بوش يتحرك من نظرية أميركا «الردع» و«الاحتواء» ليتبنى استراتيجية «الهجمات الوقائية»

TT

تطور ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش عقيدة استراتيجية جديدة، تتجاوز المفاهيم التي كانت سائدة على ايام الحرب الباردة مثل «الاحتواء» و«الردع»، لتتبنى نظرية «الهجمات الوقائية» ضد المجموعات الارهابية والدول المعادية التي تمتلك اسلحة كيماوية وبيولوجية ونووية. ويقول مسؤولون كبار في ادارة بوش ان السياسة الجديدة سيتم طرحها من قبل مجلس الامن القومي كجزء من اول تصور تطرحه الادارة الحالية «للامن القومي الاستراتيجي» اوائل الخريف المقبل. ويقول احد كبار المسؤولين ان الوثيقة التي تجري صياغتها حاليا، ودون ان تتخلى عن الاحتواء والردع، ستطرح مبدأ «الهجمات الوقائية» و«التدخل الدفاعي»، كخيارات رسمية للعمل بها ضد الدول والجماعات المعادية التي تبدو مصممة على استخدام اسلحة الدمار الشامل ضد الولايات المتحدة.

وكان بوش قد اشار الى المبدأ الجديد في خطابه حول حالة الاتحاد في يناير (كانون الثاني) الماضي، عندما تحدث عن العراق وايران وكوريا الشمالية باعتبارها «محورا للشر»، وحذر من انه لن يسمح لها بتهديد الولايات المتحدة باستخدام اسلحة الدمار الشامل. ولكن الرئيس بوش تحدث صراحة عن هذا المبدأ اول يونيو (حزيران) في خطاب القاه في بويست بوينت. ويقول المسؤولون ان تبني الادارة لهذا المبدأ كجزء من استراتيجيتها للامن القومي، سيجبر الدوائر العسكرية والامنية الاميركية على اجراء اعمق التغييرات في كل تاريخها. وقد ادى هذا منذ اللحظة الاولى الى اثارة جدل محتدم داخل الادارة ووسط المحللين لشؤون الدفاع حول ماهية هذه التغييرات الواجب اجراؤها، وحول ما اذا كانت سياسة الضربات الوقائية نفسها سياسة واقعية.

ولكن هناك اتفاقا عاما على ان تبني مبدأ الضربات الوقائية سيكون تحولا جذريا عن سياسات الاحتواء والردع التي استمرت نصف قرن، والتي تستند الى ان الخصم لن يهاجم الولايات المتحدة لان ذلك سيؤدي الى ضربة انتقامية ساحقة.

وقال مسؤولو الادارة الذين ينصرفون حاليا الى صياغة هذه السياسة الجديدة، ان الولايات المتحدة اضطرت لتخطي مبدأ الردع منذ 11 سبتمبر (ايلول) وذلك لظهور التهديدات من قبل المجموعات الارهابية والدول التي تدعمها.

وقال احد كبار المسؤولين: «تغيرت طبيعة العدو، وتغيرت طبيعة الخطر ولذلك يجب ان تتغير طبيعة الاستجابة والرد». واضاف ان «الارهابيين ليست لديهم رقعة من الارض يقومون بحمايتها.. وليس واضحا كيف يمكن استخدام مبدأ الردع في مثل الضربات التي تعرضنا لها».

وادى تبني الادارة لهذه السياسة الى تفجير مناقشات حادة داخل وزارة الدفاع (البنتاغون) ووسط الاستراتيجيين العسكريين حول امكانية وحكمة تنفيذ ضربات وقائية ضد شبكات ارهابية غامضة وحول امكانية تخزين الاسلحة.

واثارت السياسة الجديدة قلقا في اوساط حلف شمال الاطلسي (الناتو) ايضا. وقد ابلغ وزير الدفاع دونالد رامسفيلد حلفاء الولايات المتحدة الـ18 داخل «الناتو» في بروكسل يوم الخميس الماضي، ان الحلف لا يمكن ان ينتظر من اجل توفر «الدليل الدامغ» حتى يتحرك ضد المجموعات الارهابية او يهدد الدول التي تملك الاسلحة الكيماوية والنووية والبيولوجية. وقد علق سكرتير عام الحلف جورج روبرتسون على تصريحات رامسفيلد قائلا ان «الناتو» ما يزال حلفا دفاعيا، واضاف «نحن لا نذهب بعيدا بحثا عن المشاكل التي تنتظر الحلول».

وقال المحللون في شؤون الدفاع ان مبدأ الضربات الوقائية يهدد بتصعيد الازمات بسرعة كبيرة لان الاطراف المعنية تواجه ضغوطا تدفعها الى اختيار التعجيل بدلا عن التأجيل في سياساتها العسكرية، وفقا للحكمة السائدة في مجال الاسلحة النووية والتي تقول: «ان لم تسخدمها اولا فلن تستخدمها ابدا».

وقال محلل الشؤون الدفاعية هارلان اولمان ان: «التصرف الوقائي جذاب ظاهريا. ولكن كلما تعمق المرء في الامر واصبح اكثر تعقيدا وخطرا».

وقال المعارضون لهذه السياسة ان هجوما خاطئا ينشر المواد الكيماوية والبيولوجية والذرية والبويغات المختلفة، يمكن ان يؤدي الى قتل الاف البشر ليس فقط في الدولة المستهدفة بالعدوان بل كذلك في الدول المجاورة. ويوافق حتى اولئك الذين يؤمنون بالسياسة الجديدة على انها تحتاج الى معلومات استخباراتية مختلفة تماما وافضل كثيرا من المعلومات التي تحصل عليها الحكومة الاميركية حاليا، خاصة ان مقدرة الاستخبارات المركزية (السي. اي. ايه) والمباحث الفيدرالية (اف بي. آي) على الوفاء بواجباتها الحالية تخضع للمراجعة والدراسة الشاملة.

