الغموض يكتنف سياسة الإدارة الأميركية تجاه العراق ويحد من فاعلية بوش في كسب التأييد لإطاحة صدام

استمرار الخلافات بين الجناحين المدني والعسكري يؤخر الجهود الهادفة لبلورة صيغة نهائية للتحرك العسكري

TT

كسب معارضو صدام حسين أخيرا موقعا شرعيا مهما . فبعد مناشدتهم الولايات المتحدة طويلا كي تقدم دعما أكبر لهم التقاهم نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني واكد لهم ان صدام يجب أن يرحل. مع ذلك، فان لقاءاتهم بالمسؤولين الأميركيين التي استغرقت يومين لم تمنع من ظهور شكوك ممثلي المعارضة العراقية القديمة في جدية الإدارة الأميركية على الرغم من التأكيدات القاطعة التي ظل يرددها الأميركيون لقرارهم إسقاط صدام حسين.

وضمن هذا السياق حث هوشيار زيباري، أحد ممثلي الأكراد، تشيني أن يأخذ في حسابه إمكانية قيام صدام حسين بالانتقام من الأكراد، وطالب زيباري بضمانات قطعية من الأميركيين لحماية الأكراد، لكن تشيني رفض إعطاء وعود إضافية، وهذا ما جعل زيباري يتجنب إعطاء تعهد بأن الأكراد سيشاركون في أي عمل أميركي ضد صدام حسين. وقال زيباري: «نحن نريد تغيير النظام لكننا لن نكون طرفا في الصراع مع الديكتاتور العراقي إذا لم نحصل على ضمانات أمنية قوية تحمي مدنيينا، إضافة إلى وجود رؤية أميركية واضحة لمستقبلنا السياسي في عراق ما بعد صدام حسين».

هذا التردد من حليف قوي للولايات المتحدة ، كالأكراد، للدخول في حرب ضد صدام حسين، على الرغم من توقهم الشديد للتخلص منه، يعكس حالة التشوش القائمة في استراتيجية الإدارة الأميركية العسكرية الخاصة بالتعامل مع الرئيس العراقي.

وأدت الخلافات الحادة داخل الإدارة الأميركية إلى عرقلة المساعي الهادفة إلى تحديد الصيغة النهائية للعمل العسكري ضد العراق. فالحكومة الأميركية ما زالت تدرس عدة خيارات ـ مثل المساعدة على حدوث انقلاب عسكري أو دعم مقاتلين عراقيين بقوات خاصة أميركية لمواجهة صدام حسين وفق «النموذج الأفغاني» لكن التفكير العسكري السائد الآن هو باتجاه القيام بغزو للعراق يشارك فيه ما بين 70 ألفا إلى 250 ألف عسكري أميركي للسيطرة على العراق.

وستواجه القوات الأميركية الجيش العراقي الذي أصبح حجمه أقل من نصف ما كان عليه في سنة 1991 خلال حرب الخليج الثانية، إضافة إلى آثار العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق منذ ذلك الوقت والتي منعت الجيش العراقي من تجديد أي من أجهزته العسكرية. وبرزت الخلافات في مواجهة هذا الجيش ذي القدرات المتدهورة داخل البنتاغون بين العسكريين الكبار ومسؤوليهم المدنيين. فأشخاص مدنيون مثل نائب وزير الدفاع الأميركي بول وولفويتس ظلوا يدفعون قيادة الأركان للوصول إلى مخططات حربية مبتكرة تعتمد على عدد محدود من القوات العسكرية القادرة على شن هجوم سريع على بغداد أو دعم معارضي صدام حسين. لكن القادة العسكريين قاموا من جانبهم بوضع خطط أكثر حيطة تتطلب مشاركة قوات ضخمة، وهذا ما وجه ضربة قوية للنوايا الهادفة إلى غزو العراق في بداية السنة المقبلة، إذ أنها تتطلب وقتا أطول لنشر القوات الأميركية في المنطقة. كذلك عبّر قادة الأركان عن قلقهم من التورط في مهمات حفظ السلام المطلوبة بعد اسقاط صدام حسين.

ومع استمرار الجدل بين أنصار كلا السيناريوهين المتعارضين، اتهم بعض «الصقور» خارج البنتاغون الجنرالات بأنهم نسوا الدروس التي تحققت من الانتصار السابق الذي تحقق على النظام العراقي وانهم بدلا من ذلك استندوا إلى أساليب تقليدية في التخطيط. لكن القريبين من الجنرالات يقولون إنهم يعتبرون مطالب «الصقور» المدنيين بمواجهة العراق بهذه الطريقة خطرة وغير واقعية. وهذه الخلافات أثرت بدورها على هدف الرئيس بوش القاضي بـ«تغيير النظام» العراقي، وهذا ما عقد كل شيء. فمحللو البنتاغون ومسؤولوه يقولون إنه في حال دفع صدام إلى مواجهة عسكرية أخيرة، فإنه قد يكون مستعدا لاستخدام ترسانته من أسلحة الدمار الشامل والاساليب الأكثر دموية التي قد تلحق بالأميركيين خسائر كبيرة في الأرواح.

