محققون إيطاليون: التنصت أفادنا أكثر من اعترافات المقبوض عليهم في التعرف على خطط «القاعدة»

TT

كانوا يدركون ان الشرطة تراقبهم، لكنهم كانوا في حاجة الى التحدث الى بعضهم، لذا فانهم كانوا كثيراً ما يعقدون اجتماعاتهم داخل سيارة ظنا منهم ان الشرطة لن تستطيع في الغالب التنصت على السيارة. لكن عناصر هذه الخلية التابعة لتنظيم «القاعدة» قد أخطأوا التقدير.

توجهت سيارة من طراز «سيتروين» صوب اطراف مدينة ميلانو الايطالية سالكة طريقا يمر عبر خطوط الحافلات الكهربابية وتحت الجسور. مرت السيارة عبر المطاعم الايطالية القديمة ومحلات الجزارة التي تبيع اللحم المذبوح وفق الشريعة الاسلامية وعبر عدد من الدراجات النارية التي يقودها ايطاليون كما يبدو من شعرهم المتموج ونساء مهاجرات يحملن ما اشترينه من محلات البقالة. كان يقود السيارة عبد القادر السيد الذي يعتبر واحداً من ابرز عناصر «القاعدة» في ايطاليا، اذ اصبحت سيارته بمثابة مركز للاجتماعات وملاذ لرفاقه. وطبقا للحديث الذي دار وتنصتت عليه الشرطة الايطالية، وجه التونسي عادل بن سلطان (31 سنة) سؤالا الى عبد القادر السيد عندما كان يستقل مع آخرين السيارة المذكورة في 7 ديسمبر (كانون الاول) الماضي، قال فيه «اذا رغب الشخص في الذهاب الى القتال، لماذا لا تسمح له؟». فرد السيد بالقول «الأمر المهم هو انك تطمح لذلك. عندما تأتي اللحظة، فإنك لا تعرف ما اذا كنت ستستشهد في الجزائر او تونس او اميركا او آسيا الوسطى. هذا امر لا يعلمه احد». ورد بن سلطان من جانبه قائلا «اريد ان اتخلص من هؤلاء الخنازير». واضاف مخاطبا السيد انه بات يكره كل شيء متعلق بايطاليا. وتابع «اصبحت اكره الناس واكره الوثائق والمستندات. اريد ان اذهب الى أي مكان آخر».

وخلال العديد من الاحاديث التي جرى التنصت عليها على مدى عامين كان اعضاء ما صار يعرف باسم «خلية ميلانو» يخططون ويهددون ويتحدثون عن قصص حرب وقتال وصوتهم مليء بالكره واليأس. معظمهم اصوليون من دول شمال افريقيا التي فروا منها الى ايطاليا هربا من الاضطهاد، لكنهم تحولوا هناك الى اشخاص آخرين وبدوا كأن لديهم احساسا دائما بالخطر والضياع.

«الدردشة» هي الكلمة الدارجة التي تستخدم وسط بعض رجال الاستخبارات للاشارة الى المكالمات التي يجرى التنصت عليها. وتكمن أهمية «الدردشة» في استخدامها في الكشف عن الهجمات المرتقبة وإعادة ترتيب الهجمات السابقة وتحديد مواقع شبكات «القاعدة». واخضعت المحادثات التي جرى التنصت عليها في دول عديدة قبل 11 سبتمبر (ايلول) 2001 الى الكثير من التدقيق، بيد ان التعليقات التي وردت في تلك المحادثات ظهرت خطورتها في وقت لاحق. فعلى سبيل المثال، يحقق ضباط ايطاليون واميركيون حاليا حول يمني هارب زار المتهمين في ايطاليا في اغسطس (آب) 2000 وتحدث عن خطط لهجوم كبير تستخدم فيه طائرات ومطارات، مما يشير الى انه ربما كان على معرفة بمخطط هجمات 11 سبتمبر.

