عراقيون يأملون أن تقبل حكومتهم بعودة مفتشي الأسلحة الدوليين لتجنب حرب أخرى

TT

الولع الجديد السائد بين الصبيان ميسوري الحال في بغداد هو الانشغال ليلا بإطلاق النار على العدو بواسطة بنادقهم الصغيرة. وهذا يجري في العشرات من مراكز الكومبيوتر التي انتشرت اخيرا في بغداد، ويقف الزبائن عند حوامل مزينة بملصقات آخر أفلام هوليوود ليلعبوا آخر ألعاب الفيديو، مستخدمين أحدث كومبيوترات البانتيوم القوية المربوطة بعضها ببعض عبر الانترنت.

وبالنسبة لزيد عبد الأمير، مهندس الكومبيوتر البالغ من العمر 34 عاما، يُعتبر خوض لعبة الحرب على الكومبيوتر «شيئا ممتعا» وسط زبائن آخرين لا تزيد أعمار معظمهم على نصف عمره. مع ذلك فهو مثل الكثيرين في بغداد لا يمتلكون الرغبة في خوض حرب حقيقية. وفي هذا الصدد قال عبد الأمير، الذي كان ضمن من أرسِلوا إلى الكويت لتأدية خدمته العسكرية «هل يمكن تصور أنفسنا نعيش لمدة ستة أشهر بدون كهرباء أو ماء أو طعام كاف؟ بالتأكيد نحن لا نريد حدوث ذلك ثانية. نحن جميعا لصالح حل سلمي مع الولايات المتحدة».

وقال العديد من العراقيين عبر مقابلات أجريت معهم الأسبوع الماضي، ومن دون التعبير عن اختلافهم مع حكومتهم بشكل واضح، إنهم يأملون بأن تقبل الحكومة العراقية بعودة مفتشي الأسلحة الدوليين، وأضافوا أن هذه الموافقة هي أفضل طريقة لتجنب التصادم مع الولايات المتحدة. فحياة الكثير من العراقيين شهدت تحسنا ملحوظا خصوصا في الجانب الاقتصادي، وهذا ما جعلهم يصرون على أن آخر شيء يريدونه هو وقوع حرب تدمر ما كسبوه في السنوات الأخيرة. وقال مواطن من بغداد «حكومتنا تقول إنها ما عادت تمتلك أسلحة، إذن دعوا المفتشين يعودون. إذا كان ذلك سيوقف وقوع هجوم أميركي ضدنا، علينا القيام بذلك». من جهته، قال وميض نظمي المتخصص في العلوم السياسية بجامعة بغداد «الكثير من العراقيين يقولون نفس الشيء. أنا لا أظن أن أي مسؤول عراقي يرغب في مشاهدة صداما آخر مع الولايات المتحدة. نحن عشنا حرب 1991 إنها كانت حربا من جانب واحد. إنها حرب غير متكافئة. وليس هناك أي سبب لتكرارها».

وكان بوش قد حذر الأمم المتحدة الخميس الماضي من أن «الإجراء العسكري لا يمكن تجنبه» ضد العراق إلا إذا وافقت الحكومة العراقية على عودة مفتشي الأسلحة لتقرير ما اذا كان العراق يمتلك أسلحة نووية أو بيولوجية أو كيماوية، لكن العراق يصر على أن كل أسلحة الدمار الشامل التي كانت في حوزته تم تدميرها. ففي مؤتمر صحافي عقده نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز اول من امس، قال إن بلاده راغبة في أخذ عودة المفتشين مأخذ الاعتبار، إذا تم وضع شروط على نشاطاتهم وإذا قام مجلس الأمن برفع العقوبات الاقتصادية التي فرضت على العراق بعد غزوه للكويت.

ويبدو أنه من العسير قياس مدى شعبية صدام حسين في الشارع العراقي. فتوجيه أي نقد للرئيس الذي رفعت شعارات تمجده في كل نقاط التقاطع، سيؤدي إلى الاعتقال والسجن. مع ذلك حاول بعض العراقيين أن يوصلوا وجهات نظرهم عبر مراسل «واشنطن بوست» من خلال نظرات مختلسة، أو بالاشارة إلى نص في كتاب أو عن طريق تقاعسهم في مدح الرئيس صدام حسين مباشرة ـ عن توقعهم لوقوع تغيير سياسي. وقال رجل في الخمسين من عمره «نظامنا ليس مثاليا... لكنني لا أستطيع أن أقول أكثر من ذلك».

مع ذلك، وحتى لدى أولئك الذين أعطوا الانطباع بأنهم غير راضين عن حكومتهم، ليس هناك أي دعم يمكن ملاحظته لعمل عسكري أميركي يهدف إلى اطاحة صدام حسين. فجميع الذين تمت مقابلتهم، بضمنهم عدد قليل من الأفراد الذين تكلموا بعيدا عن الرقيب الملازم من وزارة الاعلام، عبروا عن انزعاجهم من فكرة غزو الولايات المتحدة للعراق لانشاء حكومة بديلة. وقال أحد التجار «نحن لا نريد حكومة يشكلها لنا الأميركيون. نحن لا نحب عدوانا من هذا النوع». أما مهندس الكومبيوتر عبد الأمير الذي سبق له الاشتراك في حرب الخليج الثانية فعبّر عن رغبته للتطوع. وقال إن «كل شخص هنا لديه مسدس. وإذا لم يكن عنده ذلك فلديه سكين. وإذا لم تتوفر سكين أو مسدس فسنرمي الحجر عليهم مثلما يفعل الفلسطينيون. بوش أحمق إذا فكر أن الشعب العراقي سيرحب بقدوم الأميركيين».

