ما بعد استحقاقات 27 سبتمبر 2002: من منطق المواجهة إلى متطلبات التحديث

عبد المنعم دلمي*

TT

يعيش المجتمع السياسي المغربي هذه الأيام في خضم تسارع أحداث ومحددات حركية سياسية غير مسبوقة. وفي هذا السياق يتساءل البعض إن كانت الانتخابات الحالية تشكل استمرارية لما شهده المغرب منذ خمسين سنة، أم أن الأمر يتعلق بقطيعة في الصيرورة السياسية السابقة.

في الواقع لا يمكننا الجزم بحدوث قطيعة على هذا المستوى، في تصوري يمكن الحديث عن تطور في مسلسل التغيير السياسي. وما حدث بالتحديد هو أن المغرب شهد تطورا مهما متعدد الأبعاد اشتد إيقاعه في السنوات الخمس الأخيرة.

إن إيقاع التطور السياسي بدأت وتيرة سرعته ترتفع عندما وقع نوع من التوافق السياسي الذي يمكن اعتباره من أهم افرازات حكومة التناوب في مارس .1998 لكن يحق لنا أن نتساءل ما هي القراءة الممكنة لمفهوم التناوب. المصطلح في حد ذاته يكتسي عدة دلالات لكننا سنختار من بينها ما يتعلق بتلاقي مجموعة متجانسة من الشركاء السياسيين لخلق الأجواء الضرورية والكافية للوصول إلى تنظيم انتخابات تشريعية يرضى عن نتائجها الجميع.

إن المشكلة الحقيقية لبلورة الديمقراطية في البلدان النامية ليست هي تنظيم الانتخابات على المستوى التقني، ولكن المشكلة تكمن في القدرة على تنظيم انتخابات يرضى عنها الجميع ولا تترك أي مجال للمنازعة حول نتائجها من هذا الطرف أو ذاك. لذا فالمشكلة الحقيقية التي تعترض تثبيت الديمقراطية في مثل هذه البلدان تكمن في ايجاد السبل الواجب اتباعها من أجل إفراز توافق واقعي وملموس في أفق إرساء نظام ديمقراطي حقيقي.

ولهذا فالتساؤل لا يطرح بتاتا على المستوى التقني بل حول شروط تنفيذ الاتفاق المسبق الذي لا يجب أن يشكك فيه أحد الأطراف. ولقد مكنت تجربة حكومة التناوب بالمغرب من تحقيق هذا التوافق الذي ساهم في تسريع وتيرة التغيير الذي نقف اليوم عند نتائجه الملموسة، خصوصا من خلال ما يجري في الانتخابات الحالية.

إن التغيير كصيرورة سياسية واجتماعية ينبني على أساس انخراط العديد من الفاعلين فيه في ظل شروط موضوعية تنصهر في إطار حركية شاملة. وفي هذا السياق هناك العديد من العناصر التي يجب أخذها بعين الاعتبار. أولا يجب تمثل مستوى تطور البلاد، فكل الملاحظين يستطيعون أن يقفوا اليوم على ما يشهده المغرب من تطور وتحول في ميادين عدة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. والوصول الى هذا المستوى من التطور لم يعد يسمح باستمرار نظام حكم سلطوي أو استبدادي لا يترك أي هامش لممارسة الحريات الديمقراطية وإلا أصبح نظام الحكم أكبر عائق أمام مسلسل التطور الاقتصادي. ربما يوجد وضع يتطور فيه المجال الاقتصادي إلى حد معين في إطار نظام سلطوي لا ديمقراطي، لكنه لن يتعدى حدودا معينة، وبعدها يسقط في فخ التناقض وحتما يصبح غير منتج. إنه الوضع الذي كاد المغرب أن يقع فيه. لكن الوضع الصحيح هو الذي يقع فيه نوع من التجانس بين الديمقراطية والليبرالية الاقتصادية. ولقد أظهرت التجربة عبر العالم أنه من شبه المستحيل أن تجد دعائم الليبرالية اقتصادية رواسي لها دون أن نفعل ثوابت العمل السياسي الديمقراطي وندعم الحريات العامة في اتجاه توسيعها واكسابها أكبر هامش ممكن في أمد زمني منظور أو متوسط. إن الحاجة الملحة الى تحرير المجال السياسي في المغرب برزت كضرورة موضوعية دفعت بصانعي القرار السياسي إلى القبول بالدخول في مرحلة انتقالية تهيأ فيها كل الشروط الإيجابية لولوج مرحلة جديدة. والسؤال المركزي المطروح الآن هو هل نستطيع فعلا تحقيق هذا الانتقال، إذ لا يكفي أن نعي بضرورة التغيير، لكن ما يلزمنا هو الإرادة والقدرة على إنجازه.

