المحققون الأميركيون يعتقدون أن المصري مهاجم «العال» حدث له انهيار تحت وطأة توتر شديد في حياته

TT

ترك هشام هدايت (المتهم بأنه نفذ الاعتداء على مكتب العال في مطار لوس أنجليس والذي قتله حراس الأمن) وراءه، قبل عشرة أعوام، حياة رغيدة وعائلة تنتمي للطبقة العليا في مصر، ليغامر بدلا من ذلك، مع تأشيرة دخول مدتها ستة أشهر الى الولايات المتحدة، سعيا للوصول الى الثراء على الطريقة الأميركية.

ومنذ البداية، أبدى هدايت استعداده لتجريب حظه في كل عمل، فأولا عمل سائق تاكسي، ولاحقا في مشروعه التجاري الخاص. وللوصول الى هدفه عمل هدايت بشكل غير شرعي وتجاوز فترة البقاء المسموح له بها في الولايات المتحدة، ثم قدم للجوء، وتمكن من شراء ليموزين.

وقال بوب ملستيد، احد معارف هدايت: «أخبرني أنه عند هبوطه في مطار لوس أنجليس للمرة الأولى انه كان قد ترسخ في نفسه قرار البقاء ليبدأ حياته من جديد في الولايات المتحدة... ثم اشترى سيارة أجرة غالية الثمن، لكنه قال إنه سيتمكن من الحصول على نقود كثيرة من عمله كسائق تاكسي».

لفترة قصيرة بدا كأن الحظ كان حليفا له، إذ نجح في تجنب الطرد الى مصر عندما ربحت زوجته يانصيب الإقامة الدائمة. وعلى أثر ذلك، نجح هدايت في إنشاء مشروع عمله الخاص الذي كان يقدم خدمات سيارتي ليموزين تمكن من شراء إحداهما، وهذا ما جعله يضطر لتشغيل بعض الأشخاص أحيانا لمساعدته. وعاش هدايت مع زوجته وولديه في منطقة إرفاين التي تمثل نموذجا كلاسيكيا لضواحي كاليفورنيا الجنوبية. وعرف عنه كشخص هادئ، ومسلم ملتزم بتأدية الشعائر الدينية، وكان هدايت يرغب في جعل الآخرين يعرفون عنه أنه يدير مشروع عمل ناجحاً.

مع ذلك، لم يستطع أن يحقق النجاح الحقيقي الذي كان يحلم به، على الرغم من اشتغاله ساعات عمل كثيرة. وفي الشهور الأخيرة كان مشروع عمله على حافة الانهيار. إذ انه لم يتمكن من الاستمرار في تغطية أقساط التأمين لعمله، وزوجته بدأت تسأل الجيران في إرفاين إن كانوا بحاجة الى جليسة أطفال.

لكن كل هذه التفاصيل لم تكن لتشير الى أن هدايت سيتجه يوما الى مكتب التذاكر في مطار لوس أنجليس الدولي ويبدأ بإطلاق النار على الناس.

وهذا هو فقط ما فعله يوم الرابع من يوليو (تموز) الماضي، وقالت السلطات ان هدايت قتل الموظفة العاملة في شركة الطيران الإسرائيلية العال، فيكتوريا هين (25 سنة) وياكوف أمينوف (46 سنة) قبل أن يُقتل على أيدي رجال الحماية في شركة العال.

وقال طارق عرابي (35 سنة) «نحن جميعا اعتقدنا أنه شخص آخر حينما وجهوا الاتهام الى هشام». وأضاف عرابي، المصري الأصل الذي كان سائق تاكسي ويسكن في «غاردن غروف» بكاليفورنيا: «لم يصدق أي شخص ما حدث. الناس تسأل هل فقد عقله»؟

ومن خلال المقابلات التي أجريت مع عشرات الجيران ومعارف العمل وأفراد العائلة في كاليفورنيا الجنوبية والقاهرة، كان هناك إجماع عام على أن هدايت كان رجلا متدينا بشكل طبيعي مع اهتمام ضئيل في السياسة، لا صلة له بالشخص الذي أطلق النار باتجاه مكتب بيع التذاكر لشركة العال الإسرائيلية تنفيذا لأجندة معينة ماتت بموته.

وقال مدحت محمود وهو بائع جملة في لوس أنجليس، الذي كان مسؤولا أمنيا في شركة الطيران المصرية، وكان يعرف هدايت منذ سنة 1992 «إذا كان المرء يريد أن يقوم بعمل إرهابي فإنه لن يقوم بتوقيف سيارته بشكل صحيح ليمشي لدقائق قليلة نحو بوابة مطار معينة ثم يقف في الطابور قبل إطلاق الرصاص على شخص ما. إنه استنتاج سخيف».

وإذا كان المحققون قد توصلوا الى نتيجة مفادها أن هدايت إنسان كان تحت وطأة توتر شديد في حياته بحيث أنه انهار تحت وطأته، فان عائلة هدايت ترفض القبول بِأي استنتاج آخر سوى حقيقة مقتله.

