مزاد علني في نيويورك على «نسر مزدوج» مسروق من القاهرة

TT

منذ 48 سنة، ولم يكن قد مر عامان على ثورة 23 يوليو (تموز) في مصر، قام ضابط عسكري بالاستيلاء على تحفة نادرة بطريقة ما زالت مجهولة كهويته الى الآن، وباعها في القاهرة لصائغ ومجوهراتي سربها للخارج، حيث اشتراها متعامل فرنسي بالأثريات وما ندر، وباعها بدوره لزميل بريطاني يمارس المهنة في لندن، ثم اختفى لها أي أثر، وسط بحث الاستخبارات الأميركية عنها طوال عشرات السنين.

ولأن للتحفة تعقيدات واشكالات تسبب ضررا للولايات المتحدة في ما لو امتلكها شخص ما، فقد سعى مكتب المباحث الفيدرالي (إف.بي.آي) وراءها في الداخل ووكالة المخابرات المركزية (سي.آي.إيه) في الخارج، خلال حكومات 12 رئيسا أميركيا، للعثور عليها واستعادتها كقطعة نقد نادرة، ذهبية ووحيدة من فئة 20 دولارا، ولم تستطع الا منذ 6 سنوات، وبفخ مزدوج كلف المال والجهد الكثير، ليقرر بعدها القضاء الأميركي القيام بمفاجأة تناقض الأعراف ويصعب تصديقها: سيبيعونها الثلاثاء المقبل بالمزاد في نيويورك، ومناصفة بين شاريها من سارقها والحكومة الأميركية نفسها، وسط وجود وثائق لدى الولايات المتحدة تؤكد بأنها ليست ملكا للدولة الأميركية أصلا، بل أثر من مقتنيات الحكومة المصرية ومسروقة، وفق ما تكشفه «الشرق الأوسط» من التفاصيل عن أجمل وأغلى وأكثر قطعة نقد أثارت الشهية والجدل طوال 69 سنة.

ويتوقعون بيع القطعة التي يسمونها «النسر المزدوج» بما تتفاءل به «دار سوثبيز» المنظمة للمزاد وأكثر، لأن مطرقة الدلال قد ترسو على إشارة من أحدهم يدفع ربما 8 ملايين دولار، لأنها فريدة ولا مثيل لها في خزنة أحد منذ بقيت من أصل 445 ألف قطعة تم صكها في 1933 وتدميرها بعد أيام بالكامل قبل طرحها للتداول في الأسواق زمن الرئيس الأميركي الراحل، فرانكلين روزفلت، أو الرجل الذي أبطلت ادارته ذلك العام عمل الولايات المتحدة بالذهب كتغطية للدولار، فصدرت الأوامر بلملمة كل نقد صنعوه من المعدن الأصفر الرنان، لصهره وتدميره بالكامل، وأولها كميات «النسر المزدوج» التي كانت ما تزال في دار المسكوكات «MINT» بولاية فيلادلفيا، جاهزة للتداول، فكان سهلا صهرها قبل سواها، لكنهم حين أحصوها وجدوا 10 منها اختفت بالمرة، فنشطوا باحثين عنها منذ ذلك الحين.

كلفوا أجهزة خاصة في جهازي الاستخبارات الأميركيين الشهيرين للعثور عليها واستعادتها، لأنها كانت مختلفة عن كل ما تم صكه من نقود ذهبية في الولايات المتحدة، فهي لم تكن من النقد أساسا، باعتبار أنها لم تكن طرحت بعد في الأسواق. وفوق ذلك كله فهي محاطة بمجد فني وسياسي واقتصادي، بوصفها آخر قطعة ذهبية تم صكها في الولايات المتحدة، وهي من تصميم أغوسطس سان غودانس، أشهر نحات بتاريخ أميركا، والصديق الشخصي في أوائل القرن الماضي لثيودور روزفلت، أحد أهم رؤسائها الراحلين.

وكانت المشكلة باختفاء القطع العشر كبيرة، لأن امتلاك أحدهم لعملة نقدية لم تطرح في الأسواق يدخل الخزينة الأميركية بمتاهات ويخلق لها اشكالات يستغرق حلها عشرات السنين، وقد يسبب خسائر بملايين الدولارات، لذلك لم يكن هناك سوى الحل المثالي: صنفوها كمسروقة من المال العام، وأصدروا قانونا خاصا في 1944 بسجن كل من يملك واحدة منها، الا اذا قام ببادرة وأعادها بنفسه تلقائيا.

