533 متنافساً (من أصل 577 دائرة)، يُضاف الى هذا التجمع الذي يضم أساساً الحزب الديغولي (التجمع من أجل الجمهورية) والحزب الليبرالي والقسم الأهم في الاتحاد الديمقراطي الفرنسي (الوسط) ويضم المرشحين الموالين لفرنسوا بيرو رئيس الاتحاد الديمقراطي الذي رفض الانصهار في الأكثرية الرئاسية، وفضل المحافظة على استقلاليته مع اعتماده دعم شيراك وبرنامج عمل حكومته نهجاً سياسياً.

ويعول المعسكر الرئاسي على أربعة عوامل رئيسية من اجل الفوز في الانتخابات التشريعية.

العامل الأول: الاعتماد على الدينامية السياسية التي أفرزها انتصار شيراك الساحق في الانتخابات الرئاسية، وسحقه لمرشح اليمين المتطرف جان ـ ماري لوبن بنسبة تزيد على 82%. فمنذ بدء حملة الانتخابات التشريعية ركز شيراك خطابه السياسي على الدعوة الى منحه «الوسائل» السياسية التي تمكنه من تنفيذ برنامجه ووعوده الانتخابية. و«الوسائل» تعني تحديداً ان يمنحه الناخبون الفرنسيون الأكثرية النيابية التي يحتاجها من خلال التصويت لمرشحي اليمين المعتدل.

العامل الثاني: نفور الفرنسيين وسأمهم مما يسمى تجربة «التعايش»، أي انتماء رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة و(الحكومة) الى تيارين سياسيين مختلفين، وهذه التجربة سادت خلال الأعوام الخمسة الماضية، إذ ينتمي شيراك الى اليمين، فيما ينتمي رئيس الوزراء الى الحزب الاشتراكي. وسبق للرئيس فرنسوا ميتران الاشتراكي ان يتعايش مع حكومتين يمينيتين، الأولى كانت برئاسة جاك شيراك، والثانية برئاسة ادوار بالادور (في العامين الأخيرين من ولايته الثانية 1993 ـ 1995).

وتظهر استطلاعات الرأي ان الفرنسيين يريدون «الوضوح والانسجام السياسيين» على رأس هرم السلطة، خصوصاً ان ثمة قناعة مفادها ان تجربة «التعايش»، تدفع باستمرار الى البحث عن المواقف المعتدلة والاجماع، أقله في حده الأدنى، تفيد الأحزاب المتطرفة يساراً ويميناً، خصوصاً حزب الجبهة الوطنية الذي يرأسه لوبن، وقد دأب هذا الأخير على القول ان اليسار واليمين «شيء واحد»، وبالتالي فان البديل الحقيقي يتمثل به وبالحزب الذي يقوده.

ويراهن اليمين الفرنسي على الصدمة التي أصابت الحزب الاشتراكي الفرنسي بعد الهزيمة النكراء التي ألمت به والمتمثلة باخراج مرشحه (جوسبان) من الانتخابات الرئاسية. والجدير بالذكر ان الاشتراكيين لم يعرفوا مثل هذا المصير منذ عام 1969. ورغم المحاولات التي قام بها سكرتير عام الحزب الاشتراكي لاعادة تعبئة صفوف حزبه، إلا ان الحزب يذهب الى الانتخابات التشريعية وكأنه خسرها سلفاً. وأظهرت استطلاعات الرأي ان نسبة غير قليلة من الاشتراكيين لا تريد فوز حزبها في الانتخابات لسببين اثنين: الأول عدم رغبتها في العودة الى تجربة التعايش. والثاني رغبتها في الابتعاد لفترة عن الحكم لاعادة تنظيم صفوفها، وترتيب شؤونها الداخلية، مع اقتناعها بأن اليمين لن ينجح وبالتالي فان الثمرة ستكون ناضجة بعد خمس سنوات، أي عندما يحين مجدداً موعد الانتخابات الرئاسية التشريعية.