وقالت أرملة هدايت، هالة محمد صادق العوادلي في القاهرة التي جاءت مع ولديها لتمضية عطلة منذ منتصف يونيو (حزيران): «كل ما أريد أن أعرفه هو نتائج التحقيق... فمن التحقيق علينا أن نعرف بالضبط ما حدث ثم من ذلك سنعرف الحقيقة».

وكان هدايت قد وصل الى الولايات المتحدة بعد منحه تأشيرة دخول سياحية مدتها ستة أشهر، لكنه بدأ بالعمل بشكل مخالف لطبيعة تأشيرة دخوله. وساعد طلبه اللجوء على العمل، مع اقتراب انتهاء مدة تأشيرة دخوله، ورُفض طلبه لكن هدايت سُمح له بالبقاء في فترة استئنافه ضد قرار الرفض.

وولدت زوجته طفلها الثاني سنة 1995، وبعد انقضاء عامين، وفي الوقت الذي كان هدايت ينتظر تنفيذ قرار الطرد ضده، منحت إقامة دائمة لها ولأسرتها من خلال يانصيب روتيني تنظمه «دائرة الهجرة والتجنس» الأميركية، ولم يمض سوى شهر واحد حتى بدأ هدايت بمشروع الليموزين التجاري.

ومثل الكثير من المهاجرين، كان هدايت يواجه قدرا من الصعوبات في التكيف مع الحياة الجديدة، حسب قريبه عماد العبد.

وأضاف العبد: «كان عليه أن يبدأ من جديد مرة أخرى. وهذه بداية صعبة بحد ذاتها. ولم يكن ذلك ما توقعه عندما غادر مصر، إذ كان يعمل قبل سفره موظفا في بنك بمصر. إنه وضع قاس حينما يبدأ عملك بالتدهور، لكنه مع ذلك أصر على التمسك بالوضع. وقال إنه وضع صعب لكنه كان معتادا عليه».

وعمل هدايت، حسب مدحت محمود، في البدء كموظف، بشكل جزئي، في مكتب «بنك أميركا» بمدينة «مشن فيجو» بكاليفورنيا، لكن المسؤولين في هذا البنك قالوا إنهم لم يجدوا أي سجلات تثبت أن هدايت عمل هناك. وقال بائع الجملة محمود، إن هدايت اضطر للعمل كسائق تاكسي لحاجته الى دخل إضافي. لكن بعد انقضاء عدة أيام على بدء عمله تعرض هدايت الى السرقة. ويتذكر محمود أنه نبه صديقه الى ضرورة حمل السلاح معه في حالة استمراره في مهنة السياقة. وقالت الشرطة إن هدايت كان مسجلا كمالك لقطعتي سلاح. وأضاف محمود متذكرا: «لكنني لا أعرف إن كان أخذ بنصيحتي أم لا».

وعلى الرغم من أن هدايت كان معروفا بشكل جيد في العالم الصغير لسائقي سيارات الأجرة، لكن القليل من زملائه لم تتجاوز علاقاتهم به عن أحاديث عابرة معه. وفي سنة 1997 ترك عمله كسائق ليبدأ مشروعه التجاري الخاص الذي يقدم خدمات الليموزين لزبائنه.

وقال جون هنينغسين الوسيط المالي الذي باع لهدايت بوليصة التأمين عن مشروع عمله في سنتي 1998 ـ 1999 «كان يبدو شخصا طموحا جدا وشديد الجدية. وكانت لديه مخططات كبيرة لشركته».

وكان هدايت قد اشترى سيارة ليموزين طولها 28 قدماً في نوفمبر (تشرين الثاني) 1998 حيث دفع 3 آلاف دولار كمقدمة، لسعرها الذي يبلغ 30 ألف دولار ووافق على دفع أقساط شهرية قيمتها 1225 دولارا لتغطية تكاليف السيارة. وذهب فيرجيل بودنيتش، بائع سيارات الليموزين، مع هدايت لتسلم السيارة. وقال بودنيتش إن هدايت طمأنه من معرفته لسياقة الليموزين الطويلة لكنه ضرب عمودا بعد لحظات قليلة من تسلمه السيارة، مما أدى الى وقوع شق طويل على جانب السيارة الأيمن. وإذا كان هدايت يشير الى كراهيته لإسرائيل أحيانا، فإن عبد اللطيف أبو الذهب الذي اشتغل عنده سابقا، اعتبر ذلك جزءا من الموقف السياسي السائد في الشرق الأوسط تجاه إسرائيل، أكثر من أن يكون موقفا عاطفيا شخصيا سيؤدي من بعد الى القيام بعمل عنيف.