أما أستاذ العلوم السياسية نظمي فأكد أن المشاعر المعادية للأميركيين بين العراقيين العاديين لم تبدأ من حرب الخليج الثانية بل بعد سنوات قليلة أخرى حينما بدأت العقوبات الاقتصادية تضغط على الناس وأصبح الطعام المتوفر قليلا، حاله حال الأدوية. والمستلزمات الأولية أصبحت إما عسير العثور عليها في الأسواق وإما أن أسعارها لا تناسب سوى أولئك الأثرياء. وقيمة الدينار أمام الدولار هبطت بمعدل 6000 في المائة. وأضاف نظمي أن «حرب الخليج الثانية لم يُنظر إليها بين بعض الدوائر كاعتداء أميركي بعد احتلال العراق للكويت لكن مع استمرار العقوبات الدولية وبدئها بإيذاء السكان المدنيين أكثر من إيذائها للحكومة بدأ الناس يفكرون في أن المجتمع العراقي هو الذي كان الهدف الحقيقي للولايات المتحدة». وقال نظمي وآخرون إن معاملة الحكومة الأميركية المختلفة لإسرائيل وعملياتها العسكرية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة تم استثمارها من صدام حسين لتعزيز المشاعر المعادية للأميركيين.

في الوقت نفسه، قال محللون إن انتعاش الاقتصاد، وإن كان بطيئا، عزز موقع الرئيس العراقي، وهذا النمو الاقتصادي يعود بالدرجة الأولى إلى اتساع برنامج الأمم المتحدة «النفط مقابل الغذاء»، إذ سمح هذا البرنامج للعراق بأن يشتري معدات للاستهلاك المدني وللصناعة النفطية قيمتها 37 مليار دولار منذ عام .1996 والتأثير الأكثر وضوحا لهذه الزيادة يتجلى في رفع الحصة التموينية من الارز والدقيق والسكر والشاي الذي توفره الحكومة لجميع العراقيين. كما قامت الحكومة العراقية بعقد اتفاقيات التجارة الحرة مع تسعة بلدان أخرى خلال السنة الماضية لدفع عجلة الاقتصاد. ويقول المحللون إن الحكومة العراقية رفعت من نسبة تهريبها للنفط وهذا ما أدى إلى تقديم دخل إضافي يساوي نصف ما يحصل عليه العراق من برنامج النفط مقابل الغذاء. ونتيجة لكل ذلك، ارتفعت معدلات نمو الاقتصاد العراقي عام 2000 بـ15 في المائة.

ومع توفر الأموال الكثيرة تمكنت الحكومة العراقية من إكمال إصلاح جميع الجسور والمصانع ومنشآت الخدمات العامة والبنايات الحكومية التي تم تدميرها أثناء القصف الأميركي للعراق خلال حرب الخليج عام .1991 وجعل كل المحلات في بغداد التي كانت فارغة من السلع خلال السنوات التي أعقبت الحرب السابقة، تسترجع مرة أخرى حياتها، إذ أصبحت مملوءة بالسلع المستوردة. أما المقاهي المفتوحة فأصبحت مزدحمة بزبائنها. كذلك أعيد فتح مطار صدام الدولي لرحلات نحو الأردن وسورية وروسيا، بل حتى الناس الفقراء قالوا إنهم أصبحوا قادرين على شراء طعام أكثر هذه الأيام. وقال جليل جبار (34 عاما): «جاء وقت ظننت فيه أنني لن أكون قادرا على قول هذا الشيء: الحياة جيدة». وتمكن جبار قبل شهرين من فتح مركز للكومبيوترات بمبلغ ثمانية آلاف دولار التي تمكن من ادخارها عندما عمل مصمما لشركة عمه الخاصة بمواد التجميل. والمركز الذي يمتلكه الآن يقع في شارع غاص بالمحلات وفي الأمسيات يحاول زبائنه المراهقون أن يقتلوا بعضهم بعضا بالكومبيوترات.

ويسكن جبار مع جده شقة مريحة ولديه دراجة نارية. وفي الجمعة الماضي كان يرتدي قميصا أسود ماركة أرماني وبنطلون جينز ماركة «ليفاي» الشهيرة. وقال جبار إنه لم يستمع إلى خطاب (الرئيس الاميركي جورج) بوش لكنه عبّر عن عدم فهمه سبب رغبة الولايات المتحدة في ضرب العراق إذا رفضت بلاده عودة مفتشي الأسلحة. وقال: «نحن لا نشكل خطرا على الولايات المتحدة. ونحن لن نهاجم الولايات المتحدة. نحن لسنا أغبياء كي نقوم بذلك».

عبر المدينة، وابتداء من صفوف تلك المناضد المخصصة للسلع إلى مسجد «أم المعارك» نقل العراقيون مشاعر مماثلة. والكثير منهم قال انه حتى إذا كان العراق يكره الحكومة الأميركية فانه لا يرغب في الدخول في حرب أخرى مع الولايات المتحدة.

وقال قيس خير الدين البالغ من العمر 53 عاما الذي يعمل في مصنع للقطن كان قد ضُرب أثناء الحرب الأخيرة: «نحن لا نريد أن نُقصف مرة أخرى». وأضاف جبار أنه في حال غزو الولايات العراق فإنه سيكون مستعدا، إذ أنه كان يلعب على كومبيوتره الشخصي لعبة اسمها «ميدالية الشرف» حيث أن البطل هو جندي أميركي في الحرب العالمية الثانية ويقوم بمطاردة القوات النازية في شمال أفريقيا. وأضاف جبار «سنقاتل في الشوارع إذا فُرض القتال علينا، لكنني أفضل أن أقوم بذلك على الكومبيوتر فقط».

*خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»