بهذه الطريقة استعادوا 4 منها، فيما استمرت الاستخبارات 10 سنوات تنشط لتستعيد بقية القطع، فنجحت بصعوبات واستردتها على مراحل قطعة بعد قطعة، الا واحدة كانت السلطات الأميركية تعرف في 1944 بأن سفارة المملكة المصرية آنذاك بواشنطن اشترتها من أحدهم لتكون من مقتنيات العاهل المصري، الملك فاروق، الموصوف حتى خلعه عن العرش في مثل هذا اليوم منذ 50 سنة، بأكبر جامع أثريات وتحف من 5 قارات، فلم يرغبوا بحرمانه منها، وأصدروا ذلك العام اذنا خاصا بشحنها وتصديرها اليه في القاهرة، فأصبحت ملكه حين وصولها، ومن بعدها لم يعد على الأرض من «نسر مزدوج» سواها.

تلك القطعة، التي صممها غودانس قبل شهرين من وفاته في منتصف 1907 ليتم استخدام تصميمه فقط في 1933 وقبل أيام من توقف هيئة المسكوكات عن انتاج النقد الذهبي، بقيت 8 سنوات مع الملك فاروق، حتى قررت «ثورة الضباط الأحرار» بيع معظم مقتنياته في 1954 لمن يدفع أكثر، فكلفت «دار سوثبيز» نفسها ببيعها في مزاد استمر 9 أيام بقصر القبة بضواحي القاهرة، حيث استعرض 30 مزايدا آلاف التحف والنوادر، ومن بينها 8 آلاف و500 قطعة نقدية نادرة، ومعها الكثير مما اشتروه من مقتنيات الملك المخلوع.

ولأن المزاد كان يضم «النسر المزدوج» فقد خشيت الحكومة الأميركية أن يقوم أحدهم بشرائها، وتعود المشكلة مجددا، لذلك أوعزت الى سفارتها بالقاهرة لتطلب من السلطات المصرية سحبها من المزاد، باعتبارها ملكا للحكومة المصرية باذن أميركي خاص، وليست خاضعة للبيع، لذلك لم تقم السفارة نفسها بشرائها، لأن ذلك أيضا اعتراف ضمني بقانونيتها كعملة، فسحبتها السلطات المصرية، وبقيت في القاهرة من أملاكها.

وفي ظروف غامضة اختفت «النسر المزدوج» بعد ذلك من مصر، وفي عام غير معروف تماما، فمضوا يبحثون عنها سنين وسنين، حتى وصلت للأميركيين في منتصف التسعينات معلومات مخابراتية من لندن، أكدت بأنها لدى تاجر نقود وأثريات بريطاني شهير، فرسموا خطة استغرقت 8 أشهر ليستدرجوه، موعزين الى عميل للاستخبارات منهم أن يزعم بأنه من مقتني النوادر والآثار، لعل وعسى يلتقيه ويغريه بمبلغ يسيل اللعاب، فجرت اتصالات بين التاجر والعميل المتنكر، واتفقا على صفقة بمليون و500 ألف دولار، يتخلى البريطاني مقابلها عن قطعة اشتراها بأقل من ذلك بكثير، وطار في 1996 من لندن مع معاونه، جاسبر بارّينو، حاملا «النسر المزدوج» الى مكان موعود بنيويورك، وهناك فاجأوه بما لم يكن يتصور: في 8 فبراير (شباط) من ذلك العام انقض عليه رجال الاستخبارات وقد سحبت من جيبه القطعة في ركن من صالون فندق «والدورف إستوريا» الشهير في المدينة، ليعرضها على الشاري المتنكر، فدب ذعر في الجالسين داخل الصالون الشهير، ووقع البريطاني ستيفن فينتون بفخ، اقتادوه بعده مكبلا بالأصفاد وزجوه وراء القضبان، ومن بعدها أطلقوا سراحه بكفالة تمهيدا لمحاكمته، وهكذا كان.

