إسماعيل خان بنى امبراطورية في هيرات تحت عيون الحكومة الأفغانية والأميركيين

TT

خلال مرور موكب اسماعيل خان عبر الطرق الترابية التي تربط عددا من القرى الافغانية اصطف الاطفال على جانبي الطريق وهم يهتفون بحماسة، رافعين صور عدد من الذين قتلوا خلال الحرب ضد القوات السوفياتية خلال عقد الثمانينات. ولكن قبل ان يهدأ الغبار الذي تثيره سيارات الموكب وهي تمر على الطرق الترابية، يجمع الجنود هذه الصور ويعيدونها الى اماكن تخزينها الرسمية. وفي مكتب الحاكم ينتظر المتوسلون الى ما بعد منتصف الليل املا في تدخل اسماعيل خان شخصيا في قضايا قانونية ومشاكل مالية ونزاعات عائلية. يدخل المنتظرون واحدا بعد الآخر ويبدأ كل في سرد تفاصيل مشكلته التي يستمع اليها اسماعيل خان باهتمام وتعاطف واضحين، فيما يدوّن الموظفون التفاصيل التي يدلي بها صاحب الشكوى. اجهزة السلطة في المنطقة التي يعمل فيها اسماعيل خان حاكما كانت تعمل بصورة منظمة وسلسة خلال الفترة السابقة، بيد ان بعض الشروخ بدأ يظهر خلال الاسابيع الاخيرة في الصرح السياسي الذي اقامه اسماعيل خان الذي عمل قائدا لاحدى الميليشيات التي حاربت القوات السوفياتية، ثم حاكما واميرا لمحافظة هيرات المزدهرة المجاورة لايران. فقد ظهر في الآونة الاخيرة تذمر من جانب المهنيين الذين اصيبوا بالمعاناة والاحباط بفعل سيطرة الميليشيات الاسلامية، بما في ذلك «حزب الجمعية الاسلامية» الذي يتزعمه اسماعيل خان نفسه وحركة طالبان الاكثر تطرفا، اذ بدأ المتذمرون يتحدثون علنا ضد المحسوبية وتكتيكات العنف والقوة لحكم الفرد المتمثل في اسماعيل خان. يبدو واضحا الآن في اوساط مختلف قطاعات المجتمع الافغاني، الذي ظل يعاني على مدى عقدين من نزيف دم مستمر بسبب الحرب الاهلية التي عصفت باستقرار البلاد، حرصا قويا على عدم تكرار الماضي. ولكن من ضمن العوامل المتعددة التي تهدد استقرار افغانستان خلال مرحلة ما بعد سقوط طالبان هناك بضعة منها عسيرة الحل، فالتنافس بين الفصائل والمجموعات العرقية الافغانية قسم البلاد الى اقطاعيات اقليمية. وكان الرئيس الجديد حميد كرزاي قد سعى الى تقليل فعالية سلطات زعماء الاقاليم باشراك بعضهم في الحكومة المركزية، ولكن حادثة اغتيال نائب كرزاي، حاجي عبد القدير، في العاصمة كابل يوم السبت الماضي توضح تقلبات التعامل مع زعماء الاقاليم سواء كانوا داخل الحكومة المركزية او خارجها. وعلى العكس من عبد القدير، ظل اسماعيل خان يحفظ مسافة بينه وبين الحكومة المركزية، بيد ان لقاء «لويا جيرغا» الشهر الماضي في العاصمة كابل كان بمثابة دفعة للتغييرات الناشئة في هيرات. فقد التقى ما يزيد على 1500ممثل من مختلف مناطق افغانستان لاختيار حكومة جديدة ومناقشة العديد من القضايا. الامر الذي اثار انتباها واضحا خلال انعقاد «لويا جيرغا» هو توجيه انتقادات لأول مرة الى اسماعيل خان وقادة ميليشيات اخرين على دورهم في الاعتداءات والدمار الذي حدث خلال السنوات السابقة علما بان هؤلاء كان ينظر اليهم كأشخاص لا تطالهم الانتقادات والمهاجمة. فقد قال رفيق شهير، المحلل السياسي الذي يترأس رابطة هيرات للمهنيين وواحد من ما يزيد على 60 معلما ومحاميا وطبيبا من هيرات شاركوا في «لويا جيرغا»، ان منطقتهم شهدت حكما دكتاتوريا على مدى الـ23عاما الماضية وان الناس هناك ظلوا رهائن لهذه الممارسة. ويعتقد شهير ان «لويا جيرغا» اتاح فرصة للناس كي ينتقدوا المسؤولين والزعماء، وبالنسبة له فإن ذلك في حد ذاته يعتبر «خطوة اولى نحو الديمقراطية». رغم ان اسماعيل خان لم يكن موضوعا للانتقاد المباشر في اجتماعات «لويا جيرغا»، فإن شهير تعرض عقب عودته الى هيرات الى الاعتقال من منزله بواسطة مسلحين