حديث لم يكتمل مع تحسين بشير قبل رحيله: المخابرات وضعتني في قائمة الشيوعيين فاختارني عبد الناصر متحدثاً باسمه

عينت متحدثا رسميا باسم الوفد المصري في نيويورك ثم قالوا لي وظيفة المتحدث ألا يتحدث

TT

بين خبر الرحيل في عاصمة الضباب لندن قبل ثلاثة أيام حين فاجأتنا صحف الصباح به وبين رحلة الوصول الى الولايات المتحدة الأميركية عام 1950 عشرات المحطات في حياة السفير تحسين بشير، صنعت من اسمه علامة مميزة في عالم السياسة والدبلوماسية حيث شغل العديد من المناصب الدبلوماسية والاعلامية المهمة فكان المتحدث الرسمي باسم الرئيسين المصريين جمال عبد الناصر وأنور السادات وباسم الوفد المصري في مؤتمر السلام بجنيف وسفير مصر الأسبق في كندا ومندوب مصر الأسبق لدى الجامعة العربية.

وقد التقته «الشرق الأوسط» قبل سفره للعلاج في لندن بأيام قليلة وكان اللقاء فرصة للوقوف عند أهم هذه المحطات التي ارتبطت بأحداث ومواقف صنعت تاريخ الأمة في فترات صعودها عند أرقى درجات المجد وفي لحظات انكسارها.

وكان مقرراً أن يتم استكمال محطات السفير تحسين بشير في لقائه مع «الشرق الأوسط» عقب عودته من رحلة العلاج الا أن الموت كان أسبق منا إليه، فاختطفه هناك عن عمر يناهز 77 عاماً.

ويبدأ السفير تحسين بشير حديثه لـ«الشرق الأوسط» من موقف مؤثر شكل نقطة تحول في حياته حيث استشهد شقيقه الأكبر في حرب 1948 بين الجيوش العربية والعصابات الصهيونية في فلسطين حين كان هو لا يزال طالباً في قسم الاقتصاد بجامعة الاسكندرية شمال مصر.

وقد طرحت هزيمة العرب في عام 1948 السؤال الصدمة على ذهن السفير تحسين بشير وهو السؤال الذي شغل ذهن العالم العربي كله في ذلك الوقت وربما الى اليوم اذ كيف لعصابات تمثل قلة من اليهود لا يتجاوز عددهم نصف مليون رحلوا من دول العالم المختلفة الى فلسطين ان تهزم الجيش العربي المكون من القوات المسلحة في مصر وسورية ولبنان والأردن بالاضافة للقوات العربية الأخرى.

يقول السفير تحسين بشير: أنهيت دراستي في جامعة الاسكندرية عام 1950 وسافرت في بعثة دراسية الى الولايات المتحدة الأميركية وبالمناسبة كانت دفعتي هي آخر دفعة درست في أميركا وفي جامعة ونستون بالولايات المتحدة كانت أولى محطاتي في العمل العام لخدمة مصر والقضية العربية، بعد عامين من وصولي الى هناك وكانت الأخبار تصل الينا بعد شهرين تقريباً من وقوعها الا أن صحيفة نيويورك تايمز فجرت الشعور الوطني بداخلي مع 7 مصريين آخرين و10 طلاب من دول عربية مختلفة هم كل الدارسين العرب في تلك الجامعة في ذلك الوقت حيث نشرت نيويورك تايمز عنواناً على صدر صفحتها الأولى يقول «القاهرة تحترق» في اليوم التالي لحريق القاهرة في 26 يناير (كانون الثاني) .1952 ويضيف السفير تحسين بشير: بدأت بعدها أتردد على الندوات السياسية والفعاليات التي تهتم بالعالم العربي أو الشرق الأوسط وقد ذهبت الى محاضرة عامة عن الأوضاع في الشرق الأوسط وكانت مليئة بالمغالطات حيث أكد المحاضر أن دول هذه المنطقة ليست مستعدة للاستقلال واقترح وضعها تحت الحكم التركي لأنهم لا يستطيعون حكم أنفسهم.

وقبل أن ينتهي المحاضر من كلامه بدأت معارك الطالب المصري والسفير فيما بعد تحسين بشير اذ طلب الكلمة وسأل المحاضر «هل تطلب وضع مصر تحت حكم تركيا لأن العرب انهزموا في حرب 1948 وبذات المنطق هل توافق على وضع الولايات المتحدة الأميركية تحت حكم كوريا لأنها هزمتكم في الحرب.. وهل الفوز أو الهزيمة في الحرب معيار حضاري للأمم؟».