ولن يكون ممكنا تحديد عدد الخسائر بدون وضع خطة نهائية، لكن أحد قادة «عاصفة الصحراء» السابقين يقول إن الخسائر قد تصل إلى خمسة آلاف شخص في حالة وقوع غزو شامل للعراق. وقد تشمل الخسائر أولئك الذين سيصابون بهجمات بالغاز من القوات الأميركية، ومن الاسرائيليين في حالة إطلاق صواريخ سكود محملة برؤوس كيماوية تجاه إسرائيل، إضافة إلى تفرق الجنود العراقيين إلى مجاميع صغيرة داخل الأحياء المدنية لاستدراج القوات الأميركية إلى قتال الشوارع.

وحتى أولئك الذين يتوقعون تحقيق انتصار سريع يعترفون بأن الولايات المتحدة قد فشلت سابقا في تدمير أسلحته الخطيرة بشكل حاسم. فالطائرات الأميركية خلال حملة «عاصفة الصحراء» التي جرت سنة 1991 لم تستطع التأكد مما اذا تمكنت من تدمير أي صاروخ سكود، وأنها نجحت بشكل جزئي سنة 1998 أثناء حملة القصف، حسب ما يقول المحللون. ويعتقد أن عدد صواريخ سكود في العراق يتراوح بين 15 و80، وهي مفككة وموزعة في عدد من المواقع مما يجعل تدميرها عسيرا. من جانب آخر لم يكن لدى الولايات المتحدة سوى معلومات ضئيلة عن ترسانة صدام حسين من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية قبل حرب الخليج الثانية سنة 1991، وقال مسؤولان دفاعيان إنهما يشكان في توفر معلومات استخبارية أفضل عن هذه الأسلحة. فبعد مرور 12 عاما على حرب سنة 1991 ما زال صدام حسين يحكم بلده على الرغم من وقوع عدة محاولات انقلابية ضده.

وفي هذا الصدد يقول الجنرال الجوي المتقاعد ميرل ماك بيك، الذي كان أحد قادة الأركان في حرب «عاصفة الصحراء» إن الطائرات الأميركية حاولت تعقب صدام حسين خلال الحرب التي استمرت 43 يوما لكنها لم تستطع التحرك ضده. وأضاف ماك بيك: «اعتقد أنه إذا أردت أن تغير صدام حسين فعليك في هذه الحال أن تكون مستعدا لحرب طويلة نوعا ما. فهو سيظل مقاوما هناك». لكن آخرين غير متأكدين من نتائج الهجوم، فمساعد وزير الدفاع السابق كين أديلمان يقول إن غزو العراق سيكون سهلا جدا بل حتى أسهل من «عاصفة الصحراء» التي استغرقت مائة ساعة. فالجيش العراقي قد تقلص من 955 ألفا إلى 375 ألف جندي اليوم، مع 2200 دبابة و2400 مدرعة و300 طائرة مقاتلة.

ولكن ، ومثلما أظهرت حرب الخليج الثانية، قد لا تكون هذه الأرقام صحيحة. ففي سنة 1991 اعتبر موقع الجيش العراقي الرابع عالميا، مع ذلك كان تحطيمه سهلا جدا من جيش أقوى منه تمكنت طائراته من تحطيمه من الجو. واستسلم نتيجة لهذه الهزيمة أكثر من 70 ألف جندي عراقي بدون أن يطلق الكثير منهم أية رصاصة. مع ذلك لم يأخذ وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد وجهة نظر أديلمان مأخذ الجد حينما قال: «ليس هناك شيء سهل، ولا شيء هناك يمكن التكهن به». وهذا الرأي سانده العديد من المحللين المستقلين.

