الأميركيون يتساءلون: أين تبخرت موجة التعاطف التي كسبناها عقب 11 سبتمبر؟

TT

في قطار مزدحم بالركاب متجه من لندن الى مدينة اكسفورد الجامعية التاريخية بدأت شابة اميركية تبادل اطراف الحديث مع رجل بريطاني انيق المظهر واكبر منها سنا. فتحدثا عن اكسفورد الى ان جمعت شجاعتها وسألته السؤال الذي يشغل بالها:

«لماذا يكرهنا الجميع؟». توقف الرجل برهة، دون ان يبدي اختلافه معها في الرأي، ثم بدأ في سرد الاسباب بدءاً بالسياسة الاميركية الخارجية الى تأثير نفوذ الثقافة الشعبية الاميركية.

وقد وجد العديد من الاميركيين، عقب الصدمة التي تلت هجمات 11 سبتمبر (ايلول) الماضي، انفسهم يتساءلون حول سبب كره العديد من الناس في الدول الاسلامية للولايات المتحدة. ولكن هذه المشاعر العدائية تحولت الى شبه وباء ينتشر في كل انحاء العالم ويصيب حتى اهم حلفاء الولايات المتحدة. فالصحف تنتقد الولايات المتحدة، والسياسيون يهاجمون بحدة سياستها الخارجية، لا سيما خطط الرئيس جورج بوش بمهاجمة العراق.

ففي بريطانيا، التي تعتبر اهم حليف للولايات المتحدة، تقابل التعليقات المريرة والعداء الواضح العديد من الاميركيين هذه الايام. فلم يعد الاصوليون المتطرفون وحدهم يهاجمون او ينتقدون الولايات المتحدة.

وتقول اليسون ستورت آلن، وهي كاليفورنية تعيش في لندن منذ اكثر من 15 سنة وترأس مؤسسة «انترناشونال ماركيتينغ بارتنرز» التي تقدم استشارات الى الشركات الاوروبية حول كيفية التعامل مع الاميركيين، «لقد اصبح الجميع الآن» ينتقدون الولايات المتحدة.

ويتساءل العديد من الاميركيين حول مصير موجة التعاطف مع اميركا التي انتشرت في اعقاب هجمات سبتمبر. ويقول مغناد ديساي، من كلية لندن للاقتصاد وعضو مجلس اللوردات «لقد تبعثرت تلك الموجة الآن». ويضيف ان الولايات المتحدة «قد قضت على الارادة الحسنة بسبب غرورها. واصبح العديد من الناس الذين لم يعتبروا انفسهم على الاطلاق معادين لاميركا يشعرون الآن بتوتر شديد تجاه الولايات المتحدة».

ويوضح ديساي ان ذلك يرجع الى موجة من السياسات الاميركية الجديدة «الأنانية والفردية». ويدلل على ذلك بقرار الرئيس بوش العام الماضي رفضه لمعاهدة كيوتو الخاصة بحماية درجة حرارة الارض.

ويشعر العديد بالغضب من دعم بوش لفرض ضرائب على صادرات الصلب ودعم المنتجات الزراعية، ورفضه مشاركة الولايات المتحدة في المحكمة الجنائية الدولية الجديدة، اضافة الى التأييد الكبير الذي تقدمه واشنطن لاسرائيل ولرئيس وزرائها آرييل شارون.

ومما يدعم هذه الانتقادات الموجة الاخيرة من سوء تصرف الشركات الاميركية وعملية القبض الواسعة النطاق ضد المشتبه في انتمائهم في جماعات ارهابية بعد احداث 11 سبتمبر. ويشير المنتقدون الى ان الولايات المتحدة تدعو الى الديمقراطية وحقوق الانسان والتجارة الحرة، الا انها لا تمارس هذه القيم.

* تزايد الهوة بين أميركا وأوروبا

* وفي مقالة ظهرت في الآونة الاخيرة في مجلة «بوليسي ريفيو»، اوضح روبرت كيغان، وهو باحث كبير في صندوق كارنغي الخيري للسلام الدولي في واشنطن، ان الانقسام بين الولايات المتتحدة واوروبا يتسع اكثر مما قبل بعدما بدأ الطرفان في المضي في طريق مختلف، الاول يمارس سياسة خارجية قائمة على القرارات الفردية، والثاني ينتهج سياسة خارجية قائمة على الدبلوماسية والاقناع. واضاف ان الاوروبيين «بدأوا ينظرون الى الولايات المتحدة على انها دولة مارقة كبيرة، وتمثل تهديدا اكبر من العراق وايران». ورأى ان الخلافات بين الجانبين عميقة وقد تستمر.

