أكثرية ساحقة لليمين في البرلمان الفرنسي الجديد واليسار يدعو لتفادي هيمنة «الحزب الواحد»

شيراك ينجو من تجربة «التعايش» ويجد نفسه في حالة غير معهودة من السيطرة الكاملة على مؤسسات الدولة

TT

يتأهب اليمين الفرنسي المعتدل الذي ينتمي اليه الرئيس جاك شيراك للعودة بقوة الى الجمعية الوطنية الجديدة، بعد الدورة الانتخابية الثانية المقررة يوم الاحد القادم. فنتائج الدورة الاولى اظهرت تفوّق احزاب اليمين المعتدل على اليسار، اذ انها حصلت على 43.66% من اصوات المقترعين مما يؤهلها للحصول على 400 مقعد نيابي في البرلمان القادم، من اصل 577 مقعداً.

وتعتبر هذه النتيجة استمرارا منطقيا لما أسفرت عنه الانتخابات الرئاسية التي شهدت عودة شيراك الى قصر الاليزيه. والأهم من ذلك ان الاتحاد من اجل اكثرية رئاسية، وهو تجمع اقيم حديثاً لغرض ان يكون الماكينة الانتخابية والسياسية لشيراك مؤهل لأن يحصل بمفرده ومن غير حاجة الى اصوات احزاب وشخصيات اليمين الاخرى، على الاكثرية المطلقة في البرلمان. وهذا يعني ان شيراك نجح في ان يوفر لنفسه الآلة السياسية التي ستمكنه من ان يحكم فرنسا وفق سياسته، طيلة السنوات الخمس القادمة وان يطبق برنامجه الانتخابي من غير عوائق وان يقود السياسة الخارجية التي يريد.

وفي ظل هذه النتائج، فان شيراك تلقى من الفرنسيين هدية لا تثمن، ذلك ان النصر الانتخابي الذي حققه اليمين المعتدل انقذ الرئيس الفرنسي من تجربة «تعايش» جديدة على رأس السلطة التنفيذية وانقذه كذلك من مشاكل سياسية لا بل دستورية كان يمكن ان تحصل لو عاد تحالف اليسار الى الحكم.

ومع هذا الفوز الانتخابي، يكون اليمين الفرنسي قد احكم سيطرته على كل المؤسسات الفرنسية من رئاسة الجمهورية الى مجلس الشيوخ والنواب والحكومة والمجالس الاقليمية والمجلس الدستوري ومجلس الرقابة على القطاع السمعي والبصري وعلى الادارة. ومنذ عهد الرئيس الاسبق فاليري جيسكار ديستان، لم تعرف فرنسا مثل هذه الهيمنة من قبل اليمين. وحتى في أوج رئاسة فرنسوا ميتران، الرئيس الاشتراكي الذي تربع على قصر الاليزيه طيلة 14 عاماً، لم يكن اليسار مهيمناً على كل مقدرات الدولة ومؤسساتها. وهذا الوضع يجعل فرنسا تنضم الى قافلة الدول الاوروبية التي تخلت عن الاشتراكية او الحكم الاشتراكي الديمقراطي لتسقط في احضان اليمين. ولائحة هذه الدول طويلة وتضم اسبانيا وايطاليا والبرتغال والدنمارك والنمسا وهولندا وغيرها.

وبأي حال، فان دينامية انتخاب شيراك وسأم الفرنسيين من الهزات السياسية المترتبة على تجربة التعايش جعلا اليمين يحرز تقدماً من ثماني نقاط، من نسبة الاصوات التي حصل عليها قياساً على انتخاب عام 1997. وبموجب النتائج النهائية التي نشرتها امس وزارة الداخلية، فان الاتحاد من اجل اكثرية رئاسية اصبح اول حزب سياسي في فرنسا رغم انه حديث العهد بل انه لم يُسجل بعد رسمياً لدى اجهزة وزارة الداخلية.

وبموجب هذه النتائج، فان حكومة جان بيار رافاران الذي لا شك انه سيبقى في منصبه، لديها الآن التأييد اللازم من اجل ان تبدأ حقيقة عملها بعد ان اكتفت، منذ تشكيلها، بعمليات استعراضية اعلامية لا غير.

ومقابل انتصار اليمين، فان هزيمة اليسار تأتي استمراراً لهزيمة ليونيل جوسبان في الدورة الرئاسية الاولى. فأحزاب اليسار المعتدل مجتمعة حصلت على 37.47% من الاصوات، مما يشكل حصولها على خمس نقاط تراجعاً لرصيدها اقل قياساً على انتخابات 1997 التشريعية. والمحزن ان الحزب الاشتراكي، وهو العمود الفقري لتحالف اليسار، حصل مرشحوه على النسبة نفسها (25.28%) من الاصوات. لكن تراجع تحالف اليسار مرده الى انهيار الحزب الشيوعي الذي حقق اول من امس ادنى نسبة من الاصوات منذ بداية الجمهورية الخامسة وتراجع مواقع الخضر (4.43%) الذين عادوا لما كانوا عليه قبل 10 اعوام. الجدير بالذكر ان الشيوعيين والخضر كانوا شركاء الحزب الاشتراكي في حكومة جوسبان التي ادارت شؤون البلاد منذ عام 1997.

