«الشرق الأوسط» في بغداد قبيل الضربة المرتقبة: العراقيون يرفضون الحديث في السياسة ويتوقعون حربا مدمرة

TT

لا يبدو للمتجول في شوارع بغداد هذه الأيام أن العراقيين يبالون بطبول الحرب التي تقرعها واشنطن ولندن ضد بلدهم. فلا مظاهر مسلحة من دبابات وجنود في الشوارع او حتى رجال مسلحون على اسطح المنازل الذين عادة ما يترافق ظهورهم مع احتمال اندلاع عمليات عسكرية مع عدو خارجي، او مظاهر تمرد مدني تتمنى الادارة الاميركية ان تحفز العراقيين على القيام به ضد نظامهم السياسي نتيجة معاناتهم طيلة اثنتي عشرة سنة من الحصار.

هذه اللامبالاة الظاهرة لا تعني ان العراقيين لا يفكرون بالحرب او لا يتوقعون شكلها ونتيجتها لكن حالهم المعيشي المتردي والضربات الاميركية المتواصلة منذ عقد من الزمان اوصلت الشعب الى حالة من القدرية السياسية بان ما سيحدث لا يمكن رده «اذا جاءت الحرب لا نستطيع ردها لذلك لا نحب الحديث في السياسة»، حسبما قالت عاملة في احد الفنادق.

ينقسم الشارع العراقي الى فئتين; الاولى تستبعد الضربة العسكرية مستندة الى الضجيج الدولي المناهض للتوجه الانجلو ـ اميركي وفئة تتوقعها معتبرة ان الولايات المتحدة لا تكترث باعتبارات القانون الدولي او الاخلاق لتنفيذ ضربتها. ولكن الفئتين تجمعان على ان النظام العراقي وجيشه قادران على التصدي والبقاء.

ليس سهلا للصحافي ان يجد عراقيا يستطيع محادثته واخذ رأيه الصريح في الاحداث المتوقعة. فالكل يرفض الخوض في السياسة وخاصة مع الغرباء. وجهت سؤالا الى «ابو ندى» السائق الذي اقلني من فندق فلسطين الى شارع الرشيد، لم يجد كلمات يرد بها على سؤالي عن ضربة وشيكة لبلده سوى قوله متهكما: «اميركا دولة عظمى معقول تظل حاطة عقلها ويانا»؟ ورغم الحاحي عليه بالسؤال حول توقعاته بالضربة ونتائجها واغرائي له باجرة مضاعفة لأستمع الى رأيه الصريح فان ابو ندى اصر على استعمال يديه فقط ليقول «لا ادري، وما ادراني انك لست جاسوسا». وبدا يكيل المدائح للقيادة العراقية الى ان وصلت مقصدي.

ما فعله هذا السائق لا يختلف كثيرا عما يفعله العراقيون في الشارع عادة، فهم مرعوبون من الحديث بالسياسة او البوح بافكارهم الخاصة او انتقاد الحكومة العراقية، بل انهم لا يشيرون الى الرئيس باسمه بل تسبقه عبارة «السيد الرئيس» او حتى «المنصور باذن الله».

ويعتقد نقيب اطباء العراق الدكتور محمد الراوي ان العراق سينتصر في المواجهة المقبلة، «لأن صدام حسين هو صلاح الدين الجديد الذي نبحث عنه مند زمن... انه ضمير الانسانية... سننتصر لاننا نؤمن وهم يكفرون... لاننا المستقبل وهم يدافعون عن ماض تعفن».

لا يخفى للمتجول في الشارع ان العراقيين يضعون الكثير من اللوم على الامة العربية التي خذلتهم وخذلت قيادتهم لكن النبرة الدينية في احاديثهم واضحة لا يمكن اخفاؤها رغم كون مظاهرها غير بادية للعيان في الشوارع الا في قرار الحكومة منذ منتصف العقد الماضي بمنع تقديم المشروبات الكحولية واغلاق جميع البارات والحانات واقتصار التعامل بهذه المشروبات على البيع فقط.

يتوقع الشاب مهدي ضربة اميركية قوية لان العرب غير متكاتفين وتركوا العراق وحده، لكنه يستطرد «الله موجود ودين محمد قوي». ويستغرق رجل اربعيني في التحليل ليقول: «اميركا تقول انها تريد ان تغير النظام نحو الافضل لكنهم غير صادقين. انظر ماذا يحدث في افغانستان. انها فتنة داخلية ولا اعتقد ان العراقيين سيستفيدون من اية حرب قادمة». واضاف: «الاميركيون لن يستطيعوا هزيمتنا من الجو واذا لجأوا الى حرب الشوارع فلن يغلبونا. لكن سيموت ناس كثيرون. دعهم يقصفون القصور نحن بلد خير وسنبقى».

ويستغرب الزائر اطلاع هذا الرجل على تفاصيل ما يحدث في افغانستان في ضوء عدم وجود الستلايت او الانترنت او الصحف العربية والاجنبية في السوق بشكل طبيعي. كما ان الصحف العراقية تفرد كامل صفحاتها لقضايا العراق والحصار والمواقف المؤيدة للعراق أو الرافضة للهجوم الاميركي المحتمل، ولا وجود للقضايا الأخرى عربية كانت أو دولية.

ويعترف صحافي عراقي بان بلاده لم تعد تمتلك أسلحة أو تكنولوجيا متقدمة ويقول: «لا يوجد شيء لدينا يستأهل الضرب. أحد مقاسم بغداد الهاتفية ضرب ست مرات متتالية. هل هو هدف عسكري؟ انه الحقد الاسود».

أحد العرسان على مدخل فندق فلسطين يتأبط ذراع عروسه بفستانها الابيض وثلاث نساء خلفهما بدون اي مظاهر احتفالية يقول: «هكذا بالفرح نرد على العدوان». وعادة ما تستقبل الفنادق الكبيرة العشرات من العرسان وخاصة ليلة الخميس/الجمعة. لكن دخولهم لم يعد يثير أحدا لان عادة «الزفة» المصاحبة للعرس بدأت تختفي تدريجيا نتيجة الظروف المعيشية الصعبة والمآتم المستمرة مند الثمانينات.

أحد التجار في شارع السعدون رفض التصريح باسمه لا يتوقع أن تكون هناك ضربة لبلاده ويفسر ذلك بقوله: «بعد مظاهرة لندن التي تجمع فيها 400 الف معارض للحرب ازداد الرفض العالمي للعدوان وخاصة بعد موافقة الحكومة العراقية على عودة المفتشين. هذا كله يدعونا للتفاؤل بعدم حدوث حرب لا مبرر اخلاقيا على الاقل لشنها». والملاحظ ان الوضع التمويني في بغداد اصبح افضل مما كان عليه قبل عامين. وقد فاجأتنا احدى السيدات المتسوقات في منطقة الشورجة الشعبية بقولها انها لا ترغب في رفع الحصار عن العراق لانها ستخسر البطاقة التموينية التي تغطي كامل احتياجات أسرتها من السكر والرز والشاي والبقوليات والمنظفات والزيوت والدهون.

العراقيون يعتزون ببلدهم لكنهم لا يستطيعون التعبير عن رأيهم بصراحة. اقوالهم لا تعكس بالضرورة مكنوناتهم، والباطنية السياسية سمة موجودة في التاريخ العراقي منذ القدم. لكنهم يحاولون الحياة رغم صعوبتها فتجد مهرجاناتهم على مدار العام واخرها مهرجان بابل في الشهر الماضي الذي يرفع شعار «من نبوخذنصر الى صدام حسين».