وقالت ميشيل فلورنوي، الخبيرة السابقة لعدم انتشار الاسلحة بالبنتاغون والتي تعمل حاليا بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ان الولايات المتحدة اذا كانت تريد ان تكون ضرباتها الوقائية فعالة، فانها يجب ان توجهها قبل نشوب الازمة المعينة حتى تدمر مخزونات العدو من الاسلحة، والا فان العدو يمكن ان يقوم بحماية الاسلحة التي يملكها او يوزعها في انحاء مختلفة من البلاد. ولكن فلورنوي قالت انها تفضل اللجوء لسياسة الضربات الوقائية نسبة لانتشار الاسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية بين الدول التي تدعم الارهاب. واضافت «ان هذه السياسة ربما تكون هي الافضل من بين خيارات كلها سيئة». وقالت: «في بعض الحالات ربما تكون الضربات الوقائية الموجهة الى اسلحة الدمار الشامل التي يملكها العدو، هي الخيار الافضل او الوحيد لتفادي وقوع هجوم كارثي على الولايات المتحدة».

ويقول خبراء البنتاغون ان مبدأ اللجوء للضربة الاولى بالاسلحة الذرية يعتبر خيارا اخيرا، وخاصة عند استخدامها ضد الاسلحة البيولوجية التي يمكن تدميرها عن طريق تعريضها لمدة طويلة للحرارة العالية للانفجار الذري. ولكن الجهد ينصب على ايجاد طرق جديدة لاستخدام الاسلحة التقليدية لاكتشاف وتدمير مستودعات الاسلحة وخاصة الصواريخ التي توصلها الى اهدافها. ويدرس البنتاغون كيفية القيام بهجمات «دون انذار» تكون متفوقة على الغارات الجوية السريعة. وخير اداة لتنفيذ هذه المهمة هي «القوة المشتركة السرية»، وتتكون من اجزاء من القوات المسلحة الاقل قابلية للكشف، بما فيها الطائرات التي لا تظهر على شاشات الرادار، وقوات العمليات الخاصة والغواصات المعدلة لحمل الجنود واطلاق الصواريخ من طراز كروز.

ويحاول رامسفيلد ومساعدوه ان يغيروا ليس فقط الاسلحة والمبادئ والنظم، بل كذلك العقلية العسكرية الاميركية نفسها. ففي الماضي كانت الولايات المتحدة تعتبر الضربات المفاجئة و«المتلصصة» اعمالا غير شريفة، مثلما تعرضت له اميركا مثلا في «بيرل هاربور». وقد ذكر احد المسؤولين الكبار بوزارة الدفاع ان الاخطار الامنية للقرن العشرين لا يمكن ان تقاس بمعايير ومفاهيم الماضي. وقال ذلك المسؤول: «في هذا العالم الذي نعيش فيه، لم يعد كافيا ان نردع. انك تحتاج الى مصداقية اكبر، ومرونة اكبر وخيارات وبدائل اكثر دقة واتقانا».

ويعمل علماء شؤون الدفاع والمخططون العسكريون عملا متواصلا لتطوير اسلحة ومقدرات جديدة لتزويد بوش «بخيارات ومقدرات لم تكن متوفرة في الماضي»، حسب تصريحات بعض المسؤولين.

ويدرس العلماء، في وكالة تخفيض المخاطر بوزارة الدفاع، وهي وكالة كونت عام 1998 وكلفت 1.1 مليار دولار لمواجهة خطر اسلحة الدمار الشامل، كيف يمكن مهاجمة وتدمير المخابئ العميقة المحفورة تحت الارض، والتي تحوي الاسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية عن طريق قنابل تقليدية متقدمة واجهزة نووية قليلة الاشعاع، بل حتى عن طريق اسلحة نووية كثيفة الاشعاع.

وقال ستيفن يونغر، مدير الوكالة: «نحن نريد ان نستخدم اقل قدر من القوة لتحقيق الهدف المطلوب، اذا كان ذلك ممكنا اصلا، عن طريق الاسلحة التقليدية. ولا نرغب في عبور الحاجز النووي الا في حالة طوارئ قومية قصوى». واضاف يونغر: «ولكن هناك بعض المخابئ ذات القوة الاستثنائية، مما يجعل استخدام اسلحة ذات اشعاع نووي كثيف امرا لا بد منه». واشار الى ان الرؤوس النووية ذات الكثافة النووية المتدنية يمكن ان تكون مفيدة في بعض الحالات ولكنها تنطوي على خطر نشر الاسلحة والمواد البيولوجية في كل انحاء القطر.

ويوصي تقرير رامسفيلد الخاص بمراجعة الوضع النووي، الذي اكتمل العام الماضي «بتطوير مقدرات جديدة لهزيمة المخاطر التي تظهر الان والمتمثلة في الاهداف المخبأة عميقا في باطن الارض والمحصنة تحصينات قوية». واشار الى ان: «خيارات استخدام الاسلحة النووية لمهاجمة مثل هذه الاهداف تشمل الاسلحة المحسنة التي يمكن ان تخترق الارض». ولكن كبار المسؤولين في الادارة الاميركية يقولون ان الاستخدام التكتيكي للاسلحة النووية تحت الدراسة حاليا وليس امرا محسوما. وقال احد كبار المسؤولين بوزارة الدفاع: «ليس هناك من هو في عجلة من امره لاستخدام الاسلحة النووية ولو تكتيكيا. ليس ذلك هو ما نحن بصدده حاليا». واضاف المسؤول ان ما يحرص عليه البنتاغون هو اكتشاف طريقة «لضربة تقليدية متطورة».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»