ويتذكر أبو الذهب على سبيل المثال، محادثة جرت بينهما حينما انتقل هدايت من التعبير عن انزعاجه من الزبائن المتصلبين في دفع تكاليف الأجرة الى موضوع التشكي من إسرائيل. وقال أبو الذهب: «أخبرني أنه يقوم بما يجب أن يقوم به لكن الناس لا يقومون بدفع ما يجب عليهم أن يدفعوه له. ثم أضاف هدايت: الأميركيون هم المتشكون رقم 1 في العالم. وحينما يتشكون يحصلون على كل شيء يريدونه، بينما نحن العرب لا أحد يستمع إلينا».

وأضاف أبو الذهب أن هدايت كان يتابع الأخبار العربية عبر محطة «الجزيرة» وكان منزعجا كثيرا لحالة الاضطراب السائدة في الشرق الأوسط: «كان يلوم إسرائيل على ما كان يحدث هناك... وهو لم يكن ضد الأميركيين... فهو لم يكن يمقت الناس الأميركيين في الشارع... وهو يحب وطنه. وهو يحب حرية التعبير. وقال لي مرة: أنا أريد أن أصبح مواطنا أميركيا. أنا أحب أن أدفع ضرائبي. وأنا أريد أن أنشئ أطفالي هنا».

لكن المصاعب بدأت تواجه مشروع عمل هدايت مع تعمق الكساد الاقتصادي وانخفاض معدل التنقل لأغراض تتعلق بالعمل بعد هجمات 11 سبتمبر. وقال ملستيد: «بعد 11 سبتمبر الماضي أصبح وضع العمل سيئا حقا. هو جاء الى مكتبي ومضينا نتحدث. وقال لي إن موقف الحكومة في مطاردة أسامة بن لادن غبي حقا وفي الوقت الذي سيكتشفون من هو المسؤول سيكون الوقت متأخرا جدا».

وكسائق لسيارة ليموزين كانت ساعات عمل هدايت طويلة وتنتهي في وقت متأخر، لذلك كان يقضي وقت الراحة مع أسرته في البيت. وعلى الرغم من أنه يكون حادا في تعامله مع زوجته وقاسيا في أحكامه على بعض جيرانه لكن هدايت لم يعتبر مصدر تهديد للآخرين. إنه لم يكن سوى شخص يجد صعوبة في التكيف مع وسطه الجديد.

وفي مايو (ايار) 1996 تم استدعاء رجال الشرطة الى شقة هدايت الصغيرة بعد نزاع بين الزوجين حيث زعم كل منهما أن الآخر هو البادئ بالإساءة، مع ذلك لم تجد الشرطة أي آثار أذى على أي منهما، وهذا ما أدى الى عدم إقامة دعوى قضائية ضد أي منهما. لكن هالة العوادلي قللت هذا الأسبوع من أهمية تلك الحادثة التي اعتبرتها مجرد خلاف زوجي طبيعي تضخم أكثر مما يستحق وأن زوجها لم يكن إنسانا عنيفا قط.

فبالنسبة لزوجة هدايت كانت حياة أسرتها خالية عادية، وأن زوجها كان جد شغول لتلبية احتياجات الأسرة. وقالت هالة العوادلي في بداية هذا الأسبوع: «كان منصفا ورجلا مصريا محترما بشكل كامل... كان يحب ولديه وجيرانه وعائلته وأصدقاءه. هو شخص اعتيادي يذهب من العمل الى البيت وهذا كل ما هناك. إنسان اعتيادي. ولم يكن هناك أي شيء يشير الى أنه شخص سيئ أو أنه منتم لجماعة معينة».

ويتفق عيسى زيادة (43 سنة) في هذه النظرة أيضا. وكان زيادة يشترك مع هدايت من حيث الأصل والدين، وكلاهما اشتغلا سائقين بين المدينة والمطار. وقال زيادة إنه رأى هدايت لآخر مرة يوم 3 يوليو الماضي في مسجد غاردن غروف، بكاليفورنيا، حينما أطفأ زيادة خطأً مصباحا صغيرا كان هدايت يستعمله لقراءة القرآن. وأضاف زيادة: «جاء نحوي هادئا ومرحا ليقول لي: كنت أعرف أن من أطفأ الضوء هو أحد المصريين الذين أعرفهم... كان مسترخيا جدا». وبعد أن تبادل الاثنان حديثا قصيرا وأديا معا الصلاة ذهب كل منهما في طريقه.

في يوم الرابع من يوليو اتصل هدايت بأسرته تليفونيا، ليذكرها بيوم ميلاده. وبعد ارتداء البذلة الخاصة بسائقي الليموزين للمرة الأخيرة تسلح بسكين ومسدسين وعتاد إضافي ثم اتجه صوب مطار لوس أنجليس.

وعلى مسافة بعيدة عن مكان مقتله امتزجت فجيعة الفقدان في نفس أرملته بشعور بالذنب. قالت هالة العوادلي بصوت متكسر بالدموع: «أنا جئت الى هنا لشهرين فقط، للصيف فقط. إنهما أسوأ شهرين في حياتي. لو أنني بقيت مع هشام في الولايات المتحدة لما وقع هذا الشيء».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»