فشل مفاوضات الأمم المتحدة والعراق في فيينا يقرب موعد تنفيذ الهجوم الأميركي على بغداد

TT

هل بدأ العد التنازلي لعمل عسكري أميركي ضد نظام صدام حسين بالفعل؟ هذا سؤال بات مطروحا الآن في الأوساط الدبلوماسية بمنطقة الشرق الأوسط والغرب.

فقد ظهرت بوادر أمل طفيفة بأن المحادثات بين الأمم المتحدة والعراق، التي عقدت في فيينا اخيرا قد تؤدي إلى تخفيف حدة التوتر، بعدما كان كوفي أنان أمين عام المنظمة الدولية، ووزير الخارجية العراقي ناجي صبري قد استهلا لقاءاتهما بابتسامات عريضة وتصافح أياد حميم، لكن بعدما أخليا المكان ذات يوم جمعة كانت الابتسامات قد اختفت وباتت المصافحة روتينية.

لمزيد من التأكيد يمكن القول إنه لا أنان ولا صبري يمثلان الطرف الرئيسي في النزاع، الذي لا بد أن يقرر الرئيس الاميركي جورج بوش والرئيس العراقي صدام حسين مصيره في نهاية المطاف.

ومع ذلك لا تبدو في الأفق أية مؤشرات الى ان أيا من الرجلين على استعداد حتى لوضع ما يريده الآخر في عين الاعتبار. فبوش مضى قدما إلى حد انه التزم علنا باطاحة صدام بطريقة لا يمكنه معها التراجع الآن. وآخر ما قد يتمكن من قبوله هو تسوية يحتفظ فيها حزب البعث العراقي بحصة الأسد في السلطة مقابل اطاحة صدام، وذلك بطبيعة الحال أمر غير معقول، على الأقل في الظروف الراهنة.

وصدام من جانبه يريد رفع العقوبات الاقتصادية بالكامل ليتمكن من فرض سيطرته على مداخيل النفط العراقي وبالتالي الإسراع بخطط إعادة بناء آلته الحربية. ويتفق معظم الخبراء على ان هدف صدام الرئيسي هو تطوير سلاح نووي، فقد أدرك ان امتلاك أسلحة نووية، بالرغم من محدودية مداها، أحدث تغييرا في المكانة الدولية لكل من الهند وباكستان خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وهو بلا شك، مدرك أيضا لحقيقة ان ما يعتقد بشأن امتلاك كوريا الشمالية هو أحد أسباب تعامل الولايات المتحدة معها بحذر.

ومن أجل المحافظة على غليان المنطقة أصدر صدام أوامره خلال الأيام الماضية بتكثيف حدة تصدي دفاعاته الأرضية للطائرات الأميركية والبريطانية، التي تراقب منطقتي الحظر الجوي في شمال العراق وجنوبه. كما انه أصدر أوامره باقتراب وحدات من الجيش العراقي من مناطق كردية في شمال البلاد تعتبرها الأمم المتحدة «مناطق آمنة». وصدر قرار جمهوري يوم الثلاثاء الماضي بإعادة توزيع وحدات مختارة من القوات المسلحة في جنوب العراق. وهكذا فإن صدام بكل المقاييس يسعى لاستعراض قوة هائل يوم 17 يوليو (تموز) الجاري، الذي سيحتفل فيه بالذكرى الـ34 لاستيلاء حزب البعث على السلطة في بغداد.

وقد ردت واشنطن بتسريب معلومات عن مخطط لغزو العراق، قد يحدث ربما خلال الخريف المقبل. كما ان انهيار محادثات فيينا يزيد من حدة التوتر، ويجعل من النزاع العسكري مسألة أقرب على الأرجح.