بدأت الجلسات في المحكمة معقدة، واستمرت وسط اشكالات ومتاهات، ولم تنته بعد 5 سنوات سوى باتفاق توصل اليه القضاء الاتحادي الأميركي معه خارج المحكمة، وفيه وافق الطرفان على بيع القطعة بالمزاد مناصفة بعد اصدار مرسوم يلقي على «النسر المزدوج» حلة الشرعية، بحيث لا تعود مصنفة ضمن المسروق من المال العام، فقبل فينتون بالطبع، وهو العارف أكثر من سواه أي مبلغ سترسو مطرقة الدلال عليه في أي مزاد. لذلك صدر مرسوم رئاسي أميركي خاص في منتصف العام الماضي، صنفت «النسر المزدوج» بموجبه شرعية، قيمتها 20 دولارا فقط، وهو المبلغ الذي سيبدأ به المزاد عليها بعد أسبوع.

وكان فينتون، البالغ عمره 49 سنة، حصل على «النسر المزدوج» ومعها أكثر من 100 قطعة نقدية نادرة تعود للملك فاروق، وفق اعترافاته، عبر صفقات عدة قام بها في 1995 مع الفرنسي أندريه دي كليرمونت، الذي كانت له علاقات مع بائع درر ومجوهرات في القاهرة، كانت له بدوره علاقات مع ضابط في الجيش المصري، ومنه حصل على القطعة بطريقة مجهولة، فقام وباعها لكليرمونت الذي باعها لفينتون بعد تسريبها.

وفي الأسابيع الماضية اتصلت «الشرق الأوسط» مرات ومرات بستيفن فينتون، صاحب مؤسسة «نايسبريدج للنقد النادر» في وسط لندن، والرئيس السابق لجمعية النوادر والتحف الثمينة في بريطانيا، وله خبرة تعامل بما ندر من النقود تزيد على 33 سنة، وفي جميعها كان حذرا ويرفض أن يضيف شيئا على الاطلاق من معلومات، كأن يكشف على الأقل في أي عام تمت سرقة «النسر المزدوج» من القاهرة، أو ليزود «الشرق الأوسط» على الأقل بالرقم الهاتفي لبائع القطعة مسروقة اليه، وهو البريطاني من أصل فرنسي، أندريه دي كليرمونت.

وآخر اتصال من «الشرق الأوسط» بفينتون كان أمس بالذات، فتأفف وردد ما كرره مرات: «أوه، يا إلهي. لا تعليق عندي، ما أعرفه عن الموضوع هو الذي تعرفونه أنتم أيضا، لذلك لا أستطيع أن أضيف شيئا»، مشيرا بذلك الى ما كررته «الشرق الأوسط» على مسمعيه بالهاتف من أن عشرات الوثائق الأميركية تؤكد بأنها مسروقة، وهي ضمن أرشيفات استمدت منها «الشرق الأوسط» معظم معلوماتها، كالمرسوم الخاص الذي اعتبرها في 1944 من ممتلكات الملك فاروق، ثم الاذن الخاص بشحنها وتصديرها اليه في القاهرة، بالاضافة الى ما ورد في حيثيات محاكمة فينتون نفسه، ومعها أرشيف ضخم، قضائي ومسكوكاتي عن «النسر المزدوج»، أطلعت عليه «الشرق الأوسط» وتابع لفرع دار المسكوكات الأميركية بفيلادلفيا، وكلها تؤكد أن القطعة مسروقة من مصر، وباعوها مسروقة بعد تسريبها منها، ومسروقة اشتراها فينتون، والا لما اعتقلوه وسجنوه وحاكموه، ومسروقة ستباع بالمزاد الآن، مناصفة بين الحكومة الأميركية والرجل الذي جندت مخابراتها لتعتقله وتزجه وراء القضبان لأنه امتلك ما لم يكن يحق له امتلاكه بالمرة. أما مصر، المحتفلة اليوم بخمسين سنة على ثورتها، فهي آخر ما يحسبون له حسابا.

هذا كله، وأكثر منه بعض الشيء، بعثت به «الشرق الأوسط» الى وزير الثقافة المصري، فاروق حسني، بالفاكس قبل 3 أيام، ليتعرف الى تفاصيل «موناليزا النقود» كما يسمونها، والى النية ببيعها بالمزاد، فاهتم الوزير بسرعة، وبسرعة أحال الملف مباشرة الى الرجل المسؤول عن اعادة المسروق من وآثار وتحف مصر في الخارج، وهو الدكتور زاهي حواس.