فضلاً عن ذلك، يعاني الحزب الاشتراكي، بعد انسحاب جوسبان من الحياة السياسية، من عدم توفر شخصية سياسية تفرض نفسها وتقود الحزب في هذه المرحلة الحرجة. ومعروف ان ثمة تيارات داخله تتناحر بسبب اختلاف رؤاها السياسية، وأيضاً بسبب مصالح قادتها. ومن الشخصيات البارزة لدى الاشتراكيين وزير الاقتصاد والمال ورئيس الوزراء الأسبق لوران فابيوس، وهو يمثل يمين الحزب، ومارتين أوبري، ابنة رئيس المفوضية الأوروبية السابق جاك ديلور، وهي تجسد التيار المناضل والعقائدي داخله، فيما يمثل وزير الاقتصاد الأسبق دومينيك شتروس ـ خان، تياراً وسطياً بين الاثنين. وفي خضم هذه المعمعة، لا يبدو سكرتير عام الحزب الاشتراكي فرنسوا هولند الا بمثابة حل مؤقت، بانتظار انتهاء الانتخابات ومعرفة نتائجها. ولم يتردد بعض الاشتراكيين من التشكيك بشرعية هولند ازاء تسلمه رئاسة الحكومة إذا نجح تجمع اليسار في الفوز بالانتخابات التشريعية، الأمر الذي يظهر حدة الأزمة التي يعاني منها الاشتراكيون.

ولا تتوقف مآسي الاشتراكيين عند حدود نزاعاتهم، بل انهم يعانون ايضاً من خلافاتهم مع باقي الأحزاب التي يتألف منها التحالف اليساري، وهي الحزب الشيوعي وحزب الخضر والراديكاليون اليساريون. فمن جهة، لم ينجح الحزب الاشتراكي في الاتفاق مع جماعة المرشح الرئاسي جان ـ بيار شوفينمان على لوائح موحدة، الأمر الذي دفع هذا الأخير الى تقديم 400 مرشح للانتخابات. وما زال اليسار يتذكر ان هزيمة جوسبان مردها، في المقام الأول، تعدد مرشحي اليسار للانتخابات الرئاسية، ومن شأن مرشحي شوفينمان اضعاف لوائح الحزب الاشتراكي، أي حرمانه من الاحتفاظ بالمقاعد العائدة له في البرلمان السابق.

بموازاة ذلك، عانى الاشتراكيون كثيراً مع شركائهم في تحالف اليسار من اجل التوصل الى بلورة لائحة انتخابية موحدة. فالخضر والشيوعيون يتهمون الحزب الاشتراكي بميله الى السيطرة والغطرسة. واللافت ان تحالف اليسار لم ينجح في تقديم مرشح واحد يمثله إلا في 34 دائرة انتخابية من أصل 577. واتفاق الاطار الذي توصل اليه يقوم على تقديم مرشح مشترك في 170 دائرة، وعلى الانسحاب لصالح المرشح اليساري الأفضل حظاً، والذي يحتل المرتبة الأولى في أول جولة انتخابية. وحتى تكتمل صورة مصاعب تحالف اليسار، تجب الاشارة الى ان اليسار المتطرف (النضال العمالي /تروتسكي والرابطة الشيوعية الثورية) قدم 657 مرشحاً، في غالبية الدوائر الانتخابية، مما يعني توزع اصوات اليسار وتضاؤل حظوظه بالفوز.

ورغم هذه المعطيات التي تجعل اليسار الفرنسي في حالة انهاك سياسي، فان اليمين ليس محصناً تماماً ضد المفاجآت. وثمة عوامل تعمل كذلك ضده ليس أقلها تخوفه من العدد الاستثنائي للمرشحين في هذه الانتخابات. ووفق ارقام وزارة الداخلية، هناك 8446 مرشحاً لملء 577 مقعداً، مما يعني ان هناك 15 مرشحاً عن كل مقعد. ويشكل هذا العدد زيادة 20% مما كان عليه عدد المرشحين عام 1997 و40% عما كان عليه عام 1988. ولعل أبلغ مثل على ذلك ان الدائرة الأولى في باريس يتنافس عليها 27 مرشحاً وهي لا تعد سوى 55 ألف ناخب.