إن التحولات التي شهدتها اللعبة السياسية بالمغرب يمكن مقاربتها من خلال التحول الذي طرأ على صيغة الصراع السياسي الذي انتقل من منطق الاقصاء إلى منطق تدبير المصالح المشتركة والتعايش. فالتناقضات التي تنشأ في ظل منطق الإقصاء تتفاعل في إطار مواجهات ذاتية أو حتى نرجسية. مواجهات لم تكن تسمح بالتعايش، بل كانت تنبني على أساس «أنا أو لا أحد».

أما تدبير التناقضات الحالية فيتم من خلال القبول بالآخر. إن المغرب بصدد وضع اللبنات الأولى لهذا الواقع الجديد، وضع تصبح فيه الديمقراطية واقعا ملموسا، أي أن يحصل الاتفاق حول الأشياء الجوهرية ويتم وضع قواعد اللعبة والقبول بالتناوب على السلطة.

إن تجربة التناوب جاءت بإيعاز من القصر نفسه، والأحزاب السياسية أبدت استعدادا للمشاركة، علما أن عددا منها كان في الماضي رافضا لأي فكرة إصلاح للنظام من الداخل.

وما نشهده اليوم هو حدوث نوع من النضوج السياسي الذي بدأ يطفو على الساحة السياسية المغربية، كما أن الأحزاب أضحت تعي بذلك ولم تتأخر في المشاركة من أجل إنجاح هذا المسلسل.

إننا اليوم نشهد المراحل النهائية لرص لبنات هذا المسلسل، ولكن هذا ليس إلا البداية، لأننا إذا توفقنا في إنجاح هذا المسلسل، فذلك بالطبع يكون بغرض الدخول في مرحلة جديدة، مرحلة تتسم بالجديد على المستوى السياسي وعلى المستوى الاقتصادي وعلى مستوى تدبير الشأن العام. وهذا لا يعني بالضرورة أن كل التناقضات داخل المجتمع بدأت في الاندثار. أنا لا أعتقد أنها ستندثر، بل أظن أننا سنلج مرحلة يتم التعبير فيها عن التناقضات بصيغ جديدة.

إن أمر إعداد الانتخابات بمساهمة الجميع على أساس اتفاق مسبق لإنجاحها يعتبر إشارة على أن هذه التناقضات بدأ التعبير عنها بشكل جديد، وأنها أصبحت تناقضات عادية إلى حد أن المجتمع يمكن أن يستوعبها تماما.

هذا التطور يعني أننا دخلنا في مرحلة يمكن نعتها بـ«المتحضرة». ولقد كلفنا الوصل إلى هذه المرحلة 50 سنة من تاريخ المغرب الحديث، ولا شك في أن تجسيد فكرة الانتقال ينحصرالآن في الطريقة والظروف التي سيعيش من خلالها المغرب هذه الاستحقاقات. المرحلة السياسية التي عاشها المغرب عرفت بالطبع تألق فاعلين سياسيين عملوا على تنشيط الحياة السياسية بما كان متاحا لديهم من إمكانيات. أما تدبير المرحلة المقبلة التي سيكون الرهان الكبير فيها يدور حول من له القدرة على إسعاف الآخرين وتوفير كل شروط الاغتناء المادي لهم من خلال ضمان خلق الثروة. وهذا يعني أن المرحلة المقبلة، سوف تسفر عن ظهور فاعلين جدد أكثر تكيفا مع واقع المرحلة الجديدة.

من ضمن هؤلاء الفاعلين سنجد المجتمع المدني وكذلك الأحزاب السياسية التي عليها أن تتطور تحت ضغط متطلبات المرحلة وعليها أن تعمل على تشبيب زعاماتها وإعطاء مركز الريادة لمن يتوفرون على كفاءات في التسيير والتدبير.

نحن اليوم على المستوى الحزبي دخلنا مرحلة الانتقال من واقع المواجهة إلى واقع التسيير والتدبير. ففي النظام السابق لكي تكون مسؤولا عن هيئة سياسية يجب أن تتقن فن المواجهة، وأن تتوفر على قدرة عالية للمقاومة. لكن الآن الأمر تغير والهدف الحقيقي لأي تنظيم سياسي هو الوصول إلى السلطة.

ولا بد من الاعتراف بأن حكومة التناوب قامت بدور مهم في تحقيق توافق سياسي، لكن على المستوى الاقتصادي تعرضت للعديد من الانتقادات اللاذعة على هذا المستوى الذي لوحظ فيه ضعف نسبي. ولا شك أن ما بعد استحقاقات 27 سبتمبر سيتميز بضرورة رفع أهم تحد لمغرب محمد السادس، إنه تحدي القدرة على تدبير الشأن العام، وهو في آخر المطاف رهان ستتبلور من خلاله الصورة المستقبلية الحقيقية لمغرب الغد.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس في الرباط والرئيس المدير العام لصحيفتي «الصباح» و«ليكونوميست»