الرئيس بوش قال من جانبه انه لم يستقر بعد على رأي محدد إزاء خيار اطاحة صدام حسين، كما لم يحدد ما اذا ستتضمن عملية إزالة صدام استخدام القوة العسكرية، لكنه بدا اكثر ميلا للخطوات الاكثر تشددا. وتعتقد غالبية المحللين ان امام بوش ثلاثة خيارات يمكن تنفيذ أي منها بدرجات متعددة من التركيز او حتى تنفيذها مجتمعة. هذه الخيارات تشمل التحريض على انقلاب عسكري يؤدي الى اطاحة صدام او قتله واستخدام قوات المعارضة العراقية للقتال الى جانب القوات الاميركية تماما كما حدث في افغانستان بين القوات الاميركية وقوات «تحالف الشمال» المعارض، او ارسال عشرات الآلاف من القوات البرية بمساندة غطاء جوي اما كقوة هجوم خاطف محدودة العدد او بأعداد كبيرة كما حدث في عملية عاصفة الصحراء عام .1991 وكان الرئيس بوش قد وقع مطلع العام الجاري امرا تنفيذيا فوض بموجبه «وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية» اتخاذ خطوات سرية لإطاحة صدام، اذ يسمح هذا الامر للوكالة بتدريب قوات المعارضة العراقية وتزويدها بالسلاح وخطف صدام حسين او قتله. ويقول انصار تنفيذ انقلاب في العراق ان جنرالات صدام حسين يعانون من هبوط المعنويات ومن المحتمل ان ينتفضوا عليه اذا وجدوا تأييدا من الولايات المتحدة، وهذا ما كانت تأمل فيه ادارة الرئيس السابق بوش الأب لكنه لم يحدث. وقال مصدر في «وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية» ان مديرها جورج تينيت يعتقد الآن ان فرصة نجاح اطاحة صدام حسين من خلال هذه العملية السرية بدون تحركات عسكرية اخرى لا تتعدى 10 او 20 في المائة فقط، خصوصا ان صدام حسين يحيط نفسه بأقربائه واتباعه المخلصين ويعدم كل من يشك في ولائه له. اما احتمال شن حرب بالوكالة فيبدو خيارا مستبعدا بالنسبة جنرالات البنتاغون الذي أيد مسؤولوه المدنيون استخدام المعارضين العراقيين لتعقب صدام حسين بدعم من القوات الخاصة الاميركية كما حدث في افغانستان، بيد ان الولايات المتحدة لم تنفذ أي خطوات ملموسة لتدريب مثل هذه القوات. ومن المحتمل ان يشارك في هذه القوات الاكراد، الذين ترابط في الاراضي التي يسيطرون عليها في شمال العراق قوات قوامها 40000 فرد، الا ان الفصيلين الكرديين الرئيسيين لا يزالان مختلفين إزاء التعاون مع الاميركيين. فالأكراد يشعرون بالخيانة من جانب الولايات المتحدة عقب عملية عاصفة الصحراء عندما لم يفعل الاميركيون شيئا لمنع صدام حسين من سحق الانتفاضة الكردية آنذاك. الخيار الغالب يتركز في تبني نوع من الغزو العسكري، اذ بات خيار الغزو العسكري الكامل، بمشاركة نصف القوات التي شاركت في عملية عاصفة الصحراء، يحظى بالكثير من اهتمام كبار القادة العسكريين الاميركيين. وتعتقد غالبية المحللين ان حشد قوة قوامها 250000 جندي ربما تستغرق زمنا يتراوح بين ثلاثة وستة شهور. ويشير مسؤولون في البنتاغون الى ان هناك ما يزيد على 60000 من القوات الاميركية في منطقة القيادة المركزية حول العراق، بما في ذلك 100000 جندي في الكويت، التي تعد قاعدة محتملة لانطلاق الهجمات الاميركية ضد العراق. ولا تزال الصورة الدقيقة للحملة العسكرية الاميركية المحتملة غير واضحة، اذ يعتقد ان واحدة من الخطط تعتمد على شن هجوم بري على العراق من ثلاثة محاور على الشمال والجنوب والغرب، بيد ان قوات الدول الحليفة التي تحتاج الولايات المتحدة مشاركتها في الحملة ـ الكويت والاردن وتركيا ـ لم توافق. ويتوقع الكثير من المحللين ان الاردن سيبقى مستمرا لوحده في موقفه الحالي، كما ان مسؤولي الكونغرس يفترضون ان السعودية لن تمنح الولايات المتحدة قواعد برية للقوات الاميركية. وتقول مصادر ان قادة البنتاغون المدنيين دفعوا العسكريين للتوصل الى سبل جديدة للغزو. وفي نهاية الامر، يقول الكثيرون ان ما سيحدد النجاح النهائي لأي عمل عسكري اميركي ضد العراق سيكون من خلال جمع المعلومات الاستخبارية. فالمعلومات الجديدة والمواكبة ستحدث فارقا في ما اذا ستنجح القوات الاميركية في ضرب صواريخ «سكود» قبل اطلاقها ومنع استخدام الأسلحة الكيماوية ضد القوات الاميركية وقوات التحالف وحتى تعقب صدام حسين نفسه. فقد اكد محلل للشؤون الدفاعية وثيق الصلة بالبنتاغون ان توفر معلومات استخبارية صحيحة سيساعد الولايات المتحدة في كسب الحرب في ايام معدودة مع اقل قدر من الخسائر في الارواح، فيما المعلومات الاستخبارية الخاطئة ستؤدي الى خسارة الولايات المتحدة، واضاف متسائلا: «اخبروني، اين اسامة بن لادن اليوم؟؟».

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»