ادريس جطو: رجل بين الظل والواجهة

TT

يعتبر الكثير من المتتبعين لتطور تشكيلة التكنوقراط المغربية ان يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1993 كان تاريخا حاسما بالنسبة للحياة السياسية المغربية، ففي نفس التاريخ عين الملك الراحل الحسن الثاني حكومة ترأسها كريم العمراني مباشرة بعد اقرار دستور 1992، واقتراحه ان يتولى رئاسة الحكومة محمد بوستة، امين عام حزب الاستقلال، ووزير الخارجية السابق، وفشل هذا التحول النوعي المقترح على رأس السلطة الحكومية لاسباب كثيرة، اهمها ما كان يسمى وقتها بـ «حاجز ادريس البصري» الذي تمركزت لديه معظم السلط الحكومية منذ توليه وزارة الداخلية (كاتب دولة) عام .1974 لم يكن يوم 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1993 يوما عاديا، فقد اعيد فيه الاعتبار لفئة من كبار التكنوقراط الذين ادمجوا في الحياة السياسية العكرة لتلك المرحلة التي اتسمت بالشد والجذب بين بعض اركان الدولة ورجالاتها حيث تطبخ وصفات مقاومة التغيير الذي أطلق عليه اسم «التناوب»، وبين مجابهة اعقد الملفات الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها البلاد في تلك المرحلة.

حينها لمع اسم ادريس جطو (وزير الداخلية الحالي) بجانب اسماء اخرى مثل مصطفى الساهل (والي الرباط الحالي)، الذي عين وزيرا للصيد البحري والملاحة التجارية، وكان قبل ذلك مديرا للميزانية بوزارة المالية وممثلا للحكومة في بنك المغرب، ومحمد حصاد الذي عين وزيرا للاشغال العمومية والتكوين المهني وتكوين الاطر، وكان قبلها مديرا للتخطيط والدراسات بالوزارة نفسها، ثم مديرا عاما لاستغلال الموانئ، ومراد الشريف الذي عين وزيرا للتجارة الخارجية والاستثمار، الذي كان قبل ذلك مديرا عاما لقطب المناجم بمجموعة «أونا» المتعددة الانشطة الاقتصادية والاستثمارية، بالاضافة الى انشطته ضمن المجموعات الاقتصادية الدولية.

عين ضمن نفس التشكيلة الحكومية الشابة ادريس جطو وزير التجارة والصناعة دون أن يثير اسمه اي استغراب، خصوصا ان سمعته وجديته هيأته قبل هذا التعيين ليكون واحدا من الرجال المطلوبين لتقلد مسؤولية تسيير عدة شركات بالدار البيضاء، اضافة الى انتخابه رئيسا للفيدرالية المغربية للصناعات الجلدية، ومسؤوليته كنائب لرئيس الجمعية المغربية للمصدرين، وعضويته في عدة هيئات اقتصادية اهمها الكونفدرالية العامة الاقتصادية المغربية.

لم يغب عن البال ان الاصول السوسية (نسبة الى منطقة سوس بجنوب المغرب) لجطو بكل ما عرف عن اهل سوس من انضباط وجدية في العمل، عملت على رسم صورة رجل لا يعرف معنى للمناورة التي تفرضها عمليات وضع الاقنعة المتناقضة كما هو الحال عند عديد من السياسيين المحترفين. فهذا الرجل الذي شرب ثقافة اخرى بحكم نشأته في مدينة الجديدة التي ولد بها في 24 مايو (ايار) 1945، وهي «الثقافة الدكالية» (نسبة الى منطقة دكالة الواقعة جنوب الدار البيضاء) المحتفية بالحياة والعيش، والمنفتحة على كل اشكال التعبير التي يقترحها مجتمع بدوي عروبي (نسبة الى البداوة بمعنى قدحي للكلمة في اللهجة الدارجة المغربية) يعتمد الفلاحة اساسا في نشاطه الاقتصادي، تميز عن عدد من اقرانه، وكان واحدا من قلة قليلة هاجرت من الجديدة الى الدار البيضاء الشاسعة، وعوض ان يركب جطو على احلام مراهقته، وينضم الى المجموعة التي استهلكت ذاتها في المتع التي توفرها مدينة كبيرة لبدوي من اصل سوسي التحق على العكس من ذلك، بثانوية الخوارزمي، الثانوية التي تحمل اسم العالم الرياضي العربي الذي اكتشف الصفر، ليحصل سنة 1964 وهي من السنوات الحرجة في تاريخ المغرب، على شهادة البكالوريا التقنية الرياضية، ويلتحق سنة 1965، اي في العام الذي اعلن فيه الملك الراحل الحسن الثاني عن حالة الاستثناء، بكلية العلوم بالرباط، ليدرس العلوم الفيزيائية والكيميائية.

