الشعب المغربي يرفض المغامرة ويختار الاستمرار على درب الإصلاحات

بقلم: خالد الناصري *

TT

تستعد المملكة المغربية لخوض غمار انتخابات حاسمة، وذلك يوم الجمعة 27 سبتمبر الجاري.

إن السؤال الجوهري المرتبط بهذه الاستشارة الشعبية التي تعود عليها الشعب المغربي منذ بداية عهد الاستقلال هو: ما الرهان المرتبط في العمق بهذا الاستحقاق؟ لقد صوت الشعب المغربي 16 مرة من أجل انتخاب، سواء المجالس الجماعية أو البرلمان. معنى هذا أن المواطنين يوجدون مبدئيا على بينة تامة من الموضوع لأن لديهم تراكمات فيه.

إلا أن الواقع مخالف لذلك بسبب تعدد المعطيات النوعية المختلفة مع ما حصل في الماضي، بحيث أن الجميع يقر بأن هناك قطيعة مع ما سلف من تجارب انتخابية فاسدة، كانت قد أفقدت «الديمقراطية المغربية» كل مذاق وأزاحت عن المؤسسة النيابية كل مصداقية، سواء لدى الفاعلين السياسيين أو لدى الرأي العام الوطني نفسه.

هناك معطيات جديدة نوعيا تضفي على الحدث نكهة جديدة وتطبعه بطابع سياسي متميز، أولها عهد ملكي جديد، قوامه نزوع الملك بقوة في اتجاه نهج الإصلاحات الضخمة التي يقود شخصيا العديد منها. ثاني المستجدات، انخراط البلاد تدريجيا منذ مطلع العقد الماضي في عملية تأهيل واسعة الآفاق، سياسياً ومؤسساتياً واقتصاديا، عملية تبلورت بالخصوص في مرحلة «التناوب التوافقي» الذي قاد المعارضة السابقة إلى الحكومة، بعد خصومة تاريخية عقيمة مع المؤسسة الملكية، فتمكنت البلاد بفضل ذلك، من خلق مناخ جديد من الاستقرار السياسي ساعد في نطاق توافقي، على طي صفحات الماضي السلبية، وفتح آفاق إصلاحات هامة، ما زلنا في بدايتها. ثالث المستجدات، الحضور القوي للمجتمع المدني والانتظارات المكثفة التي يعبر عنها الرأي العام، في ظل فضاء من الحرية لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد، وهذه الانتظارات القوية تتعلق بالخصوص بالجانب الاجتماعي الذي روكمت فيه العديد من العيوب والنقائص بفعل تدبير حكومي عمره اربعون سنة، وبينت التجربة أنه قاد إلى الباب المسدود في هذا المجال. وهي حاجيات عجزت حكومة التناوب التوافقي فعلا عن تلبيتها أثناء ولايتها منذ مارس 1998، وقد يشفع لها أن ما تم إفساده في أربعين سنة، لا يتم إصلاحه في أربع سنوات.

إلا أن الأساسي بالنسبة للمحلل السياسي هو: ما المنتظر من هذه الانتخابات؟

الرهان الكبير هو أن تتمخض الانتخابات عن أغلبية وطنية وتقدمية مريحة لإتمام الإصلاحات الكبرى.

نعتبر أن الرهان الأساسي هو تأمين الانتقال الديمقراطي للذهاب إلى الأمام بالإصلاحات الكبرى التي حركتها بلادنا، بقيادة ملك جريء وطموح، وبتدبير حكومي استطاع رغم ثقل التركة الموروثة عن العهد السابق، وثلاث سنوات متتالية من الجفاف القاسي، استطاع وضع حد لنزيف البلاد وتقهقرها وخلق حركية سياسية واقتصادية واعدة، رغم كل ما يمكن أن يوجه من انتقادات لبطء الحكومة المنتهية ولايتها بعد ثلاثة أسابيع. الرهان الأساسي هو أن تفرز هذه الانتخابات التي نعمل جاهدين على أن تكون أول انتخابات نزيهة وذات مصداقية في تاريخ المغرب، أن تفرز أغلبية برلمانية وطنية وتقدمية تتميز بالمنحى الحداثي الشجاع والمسؤول، وبالجرأة في العمل، والتبصر في الرؤية والنجاعة في الانجاز لتكون منطلقا لتشكيل ائتلاف حكومي أكثر إقداماً وعطاء وانسجاماً. ولن يتأتى ذلك إلا إذا تمكننا من تجاوز الفسيفساء الحزبية غير الجدية التي تبدو ملامحها في الأفق (26 حزباً يتبارون في هذه الانتخابات...لكن البقاء للأصلح).