ما يثير الدهشة هنا هو ان صدام حسين وليس جورج بوش هو الذي يبدو متشوقا للتسبب في مواجهة مبكرة. وهنا يمكن طرح السؤال التالي: لماذا؟

التعرف على ما يدور في عقل صدام قد يبدو ممكنا ومستحيلا في نفس الوقت. إنه ممكن لأن تصرفاته من النوع الذي يمكن توقعه. فهو ميال لتخيل وقوع الأشياء كما يرغب فيها. ومتى ما حدث ما توقعه فلا أحد يستطيع أن يلفت انتباهه لبديل آخر. والآن ها قد أقنع نفسه بأن جورج بوش لن يتمكن من مهاجمة العراق لأسباب عديدة، حيث عكست جريدة «بابل» اليومية، إحدى المطبوعات العراقية التي تتردد فيها أفكار صدام، ذلك الاعتقاد، ولو بدرجة طفيفة. اعتقد صدام ان إدارة بوش منقسمة وان «تيارعدم المواجهة» الذي يتزعمه وزير الخارجية كولن باول قد يتمكن من التصدي لـ«تيار المتشددين»، الذي يتزعمه نائب الرئيس ديك تشيني. وكان باول قد لعب دورا مهما في إقناع الرئيس بوش الأب عام 1991 بالسماح لصدام بالبقاء في السلطة.

على ان باول اليوم لم يعد يعتقد أنه إتخذ القرار السليم حينها. كما ان سلسلة من الأحداث الأخيرة أثبتت انه، متى ما جد الجد، فإن باول سيقف إلى جانب المنتصر بداخل الإدارة الأميركية. وهناك مواقف عديدة عارضها باول في بادئ الأمر لكنه فشل في منع تقدمها، كرفض مواثيق كيوتو، وقرار الإطاحة بنظام طالبان في كابل بدلا من التوصل لاتفاق معهم، ورفض توقيع الولايات المتحدة على المعاهدة الخاصة بمحكمة الجرائم الدولية. كما ان صدام يعول على مساعي الأوروبيين والعرب والروس الرامية لمنع إجراء عسكري يستهدفه. وهنا أيضا، لم يضع في اعتباره بعض التطورات الأخيرة. فالموجة الأخيرة لانتصارات التيار اليميني في الانتخابات، التي شهدها الاتحاد الأوروبي، أضعفت دور الأوساط التي اعتادت مهاجمة أميركا، وكان يمكن تحريكها ضد واشنطن. أما بالنسبة للعرب، فسيكون قد خدع نفسه إذا ما اعتقد ان اي زعيم عربي قد يأسف بإخلاص على غياب صدام عن الساحة. فإصدار تصريحات دبلوماسية مهيبة شيء، والاستجابة لتيار الواقعية السياسية الجارف شيء آخر مختلف. ففي الوقت الحالي هناك ما لا يقل عن أربع من الدول العربية الصغرى تعمل بشكل وثيق مع الولايات المتحدة في استعداداتها المتعلقة بحملتها المقبلة ضد العراق. وعندما يحين الأوان، من المستبعد أن تعلن أية دولة عربية الحرب ضد الولايات المتحدة دعما لصدام حسين. وروسيا من جانبها تعد سرابا آخر. حيث أعاد الرئيس فلاديمير بوتين بناء مجمل خططه استنادا الى إقامة شراكة تامة مع الولايات المتحدة. وفي ظل هذه الأجواء أصدر بوتين تعليماته بوضع نهاية للتعاون النووي الروسي مع إيران.

من جهة أخرى قد يكون التعرف على ما يدور في عقل صدام أمرا شاقا أيضا لأنه قد يقرر التصرف بشكل غير متوقع على الإطلاق. فهو قد يتسبب في أزمة جديدة قد تمنح واشنطن الاطار الذي تحتاجه لحشد تجمع عسكري هائل بالمنطقة. وفي اللحظة الأخيرة ، على أية حال قد يتمكن صدام من التراجع في إطار لعبة القط والفأر التي يفضلها.

يعلم الرئيس العراقي كيف يتسبب في اثارة النزاعات، لكنه لا يجيد التعامل معها. فقد أثار نزاعا دمويا مع الأكراد خلال عام 1969 وفشل في التعامل معه، حتى اضطر لدفع ثمن باهظ تمثل في هضم جميع مزاعم إيران التاريخية في عام .1975 وفي عام 1980 تسبب في إشعال حرب مع إيران، وهو نزاع خرج، مرة أخرى، عن سيطرته. وكان أبشع أخطائه، المتمثل في غزو الكويت وما نتج عنه، استمرارا لنفس المنوال.

وكما قالت «نيويورك تايمز» ذات يوم فإن حربا أخرى في العراق تبدو محتومة. وهنا قد يتساءل البعض: متى؟ لقد أسهم قرار العراق بتعديل مسار مباحثات فيينا فقط بالتعجيل في ذلك اليوم.