ويتذكر السفير تحسين بشير هذا الموقف قائلاً «لقد رد الدكتور المحاضر كمن شعر بأن هناك من صفعه على وجهه حيث هاج عليَّ بمساندة القاعة وهب الجميع لمهاجمتي الا أنني بعد ذلك بـ48 ساعة فوجئت بدعوتي للحديث في أحد المنتديات عن الصراع العربي الاسرائيلي».

ويقول «منذ ذلك الوقت أصبحت نشطاً جداً وكثير التحدث عن الصراع في الشرق الأوسط وكان أكثر من نصف الطلبة الدارسين من اليهود وكذلك الأساتذة، في نفس الوقت كنا نشعر أننا كطلبة عرب في حالة يائسة اذ ان حكوماتنا كانت ضعيفة جداً، لدرجة أننا كنا نشعر أننا كمتعلمين مسؤولون عنها وليس العكس فقررنا عقد اجتماع لنا لأول مرة نبحث فيه أسباب هزيمة العرب وأسفر هذا الاجتماع عن تكوين منظمة الطلبة العرب بأميركا وكان رئيسها الدكتور كمال عبده الشاعر، وأنا نائب الرئيس ويشير الى «أن الهدف الأساسي الذي وضعناه أمام أنفسنا في المنظمة هو انشاء «الولايات العربية المتحدة» على غرار الولايات المتحدة الأميركية».

«وفي صيف نفس العام قامت ثورة يوليو (تموز) 1952 في مصر ودعونا ـ الحديث للسفير تحسين بشير ـ لمؤتمر كبير في المنظمة أيدنا فيه الثورة وطلبنا وضع دستور واجراء انتخابات عامة وأن تكون الصحافة حرة الا أن التخوفات ظلت عالقة في نفوس الطلبة المصريين والعرب من مسألة الثورة حتى استطاع الرئيس عبد الناصر من اكتسابنا جميعاً عام 1956 حين وقع العدوان الثلاثي من فرنسا وانجلترا واسرائيل واضطر الرئيس عبد الناصر الى تحريك الشعب للدفاع عن البلاد وبدأت المقاومة الشعبية في مصر.

«أما في الولايات المتحدة الاميركية فقد دعاني السفير المصري للحديث في مؤتمر دعا إليه واستطعت التحاور في هذا المؤتمر مع كل الجنسيات وتعلمت مفاتيح الحوار مع الشخصيات المختلفة».

ويعود السفير تحسين بشير الى عام 1953 حيث واجه موقفا عصيبا حين قطعت الحكومة المصرية بعثته الدراسية لانه على حد تعبير الحكومة «مشاكس أكثر من اللازم» ورفع قضية ضد الحكومة في مجلس الدولة إلا ان الثورة كانت قد علقت مجلس الدولة، وانقذته والدته التي كانت ترسل له المال اللازم لتعليمه خاصة انه كان قد انتقل من الدراسة في جامعة ونستون الى جامعة هارفارد.

وفي ذات الوقت كانت الخارجية المصرية تعلم انه طالب نشط جدا في الحياة العامة الاميركية وارادت الاستفادة منه بعد استمراره هناك وتغلبه على كافة الصعاب التي وضعتها الحكومة أمامه فقررت تعيينه في وفد مصر لدى الأمم المتحدة وكان ذلك عام .1956 يقول السفير تحسين بشير: ذهبت الى نيويورك للانضمام للوفد المصري في المنظمة الدولية وكان رئيس الوفد حينئذ السفير عمر لطفي وعينوني متحدثا رسميا باسم الوفد وفي اليوم التالي كانت تصريحاتي تتصدر صحيفة نيويورك تايمز فانزعج رئيس الوفد المصري في الولايات المتحدة بشدة واستدعاني وأخبرني بأن «المتحدث الرسمي شغلته ألا يتحدث».

ويتوقف السفير تحسين بشير عند محطة بالغة الأهمية في حياته إذ انه في عام 1959 وجد برقية من الخارجية المصرية مكتوباً عليها «سري جدا» وحين فتحها وجد فيها عبارة واحدة من ثلاث كلمات تقول «ارجع مصر فورا».