وكانت «الشرق الأوسط» قامت أيضا ببث المعلومات نفسها الى الدكتور حواس، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار في مصر، الشهير بأنه استطاع أن يعيد لبلاده في 3 أشهر من تسلمه للمنصب العشرات مما سروقه من تحفها وآثارها، فذكر أنه لم يكن لديه أي علم بالمرة «عن هذا «النسر الذهبي» وما يكون»، وفق تعبيره.

وطلب حواس من «الشرق الأوسط» تزويده أيضا بمعلومات وتفاصيل اضافية، ثم قال أمس عبر الهاتف بعد أن تسلمها بالفاكس وأطلع عليها: «إنها لمصر بالتأكيد، وسنعيد هذه القطعة اليوم قبل الغد، وسنتخذ الضروري وبسرعة لاستعادتها».

وذكر الدكتور حواس عبر فاكس أرسله الى «الشرق الأوسط» أيضا، أن وزير الثقافة المصري اهتم كثيرا للموضوع، وكلف ادارة الآثار المستردة القيام باجراءات لوقف عملية البيع «واتخاد الاجراءات القانونية نحو استعادتها، رغم أن القوانين الدولية لا تسمح بذلك، نظرا لأن السرقة تمت عام 1954 قبل اتفاقية اليونسكو، ولكننا سوف نقوم بطلبها رسميا»، علما بأنه ليس من المعروف متى تمت سرقة القطعة من داخل القاهرة، لذلك وعد حواس بالملاحقة السريعة للموضوع مع القنصلية المصرية في نيويورك والأجهزة القضائية في المدينة، خصوصا أن أمامه أسبوعا كاملا للقيام بالاجراءات، ثم قال: «سنقلب الدنيا رأسا على عقب من أجل هذه القطعة، وسنقوم بضجة دولية، فهي مسروقة من عندنا، ومعظم الوثائق، والأميركية بشكل خاص، تؤكد ذلك». كما أجرت «الشرق الأوسط» اتصالا بدار «سوثبيز» للمزادات، وتحدثت الى لورين جويا المتحدثة باسم ديفيد ريدّن، وهو نائب رئيسها، فقالت بالهاتف من نيويورك: «نحن كمؤسسة لا نقوم بأي اجراءات الا عبر طلب قضائي رسمي مثبتة فيه الحيثيات والموجبات» مكتفية بهذا التعبير، ورافضة أن تضيف أي جديد.

وأغرب ما في قطعة «النسر المزدوج» أن السلطات الأميركية أحاطتها دائما بسرية تامة، فعند مصادرتها من البريطاني ستيفن فينتون في فندق «والدورف إستوريا» بنيويورك، نقلوها الى «بنك البنوك» الشهير باسم «فورت نوكس» بولاية كانتاكي، حيث الاحتياطات الضخمة للولايات المتحدة من الذهب بآلاف الأطنان، ومعها احتياطات ذهبية لدول عدة تودعها في أقبية هناك، مضادة حتى للقنابل النووية.

بعد ذلك تم نقلها الى ادارة المسكوكات الاتحادية الأميركية في واشنطن، ومنها نقلت ثالثة الى مكتب سري خاص، مموّه بشركة خدمات تجارية، وتابع لمكتب المباحث الفيدرالي (إف.بي.آي) في الطابق التاسع من مبنى مركز التجارة الدولي في نيويورك.. هناك بقيت «النسر المزدوج» في كبسولة من البلاستيك المقوّى، ولم يكن باستطاعة أحد سحبها من حيث كانت الا بالضغط على أرقام سرية معينة، لا يعرفها الا 3 أشخاص.

وبعد توقيع الرئيس بوش على مرسوم، اعتبرها غير مسروقة من المال العام، وهي لم تكن كذلك لأنها مسروقة من مصر حقيقة، أعادوها في مثل هذه الأيام قبل عام، من حيث كانت بالمبنى النيويوركي الشهير، الذي لو بقيت فيه لانصهرت «موناليزا النقود» وتبخرت من الوجود، لأنه بعد شهر من نقلها الى واشنطن، قام المصري محمد عطا بعمليته الانتحارية، واقتحم المبنى الذي كانت فيه بطائرة مدنية مكتظة بالركاب وبأكثر من 11 ألف غالون من وقود الكيروسين.