وتساعد عملية التنصت المحققين على فهم دوافع الناشطين الاصوليين. وعلى الرغم من ان شبكة «القاعدة» تضررت من حملات التعقب المتشددة عالميا، فإن خبراء في الشؤون الامنية يعتقدون ان احداث العام الماضي خلفت جيلا جديدا من المتطرفين الغاضبين. ويقول محقق ايطالي ان هؤلاء الشبان يشعرون بنوع من الهيجان ويريدون فعل شيء، مشيرا الى اهمية دور ائمة المساجد في تهدئتهم.

ويقول محللون ان «القاعدة» منظمة ذات طبيعة مراوغة بسبب ثقافة السرية التي تتميز بها. فالاحاديث التي سجلت خلال عمليات التنصت قربت الوصول الى الحقيقة اكثر من الشهادات امام المحاكم او الاعترافات.

ولا شك ان حواجز الثقافة واللغة لا تزال تشكل مشكلة كبيرة في التعرف بشكل دقيق على دوافع وخطط هؤلاء الناشطين. ففي محاكمة عناصر من «القاعدة» في مدريد، اتهم محامو الدفاع الشرطة بالخطأ في تفسير احاديث عادية حول شراء فواكه وخضروات وتفسيرها على اعتبار انها عبارات مشفرة لنشاطات ارهابية.

وتحتوي تسجيلات ميلانو على تفاصيل دقيقة للحياة اليومية لأفراد المجموعة اعتمادا على التنصت الذي جرى على السيارة والهواتف والشقق والمسجد. واصبحت الوثائق الخاصة بهذه التسجيلات جزءا من قضايا امام المحاكم. وقد ادانت المحكمة بعض المشتبه فيهم، فيما لا يزال البعض الآخر ينظر في قضيتهم ويعتقد ان احدهم قد توفي. كما قضى المشتبه فيهم الكثير من الوقت في مناقشة جوانب تتعلق بوثائق ومستندات مزورة. واحتوت التسجيلات على احاديث حول الاستراتيجية ورحلات واحد من الفارين واحاديث تشيد باسامة بن لادن وغيره من القيادات الاصولية.

فقد كانوا يجلسون في شقة قذرة يتباهون ويتفاخرون وهم يشاهدون شرائط فيديو تتضمن صوراً للمقاتلين يذبحون جنودا من الروس في مناطق تغطيها الثلوج في الشيشان. وطبقا للمحادثة التي تم التنصت عليها في 22 مارس (آذار) 2001 في شقة بضاحية غالاراتي، قال مشتبه فيه يدعى خالد «انظروا، كيف ذبحوه». وسأل رجل آخر يدعى فريد واصوت الطلقات النارية المنطلقة من شاشة التلفزيون تتردد في الخلفية «لماذا بقي الشخص الآخر حيا؟». فرد خالد «انهم يستعدون الآن للحرق». ثم بدأ يقص عليهم ذكرياته القتالية في الشيشان.

وقال فريد بتعجب وهو يعيد النظر في شريط الفيديو مرة اخرى «هذا الشريط مخيف. يمكنك مشاهدة الكوماندوز الروس بعدما تأكد لهم ان رقابهم تقطع على يد جنود حقيقيين. افضل قوات الكوماندوز سترتعش من الخوف اذا شاهدوا هذا».

وتجدر الاشارة الى ان «خلية ميلانو» كانت واحدة من اكثر خلايا «القاعدة» نشاطا في مجال الامداد اللوجستي في اوروبا قبل 11 سبتمبر. واستخدمت هذه الخلية التي يسيطر عليها التونسيون مدينة ميلانو كنقطة تجمع لسفر المجندين عبر ايران للتدرب في معسكرات افغانستان.

وقدمت «خلية ميلانو» التي ترتبط بعلاقات مع خلايا في بريطانيا والمانيا وبلجيكا واسبانيا وفرنسا، خدمات لعناصر «القاعدة» العابرين الى افغانستان وغيرها. وقال السيد لمرؤوسيه «اذا اردتم العمل معي فهذه هي الوظيفة. اذا اراد الاخوة الاختفاء، نخفيهم، واذا ارادوا وثائق نتولى اعداد الوثائق لهم، واذا ارادوا بندقية، نعطيهم بندقية».