موالين لاسماعيل خان، كما تعرض للضرب والحبس لمدة يومين. وفي وقت لاحق دعا شهير الاشخاص الذين مثلوا هيرات في «لويا جيرغا» الى مكتبه للتشاور حول بعض الجوانب. والقى شهير وآخرون احاديث ناشدوا خلالها السلطات بتجريد افراد الميليشيات الاسلامية من السلاح وشغل مواقع الحكومة الاقليمية بواسطة المهنيين بدلا من العناصر غير المتعلمة التي وصلت الى هذه المواقع على اساس الولاء لاسماعيل خان. كما يعتقد الطبيب الافغاني حسن فريد ان هذه الاحاديث كانت مستحيلة في السابق وان لا احد كان يجرؤ على مجرد الحديث حول الحكام. ومن جانبه قال اسماعيل خان انه على استعداد لتقديم استقالته اذا لم يشعر الناس بالرضا عن حكمه. كما شوهد وهو يعانق بعض الذين شاركوا في «لويا جيرغا»، غير ان بعض المراقبين يعتقد ان ذلك يشير الى ذكاء ودهاء اسماعيل خان (57عاما)، الذي نجا من حملتين عسكريتين وقضى ثلاث سنوات في السجن خلال فترة حكم حركة طالبان قبل هروبه الغامض قبل حوالي عامين. كما يعتبر خان كذلك سياسيا مخضرما نجح في بناء امبراطورية محلية قائمة على تقديم الخدمات والسيطرة المحكمة على العائدات العامة والولاء الشخصي النابع من المقاومة السابقة المناوئة للقوات السوفياتية. وفي لقاء اجري مع اسماعيل خان في مكتبه في وقت متأخر من الليل، اقر بأنه غير مهمة قيادته من النضال المسلح الى اعادة البناء على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، تمشيا مع تحول افغانستان من مجتمع مسلح الى مجتمع مسالم. واضاف خلال اللقاء انهم كانوا يجاهدون في السابق «بالدم» ولكن امامهم الآن جهاد «بالعرق»، فالحصول على التعليم والمشاركة في اعادة البناء جهاد ايضا، على حد قوله. واشارت مصادر الى ان الرئيس الافغاني حميد كرزاي عرض على اسماعيل خان عددا من المواقع العليا في الحكومة، لكنه رفضها مفضلا البقاء في منطقته التي باتت معقلا له، حيث يسيطر على آلاف المسلحين والعائدات المغرية على بضائع تجارة الحدود مع ايران. الجدير بالذكر ان كرزاي، الذي انتخبه مجلس «لويا جيرغا» رئيسا للبلاد، كان قد قال مكررا انه يعتزم فرض سلطة مركزية على عائدات الجمارك التي تسيطر عليها في الوقت الراهن قيادات محلية مثل اسماعيل خان، كما اكد ضرورة ان يبقى حكام الاقاليم الذين منحوا مناصب وزارية في الحكومة الجديدة مقيمين في كابل. وقال اسماعيل خان انه يعرف منطقته جيدا وانه بدأ بالفعل اعادة البناء فيها وان استكمال ما بدأ من عمل يتطلب وجوده هناك، كما اكد ان كل عائدات الجمارك صرفت على الخدمات العامة والمرتبات في هيرات وثلاث محافظات مجاورة. واضاف انهم ظلوا يبلغون الحكومة بأوجه صرف هذه العائدات وان الحكومة لم تسألهم عن هذه الاموال. بعض المراقبين الاجانب والافغان عزا المسلك البعيد عن المصادمة لاسماعيل خان الى ضغوط القوات الاميركية في المنطقة، اذ ان القوات الخاصة الاميركية تتمركز في قلعة تطل على هيرات، كما يعمل عدد من جنود وضباط الاحتياط في صيانة المستشفيات وقنوات الري. وفي نفس الوقت اشاد الكثير من سكان المنطقة بحرص اسماعيل خان والتزامه بتثبيت الاستقرار والتقدم، مؤكدين انه رغم آرائه الاسلامية المحافظة ظل من اقوى المؤيدين لتعليم البنات وساعد في تأسيس مدارس للبنات اغلقتها حركة طالبان عقب استيلائها على السلطة في افغانستان. وقالت طيبة زاهدي، وهي معلمة شاركت في اجتماعات «لويا جيرغا» الاخيرة انها كانت تدرس البنات سرا في منزلها خلال سنوات حكم طالبان، لكنها الآن عادت الى التدريس في واحدة من اكبر مدارس هيرات، حيث تزدحم الفصول الدراسية، التي لا تزال تقام داخل خيام العون الانساني.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الاوسط»