ويعلق السفير بشير على هذه الواقعة قائلا «كان من أرسل هذه البرقية يتوقع مني عدم العودة الى مصر، وبالتالي يستطيعون الخلاص مني نهائيا إلا انني قررت تنفيذ أمر العودة، وفي القاهرة ذهبت الى مكتب الوزير وكان وكيل الوزارة حينئذ هو الدكتور مراد غالب وزير الدولة للشؤون الخارجية بمصر فيما بعد والرئيس الحالي لمنظمة تضامن الشعوب الافريقية والآسيوية، ووجدت مدير مكتبه مرتبكاً جدا وهو يقول لي «انك متزوج من اميركية» فتركته ودخلت الى الدكتور مراد غالب وطلبت منه التحقيق لأني متهم بالزواج من اميركية وهذا غير صحيح، وأبلغته انني على علاقة بسيدة انجليزية ، وضحك مراد غالب ومن حينها اصبحنا أصدقاء جدا حتى الآن».

ويضيف: خلال وجودي في مصر فوجئت بتكليف الخارجية لي بضرورة السفر الى نيويورك خلال 48 ساعة للاشتراك في ترتيب زيارة الرئيس عبدالناصر للامم المتحدة من هناك، وسافرت الى نيويورك واتصلت بصديقي المسلم الزعيم الأسود مالكم ايكس وطلبت منه ارسال شباب السود لاستقبال الرئيس عبد الناصر من المطار وحتى مقر الامم المتحدة وتم بالفعل ارسال عشرة آلاف شاب من المسلمين السود لاستقبال عبد الناصر وكذلك في اليوم التالي ذهبوا لاستقباله من مقر اقامته وحتى مقر الأمم المتحدة ولم ندفع مليما واحدا في هذه المسألة وكان هدفي اظهار الترحيب بالرئيس عبدالناصر لانه كان حينئذ غير مرغوب فيه من الأميركيين.

ويقول السفير تحسين بشير «في فترة لاحقة على هذا الأمر ومع استمرار الصراع العربي الاسرائيلي قاطع العمال اليهود سفينة بضائع مصرية اسمها «كليوباترا» ورفضوا افراغ حمولتها ومنعوا أي عامل من الاقتراب منها وبعد مناقشات طلب عبد الناصر من العمال العرب مقاطعة السفن الاميركية ووجهت اذاعة صوت العرب نداء الى العمال العرب وتم ذلك وكانت معركة جيدة تعرفت خلالها على الرئيس عبدالناصر عن قرب الذي لم يكن يعرف عني شيئاً الا من تقرير مخابرات يفيد «اني ناقد للثورة وشيوعي».

ومرت الأيام بالسفير تحسين بشير الى ان جاء عام 1969 الذي يمثل محطة أخرى في حياته حين قرر الامين العام للجامعة العربية حينئذ عبدالخالق حسونة تعيين فايز صالح مديرا لمكتب الجامعة العربية في نيويورك وبشير مديرا لمكتبها في لندن يقول السفير بشير: كان المطلوب تحسين صورة العرب لدى الغرب وانهيت اجراءات سفري وذهبت الى الاسكندرية للسلام على أمي.

ويضيف: وأنا في طريق عودتي من الاسكندرية الى القاهرة توقفت في طنطا للسلام على محافظها حينئذ وجيه أباظة إلا انه طلب مني الانتظار مع واحد اسمه الشيخ محمد امام المسجد البدوي حتى ينتهي من جولة كان يقوم بها في طنطا، وخلال جلوسي مع الشيخ محمد عرفته انني مسافر بعد يومين لتولي مهام منصبي الجديد لكنه فاجأني بقوله انني لن أسافر وسأبقى في مصر ليسمعني الناس في جميع انحاء العالم حيث سأتولى منصبا رفيعا داخل مصر وعلقت على كلام الشيخ في نفسي بأنه «تخاريف» لأنني كنت قد انهيت كل شيء بما في ذلك تذاكر السفر إلا انه ترك أثرا في نفسي، وحين عدت الى القاهرة فوجئت باختياري متحدثا باسم الرئيس عبدالناصر حيث يرى أن هزيمة 1967 لم تكن هزيمة عسكرية ولكنها هزيمة عامة ويجب ان نستعيد ثقة العالم فينا.

ويتذكر السفير تحسين بشير بعض الفروق بين شخصية الرئيس عبدالناصر والرئيس السادات قائلا «ان عبدالناصر صارم لايستطيع أحد ان يكذب عليه واذا حدث فهي الكارثة أما السادات فقد كان يستمع الى كل ما يقال إليه وهو يعلم ان من يتحدث إليه كاذب ولكن لايظهر على وجه السادات أي شيء، وهناك فرق آخر هو ان ناصر بسيط جدا في حياته بينما السادات يغالي في كل شيء».

إلى هنا كان مقرراً أن يعود السفير تحسين بشير من لندن حيث محطته العلاجية الأخيرة لاستكمال الحوار. لكن الموت اختطفه وترك لنا نصف حوار لنصف المحطات المهمة في حياته.