وقد صعدت خطط الرئيس بوش الداعية لاطاحة الرئيس العراقي صدام حسين موجة من العداء للولايات المتحدة في الآونة الاخيرة. ففي المانيا بدأ المستشار الالماني غيرهارد شرودر مطلع الشهر الجاري حملة انتخابية بإدانة ما وصفه بسخرية «مغامرات» بوش العسكرية في العراق. وفي انجلترا وزع رئيس اساقفة الكنيسة الانغليكانية الجديد وعدد من كبار الاساقفة نداء يعلنون فيه ان اي هجوم على العراق يعتبر غير قانوني وغير اخلاقي.

وقالت ماري كالدور وهي باحثة في الشؤؤن الدولية في لندن «شعوري هو ان معظم المشاعر المعادية هي الآن مرتبطة بالحرب مع العراق والصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي».

وفي برنامج اذاعي لهيئة الاذاعة البريطانية بث في 26 يوليو (تموز) الماضي، ناقشت كالدور مع مراسل «واشنطن بوست» تي ار ريد ما اذا كانت «القوة الاميركية هي قوة الخير». وقالت ان دور الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة، امر خطير على العالم بأكمله. وفي نهاية البرنامج وافقها في الرأي 70 في المائة من الحاضرين.

ولا يعتبر العداء للولايات المتحدة امراً جديداً. فقد اشارت نتائج استطلاعات اجريت قبل عشر سنوات في بريطانيا الى ان واحدا من كل اربعة اشخاص «يعادي اميركا ثقافيا». كما اظهرت نتائج استطلاع اجري عام 1989 ان واحدا من كل خمسة اشخاص يشعر بالضيق عندما يسمع اللهجة التي يتحدث بها الاميركيون اللغة الانجليزية.

لكن رغم كل هذا، فان ديساي، الذي يقول انه موال لاميركا بشدة ويشير الى ان اوروبا نسيت ان الولايات المتحدة انقذتها مرتين في القرن الماضي، يؤكد ان اميركا ظلت في القمة على مدى فترة طويلة. ويضيف ان ما يحدث الآن ليس الا النتيجة الحتمية لكون الولايات المتحدة القوة الاولى في العالم.

ويعتقد ديساي واوروبيون آخرون ان الفضل يعود الى واشنطن في تفكيك نظام طالبان المتشدد في أفغانستان. وخلال الاشهر الاخيرة، اظهرت نتائج الاستطلاعات تغييرا طفيفا في المواقف تجاه الاميركيين والسياسة الخارجية الاميركية والرئيس بوش. واوردت الصحف البريطانية يوم الخميس الماضي ان استطلاعات سرية كلف رئيس الوزراء توني بلير جهات متخصصة بإجرائها كشفت عن عدم تمتع بوش بشعبية وسط البريطانيين.

وفي ابريل (نيسان) الماضي اوردت مجلة «دير شبيغل» الالمانية ان ما يقل عن نصف الالمان يعتبرون ان الولايات المتحدة تقوم بدور الضامن لتحقيق السلام في العالم مقارنة مع 62 في المائة كان لديهم نفس الاعتقاد عام .1993 كما ينظر 47 في المائة من المستطلعين ان الاميركيين اناس معادون، و34 في المائة يرونهم مسالمين، و44 في المائة يعتبرونهم سطحيين.

وفي نفس الوقت اظهرت نتائج استطلاع للرأي اجري في ابريل الماضي لمجلس العلاقات الخارجية بواشنطن ان الاوروبيين لهم موقف نقدي تجاه الرئيس بوش وتجاه ما يعتبرونه نهجا احادي الجانب من طرف الولايات المتحدة في مجال السياسة الخارجية. فنسبة 85 في المائة من الالمان و80 في المائة من الفرنسيين و73 من البريطانيين و68 من الايطاليين يعتقدون ان الولايات المتحدة تنطق من مصالحها الخاصة في حرب الارهاب. ويلاحظ الاستطلاع ان الولايات المتحدة باتت مرتبطة في اذهان الاوروبيين بأنها لا تقيم اعتبارا لآراء الآخرين. وتقول مارجوري تومسون، وهي اميركية تدير مجموعة استشارية في العاصمة البريطانية، ان البريطانيين شعروا بالفزع والصدمة من جراء هجمات 11 سبتمبر، لكنهم يعتقدون ان الولايات المتحدة باتت تستغل تلك الاحداث كمبرر لسياستها الخارجية الاحادية الجانب مما تسبب في انتشار التعليقات المعادية للاميركيين.