بالطبع، فكما استفاد جان ـ ماري لوبن من تعدد المرشحين في الدورة الرئاسية الأولى، فان حزبه لا بد ان يستفيد من تعدد المرشحين للانتخابات التشريعية. وكلما توزعت الأصوات على اكبر عدد من المرشحين، زادت حظوظ الجبهة الوطنية في ان تتخطى عتبة الـ12.5% من المسجلين على اللوائح الانتخابية، وبالتالي يستطيع مرشحوها الاستمرار للدورة الثانية.

ووفق الاحصائيات والاستطلاعات المتوافرة، فان بامكان مرشحي الجبهة ان يتنافسوا للدورة الثانية في ما لا يقل عن 300 دائرة. واذا كان مفروغاً من ان حزب لوبن غير قادر بسبب طبيعة القانون الانتخابي، على انجاح اكثر من 3 أو 4 من مرشحيه، فانه سيكون في وضع يمكنه من الضغط على مرشحي اليمين واليسار، وممارسة الابتزاز السياسي. ويتخوف اليمين كما اليسار من هذا الوضع الى درجة ان رئيس الوزراء جان ـ بيار رافاران وغيره اقترحوا تعديل القانون الانتخابي بحيث لا يترشح للدورة الثانية سوى المرشحين اللذين يحتلان المرتبتين الأولى والثانية.

وبموازاة ذلك، وسعياً وراء الحد من الترشيحات التي يسعى بعضها الى الاستفادة مما تؤمنه الحكومة من دعم وتمويل الأحزاب والمرشحين، هناك اقتراحات بتعديل البنود التي تتناول التمويل الرسمي للحملات الانتخابية. ويفسر هذا التمويل الذي أقر عام 1989 تكاثر اللوائح والمرشحين الذين لا يظهرون إلا في الانتخابات ليغيبوا بعدها حتى الانتخابات التالية. وتقضي هذه الاقتراحات بتشديد الشروط التي تتيح الاستفادة من التمويل الرسمي ووضع سقف معين حول نسبة الأصوات الواجب الحصول عليها (3 ـ 5%). وبموجب القانون المالي، فان أية لائحة تقدم 50 مرشحاً، بامكانها ان تحصل على 1.7 يورو عن كل صوت يصوت لصالح مرشحيها.

وهكذا، فان أنظار الفرنسيين ستكون مشدودة، ابتداء من الساعة الثامنة مساء الى شاشات التلفزيون للاطلاع على أولى نتائج الانتخابات التي يتعلق بها مصير بلادهم وحياتهم السياسية. ولن تتضح الصورة نهائياً إلا مع الدورة الانتخابية الثانية الأحد المقبل. واذا آلت هذه النتائج الى حصول شيراك على أكثرية سياسية مريحة، فان عنوان المرحلة القادمة سيكون الاستقرار السياسي من غير ان يعني غياب الجدل حول مشاريع الحكومة اليمينية او غياب الاضرابات والمشاكل الاجتماعية.

أما اذا لم تسفر هذه الانتخابات عن اكثرية يمينية واضحة، فان فرنسا قد تشهد مرحلة الاضطراب السياسي. ذلك ان شيراك لن يستطيع تبرير بقائه رئيساً للجمهورية من غير اضطلاعه حقيقة بقيادة البلاد، رغم ان النصوص الدستورية توفر له هذه الامكانية، وبالتالي فان فرنسا ستدخل مجدداً دوامة المعارك السياسية والانتخابات، وهو ليس الطريق الأسلم لمواجهة الاستحقاقات الوطنية الاقتصادية والاجتماعية والأوروبية (توسيع الاتحاد الأوروبي) لا بل العالمية.