لكن جطو عوض ان يلتهب بجمر تلك المرحلة، فضل ان يكمل تعليمه وتكوينه، وهكذا التحق بكورد وانيزرز كوليج في لندن ليحصل سنة 1968 على دبلوم في تسيير وتدبير المقاولات، تحركه عن وعي بوصلة داخلية تميز بين الاوهام والحقيقة.

ربما كان الانجاز الكبير الذي حققه جطو خلال فترة ولايته الحكومية، وهو يعمل بجانب رجل قوي مثل ادريس البصري، وزير الداخلية الاسبق، هو اكتشافه لسيارة «الأنو» (بالايطالية) فاذا كان الخوارزمي قبله بقرون قد اكتشف الصفر، فان جطو اكتشف الواحد (الانو) وحول سيارة ايطالية صغيرة، الى سيارة مغربية شعبية، وحقق بذلك طموح فئات واسعة من الموظفين ومتوسطي الدخل في امتلاك سيارة رخيصة تملأ اليوم شوارع وطرق المغرب.

مرت غيوم صغيرة على تجربة جطو في الحكومة التي ترأسها كريم العمراني، وفي الحكومة التالية لها التي ترأسها عبد اللطيف الفيلالي. عاد الرجل بصمته المعهود فيه الى اعماله واهتماماته الاصلية.

بعد وفاة الملك الحسن الثاني صيف 1999 سيشاهد جطو حاضرا عن قرب خصوصا في الموكب الذي يرافق الملك محمد السادس وهو يزور الاقاليم (المحافظات) المغربية مباشرة بعد تسلمه الحكم، احيانا كان يغيب ادريس البصري عن المشهد المرئي فيبدو حضور ادريس جطو كانما هو حضور وزير داخلية غير معين، واشيع وقتها تخمين بان جطو سيخلف ادريس البصري في منصبه لكن حين عين بدله في تلك المرحلة احمد الميداوي وزيرا للداخلية سأله احد الصحافيين: ما الامر؟ ما الذي حدث؟ اجاب بابتسامة فيها كل الحرج والخجل: «انا دوما رهن اشارة جلالة الملك».

كانت حكومة عبد الرحمن اليوسفي الثانية على عهد الملك محمد السادس اكثر اختزالا ومركبة باتقان وعلى مقاس المرحلة التي تطلبت عدة اصلاحات في منظور الحكم وفي منظور السلطة. هكذا جاء دور ادريس جطو وعين وزيرا للداخلية بدلا من احمد الميداوي الذي ارسى بعض التدابير الاصلاحية المتعلقة بالمفهوم الجديد للسلطة، لكن هذا المفهوم للسلطة سيأخذ ابعادا اقتصادية اكثر جذرية، بعودة الفريق التكنوقراطي، الى واجهة السلطة بعد ان عينوا ولاة في الجهات والاقاليم (المحافظات) المغربية بدا للبعض ان عودة التقنوقراط هو بمثابة حكومة ظل تعمل جنبا الى جنب مع الملك محمد السادس لتنشيط الاستثمار وتدبير التنمية بعيدا عن البيروقراطية الحكومية والترهل الاداري. وفي هذه المرحلة توسع فريق التقنوقراط ليشمل ادريس بنهيمة، اضافة الى حصاد والقباج والساهل ومراد الشريف وغيرهم، مانحين نظام الحكم في المغرب بعدا جديدا يتميز بالتخلي عن الهاجس الامني لصالح الهاجس الاقتصادي ـ الاجتماعي. ونتج عن ذلك، قبر رموز العهد القديم ورجالاته.

لعل التحدي الذي يواجه جطو اليوم هو جعل شعار الانتخابات التشريعية التي ستجري يوم 27 سبتمبر (ايلول) الحالي المتمثل في «الشفافية والمصداقية» شعارا يلامس الحقيقة وليس كل الحقيقة. وفي ان تؤكد هذه الانتخابات للمجتمع المغربي وللعالم اجمع ان الدولة تخلت عن التدخل لصالح زبنائها لصنع خريطة سياسية على المقاس. التحدي كبير، والنجاح المطلوب لا بد ان تضمنه ادارة جطو بمساهمة كل الفرقاء.