* قمع الرأي الآخر

* وحتى مغني البوب الانجليزي جورج مايكل ونجمة التنس مارتينا نافراتيلوفا ادليا بتعليقات حول الولايات المتحدة. فقد اعلن مايكل الشهر المضي انه لا يكن أي عداء للولايات المتحدة، وذلك بعد ان تلقى انتقادات على اغنيته «اطلق النار على الكلب» التي يسخر فيها من العلاقة بين رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والرئيس بوش. وفي يونيو (حزيران) الماضي، اضطرت نافراتيلوفا، وهي تشيكية الاصل واصبحت مواطنة اميركية قبل 20 سنة، للدفاع عن نفسها بعد ان كتبت مقالا لصحيفة ألمانية ذكرت فيه ان الولايات المتحدة باتت الآن «تقمع الرأي»، وان قراراتها قائمة على اساس مصلحتها الخاصة فقط.

واصبح واضحا ان صورة الولايات المتحدة في الخارج تعاني من مشكلة حقيقية. ففي الآونة الاخيرة، اعلن البيت الابيض عن انشاء مكتب دائم للاتصالات العالمية مهمته تحسين صورة الولايات المتحدة في العالم. وفي نفس الوقت صادق مجلس النواب الاميركي على إنفاق 225 مليون دولار على برامج خاصة بالمعلومات والثقافة في الخارج تكون موجهة في الاساس الى الدول الاسلامية بهدف تصحيح ما وصفه النائب الاميركي هنري هايد «الكره تجاه الولايات المتحدة وتشويه صورتها في الخارج».

وفي ذات الوقت فإن مجلس العلاقات الخارجية اصدر تقريرا يحذر ادارة الرئيس بوش بشأن الحاجة الملحة الى تحسين المساعي في جبهة الدبلوماسية الشعبية لمواجهة الصورة «المهتزة» للولايات المتحدة في الخارج. ويدعو التقرير الى اتخاذ مجموعة من الخطوات تشمل زيادة الإنفاق على استطلاعات الرأي العام الخارجي وإجراء المزيد من التدريب للضباط العاملين في الخارج وتوفير الفرصة للصحافيين الاجانب لمقابلة مسؤولي الحكومة الاميركية.

* عواقب مشؤومة

* ويرى بيتر بيترسون، رئيس مجلس مجموعة بلاكستون المصرفية الخاصة، ان عواقب اهمال هذا الدبلوماسية الشعبية ستكون «مشؤومة». وقال بيترسون ان بن لادن «استغل بفرح» الصورة العامة الهزيلة للولايات المتحدة. وأضاف ان الكثيرين حول العالم، من اوروبا الغربية الى الشرق الاقصى، ينظرون الى الولايات المتحدة كدولة «مغرورة ومنافقة ومنشغلة بنفسها وتطلق العنان لأهوائها وتزدري الآخرين». كما اشار الى ان هذه الصورة السلبية عن الولايات المتحدة ليست في الدول الاسلامية فحسب، بل هي موجودة كذلك في بقية دول العالم بما في ذلك الدول الحليفة معها.

وتوصلت الصحافية الاميركية جوليا ماغنيت، التي انتقلت في الآونة الاخيرة الى لندن، الى هذه النتيجة عندما اقامت لأصدقائها البريطانيين احتفالا في الرابع من يوليو (تموز) الماضي لمناسبة يوم الاستقلال الاميركي. فقد شن اولئك الاصدقاء هجوما على الرئيس بوش ووصفوه بأنه «قاتل مهووس» و«غبي»، كما وصفوا الولايات المتحدة بأنها «اكبر دولة ارهابية في العالم».

ووصفت ماغنيت (22 سنة) من جانبها هذه التعليقات بأنها «تفتقر الى المعلومات» و«تتسم بالجهل»، لكنها تفاجأت بالحقد والغضب في تعليقاتهم. وتقول ماغنيت ان ما سمعته من الناس باستمرار هو ان «الولايات المتحدة ستدخل في حرب مع الجميع». وتعتقد ان هذه المواقف تعكس «الانزعاج الشديد لدى اصحابها ازاء القوة التي تملكها الولايات المتحدة اليوم».

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»