وبموجب هذه الارقام والنسب، فان اليسار لن يصل الى عتبة 200 مقعد في الجمعية الوطنية الجديدة فيما كان يتمتع بالأكثرية المطلقة في البرلمان الماضي. والمفارقة ان تحالف اليسار حصل اول من امس على 31.47% من الاصوات مقابل 34.23% للاتحاد من اجل اكثرية رئاسية. لكن النظام الانتخابي القائم على الاكثرية والدائرة المصغرة سيعطي الاتحاد الاكثرية المطلقة (على الاقل) وما يعادل 110 نواب اكثر مما سيعطي لتحالف اليسار.

وازاء هذا الواقع، سارع فرنسوا هولند، سكرتير عام الحزب الاشتراكي وقادة اليسار الى التحذير من تجمع كل السلطات لدى «الحزب الواحد» والى توجيه نداء الى المتغيبين الذين قاطعوا الدورة الاولى من اجل الاقتراع في الدورة الثانية من اجل «الحد من الأضرار» واتهام اليمين انه «لا يملك صكاً على بياض» ليقود سياسة «تحابي الاغنياء على حساب الطبقات الشعبية».

والحقيقة ان المنتصر الاكبر في انتخابات اول من امس هو «حزب المقاطعين» الذين بلغوا 15 مليون ناخب وشكلوا حوالي 36% من الناخبين. ويمثل هذا المستوى اعلى نسبة للتغيب عن الانتخابات منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، مما يعني، وفق الكثير من المحللين السياسيين، ان ثمة «طلاقاً» بين الطبقة السياسية من جهة وبين الشارع من جهة اخرى، فقد ضاع الناخبون في خضم تكاثر المرشحين الذين بلغوا 8446 مرشحاً وأبدوا تذمرهم من كثرة العمليات الانتخابية، اذ ان انتخابات الاحد كانت الثالثة منذ اقل من خمسين يوماً. والناخبون مدعوون للمرة الرابعة الأحد القادم. وفيما يدعو اليمين الى عدم الارتكان للفوز الذي تحقق الاحد الماضي والى استمرار التعبئة ودعوة المتغيبين الى تثبيت ما تم انجازه، فان اليسار يطالب المقاطعين بانقاذ ما يمكن انقاذه من مواقع تحالف اليسار وكبح جماح اليمين ونزعته الى السيطرة والانفراد بادارة امور فرنسا.

وبعكس ما توقعته استطلاعات الرأي، فان الاحزاب المتطرفة يميناً ويساراً اصيبت بالخيبة، وعلى رأسها الجبهة الوطنية. فهذه الاخيرة لم تستفد من وجود زعيمها جان ـ ماري لوبن، في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية. ولم تحصل الجبهة الوطنية الا على 11.11% من الاصوات وهو ما يعيدها الى ما كانت عليه قبل 11عاماً. فضلاً عن ذلك، فان الجبهة لن تكون حاضرة الا في 37 دائرة انتخابية في الدورة الثانية، الاحد القادم فيما كانت تؤكد انها ستحضر، على الاقل، في 300 دائرة.

ومن هذه الزاوية، فان اليمين المتطرف ليس في وضع يؤهله لأن يلعب دور الحكم بين اليمين واليسار او ان يصفي حساباته مع شيراك. ويستبعد ان تحصل الجبهة على اي مقعد في الجمعية الوطنية القادمة، علماً انها ستنافس اليمين في 19 دائرة واليسار في 8 دوائر وسيكون لها مرشحون في عشر دوائر يتنافس فيها اليمين واليسار.

وواضح في نتائج الانتخابات ان الفرنسيين فضلوا «الاقتراع المفيد» ونبذ المتطرفين في الحياة السياسية. كما تراجع اليمين المتطرف، وخذل كذلك اليسار المتطرف الذي كان سبباً في اسقاط جوسبان ولم يحصل مرشحو حزبي النضال العمالي الذي تقوده ارليت لاغييه والرابطة الشيوعية الثورية الا على 2.86% من الاصوات مقابل 11% من الاصوات في الانتخابات الرئاسية. وبهذا يكون اليسار المتطرف قد انكمش ليعود مجموعات هامشية على الصعيد السياسي رغم الدور الذي يلعبه على الصعيدين الاجتماعي والنقابي.

وفي سياق الاقتراع المفيد، فان الناخبين خذلوا حزب جان ـ بيار شوفنمان المسمى «القطب الجمهوري»، ذلك ان مرشحيه حصلوا على 1.22% من الأصوات وهي نسبة ضئيلة للغاية مقارنة مع الطموحات التي عبر عنها المرشح الرئاسي ابان حملته الانتخابية حيث وعد بتجاوز الاحزاب والتجذر في المشهد السياسي. وشوفنمان نفسه ليس متأكداً من الفوز الاحد القادم بمقعد نيابي فيما اخرج النائب جورج سار، رفيق درب شوفنمان ورئيس حزبه، من السباق النيابي في باريس.

وهكذا تتأهب فرنسا، الاحد القادم، لاقفال باب المواعيد الانتخابية. ورغم انه بصدد اعطاء شيراك اكثرية نيابية مريحة، فانها تتساءل، كما كتب امس جان ماري كولومباني في افتتاحية صحيفة «لوموند» عما سيفعله شيراك بهذا الانتصار. فهل سيقود سياسة يمينية ضيقة ومتحيزة ام انه سيعرف كيف يحلق فوق الاحزاب ليصالح الفرنسيين مع بعضهم وليعملوا معاً في مواجهة الاستحقاقات القادمة في الداخل والخارج؟