الرهان، هو تشكيل حكومة منسجمة، ديمقراطية، تقدمية، مقدامة، تستطيع تجدير نهج الإصلاح ( المؤسساتي، والسياسي، والإداري، والقضائي، والاجتماعي)، ذلك النهج الذي لم تتمكن الحكومة الحالية، إلا من مباشرة محطاته الأولى.

الرهان، هو الجواب على تحديات ضخمة، مزدوجة: داخلية وخارجية.

داخليا، المطروح في الميزان هو استكمال بناء المجتمع الجديد الذي يطوي نهائيا صفحات الماضي التي اتسمت بكثير من الفساد السياسي والمالي والإداري، وعمقت الفوارق الاجتماعية وداست الحريات، ذاك المجتمع الجديد المبني على تراكمات الهوية المغربية المركبة التي انصهرت فيها الأبعاد الإسلامية والعربية والأمازيغية والأفريقية والأندلسية من جهة، والمجتمع الباني للحداثة والديمقراطية كخيار لارجعة فيه، من جهة أخرى. خارجيا، المطروح في الميزان هو فرض احترام المغرب على الجوار الجيو ـ سياسي، نظراً لنوع من التطويق العدائي من لدن الجيران والإخوة الجزائريين في الشرق (وهم يسعون لتطويق المغرب من الجنوب عبر معاداتهم اللاأخلاقية لحقوق المغرب التاريخية في صحرائه) ومن لدن الجيران الإسبان في الشمال، (وهم يتعاملون بكثير من الاستعلاء الاستعماري مع بلادنا في كل الملفات العالقة: الهجرة السرية، الصيد البحري، تنقل البضاعات المغربية نحو أوروبا، ملف الوحدة الترابية شمالاً وجنوباً...). ينتظر المغرب إذن من هذه الانتخابات أن تعطيه برلماناً تتمخض عنه حكومة قوية قادرة على معالجة كل هذه التحديات الداخلية والخارجية حتى يتمكن من احتلال مكانه المتميز والمستحق في الحضيرة العربية والإسلامية والأفريقية والدولية.

لا شك أن المغرب يستعد لاكتشاف خريطته السياسية الحقيقية لأول مرة في أعقاب أول انتخابات نزيهة في تاريخه، وهناك تكهنات عديدة واستطلاعات للرأي تفضي إلى خلاصات متباينة في بعض الأحيان، إلا أن اقتناعنا الراسخ هنا، أن قوى الصف الديمقراطي، على تنوع طيفها، ستخرج رابحة، معززة بشرعية شعبية قوية، باعتبار أن أحزاب «اليمين الإداري» التي تحملت مسؤولية التسيير الحكومي في السنوات الغابرة، ورغم نزوعها لركوب خطاب ديماغوجي، لن تفلح في كسب أغلبية أصوات الناخبين، وذلك هو ذات اعتقادنا بالنسبة للتيارات التي تلبس الإسلام بضاعة سياسية سهلة، لأن الشعب المغربي لا يقبل لا بالديماغوجية ولا بالتطرف ولا بالمغامرة.

خلاصة القول، إن المغرب الذي يعتبر من البلدان العربية القلائل التي تنهج بشجاعة نادرة، نهج الانفتاح الديمقراطي، وهو في طور تنقيح هذا النهج وتدعميه وتحصينه، يضع اليوم كامل ثقته في شعبه الذي هو مدعو لتناول الكلمة بكل مسؤولية وسيادة. بتعبير آخر، هذه البلاد تراهن على مواطنيها المدعويين بإلحاح، لتحمل مسؤولياتهم الوطنية كاملة غير منقوصة، حتى يقولوا بحرية رأيهم النهائي في نوعية المستقبل الذي يختارونه لبلادهم.

قناعتنا الراسخة أن الشعب سيختار الاستمرار بعزيمة وإقدام، في طريق التصحيح والتقويم والتأهيل، وسيتصدى لكل من يحاولون الرجوع بالمغرب إلى الوراء، لأن التضحيات المستميتة للقوى الوطنية والتقدمية لعشرات السنين لا يمكن أن تذهب هدراً، فالمستقبل لمغرب مرفوع الرأس، موفور الكرامة، بقيادة ملك مصلح وقوى سياسية، ملتزم ببناء الديمقراطية السياسية والرفاهية الاقتصادية والعدالة الجتماعية، وهذا هو الثالوث الذي ليس للمغرب عنه بديلا.

* عضو الديوان السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ومدير المعهد العالي للإدارة بالرباط ورئيس اللجنة العربية الدائمة لحقوق الإنسان (جامعة الدول العربية)