وقد تمكن السيد، الذي يعتبر الشخصية الرئيسية في تحقيقات ميلانو، من الفرار من ايطاليا الى افغانستان خلال ملاحقة الشرطة له في يوليو من العام الماضي (ذكرت السلطات انه قتل في معارك في افغانستان في الشتاء الماضي). وقد كشفت التسجيلات عن شخصية لطيفة لكنها مناورة وغامضة.

وكان الشبان التونسيون المشتبه فيهم يقدرون كثيراً السيد، وهو مصري في اواخر الثلاثينات ومن الذين شاركوا في نشاطات الحركات الاسلامية بمصر، وهو إمام وخبير في تزوير الوثائق وكان موضع ثقة ايمن الظواهري الذراع الايمن لابن لادن، وغيره من كبار شخصيات «القاعدة»، طبقا لوثائق المحاكمة.

وكان السيد يحب ترديد ذكريات الفترة التي التقى فيه بن لادن. وكان يحث اتباعه على الصبر. وعلى الرغم من ادانته بتهم ارهابية في مصر، فإن الحكومة الايطالية منحته حق اللجوء السياسي عام 1997، مما اثار تكهنات بأنه يرتبط بعلاقات مع جهاز استخباراتي ساعده على الحصول على اللجوء.

وكان نائب السيد في ميلانو، سامي بن خميس، التونسي الذي كان يدير شركة صيانة صغيرة كواجهة لنشاطاته. وقد ادين بن خميس في فبراير (شباط) الماضي مع ثلاثة من شركائه وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات بتهمة تزوير وثائق وعلاقات جنائية بغية الحصول على اسلحة ومتفجرات، وتهم متعلقة بالهجرة. كما ادين بن سلطان واثنان آخران في محاكمة اخرى. وقد اصر محامو الدفاع على ان المشتبه فيهم ليسوا ارهابيين، وانما شبان صغار في السن غرر بهم.

غير انه بدا صعباً تبرير الادلة المفصلة. فقد كشفت عمليات التنصت عن اتصالات جرت بين خلية ميلانو وكبار شخصيات «القاعدة» في اوروبا وافغانستان. وتحدث المشتبه فيهم عن هجمات ومعسكرات تدريب ووثائق مزورة وغيرها من النشاطات التي تبدو مرتبطة بالارهاب.

وقد ساهمت التسجيلات في ربط المجموعة بمؤامرات محددة، مثل الهجوم الفاشل على كنيسة في فرنسا كان مقرراً شنه في ديسمبر (كانون الاول) 2000، غير ان الشرطة لم تتمكن من تفسير اشارات غامضة، مثل ما قاله السيد لابن سلطان خلال تبادل للحديث بينهما «لا تنس مشروع اليهود». ورد عليه بن سلطان، طبقا لنص التسجيلات، «قلت لك انني على استعداد لاي شيء. اذا اردت احضاره لك في صندوق سأحضره لك في صندوق».

وفي بعض الاحيان يصعب التفريق بين التباهي والمؤامرات الحقيقية، لا سيما عندما تكون المحادثات مشفرة. وقد غير السيد رقم هاتفه 30 مرة خلال ستة اشهر لافشال محاولات التنصت عليه، طبقا لما ذكرته السلطات.

غير ان المحققين في مجال مكافحة الارهاب اعتادوا على زرع اجهزة التنصت بل ووضع كاميرا فيديو في اصيص للورد خارج مسجد في ميلانو. وعثر المتشددون في النهاية على الكاميرا، الا انهم، وعلى الرغم من شكوكهم، لم يتمكنوا من العثور على الميكروفونات المخبأة داخل المسجد. وقد مثلت اشرطة التسجيل المسجلة داخل المسجد تحديا لمترجمي الشرطة، الذي صار يتعين عليهم التفريق بين الاصوات المختلفة التي تتحدث في نفس الوقت. وقد ادعى مشتبه فيه خلال جلسات المحكمة ان الصوت المسجل على الشريط ليس صوته على الرغم من الادلة المتعددة. ورد عليه المترجم في قاعة المحكمة «استمعت لك منذ عامين. صدقني، اعرف صوتك».

*خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»