البلدوزرات الإسرائيلية أكثر ترويعا للفلسطينيين من الدبابات

TT

كان حمد شتات يعرف ماذا يأتي في اللحظة التي كان يسمع فيها هدير المحركات التي يصم ضجيجها الآذان. فبعد لحظات رأى بلدوزرين يشغلهما الجيش الاسرائيلي يتحركان باتجاه قطيع من الماعز ويصطدمان بجدران بيته.

لم تكن هذه بلدوزرات من النوع المألوف. فالآلات الضخمة التي تحمل لقب «الوحش» هي اصغر قليلا من دبابة، لكنها اكثر ترويعا منها. ان اصغر شفراتها القابلة للتبادل هي اطول من متوسط الشخص الراشد، وعريضة بما يكفي لازالة طريق بممرين في ضربة واحدة.

قال شتات «في غضون ساعات دمرت احلامنا امام انظارنا».

وبالنسبة للفلسطينيين اصبحت البلدوزرات الأميركية الصنع من طراز كاتربيلر دي 9 ـ وشقيقاتها الاكبر من طراز دي 10، ودي 11 ـ رموزا كريهة لقوة اسرائيل العسكرية، ودليلا آخر على مشاركة الولايات المتحدة في افعال الاسرائيليين.

وفي الضفة الغربية وقطاع غزة يتحدث الفلسطينيون عن بلدوزر دي 9 الذي يبلغ وزنه 104 باوندات باللهجة الغاضبة التي يتحدثون بها عن طائرات اف 16، وطائرات الهليكوبتر من طراز اباتشي. فالاطفال الذين يلقون بالاحجار على الدبابات الاسرائيلية يهربون من بلدوزر دي 9.

وقد استخدم الجيش الاسرائيلي البلدوزرات لازالة بيوت المقاومين ومن يقومون بأعمال التفجير الانتحارية، واقتلاع جذور بساتين الزيتون، وتسوية الارض لاقامة الطرق المؤدية الى المستوطنات اليهودية، وتكديس الصخور لسد الطرق التي يستخدمها الفلسطينيون. كما نشر هذه الآلات باعتبارها اسلحة هجومية. وعندما انعزل الجنود في أبريل (نيسان) الماضي في مخيم جنين للاجئين، سوت بلدوزرات الجيش من طراز دي 9 البيوت بالأرض في منطقة تساوي مساحتها ملعبين لكرة القدم وسرعان ما انهت المعركة.

وفي رام الله لعبت البلدوزرات دورا كبيرا في محاصرة مجمع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وتدمير معظمه، محيلة رمز الحكم الذاتي الفلسطيني الى ما يشبه مقلع حجارة. فالمباني التي شيدتها بريطانيا العظمى خلال سنوات ثلاثينات القرن الماضي انهارت تحت ثقل بلدوزرات دي 9، التي هدمت الطوابق الخرسانية واحالتها الى ركام بكل سهولة.

وقد تصدعت جدران ذلك المبنى الذي يشغله عرفات ومساعدوه، وكانت ماسورة دبابة تتجه نحو نافذة غرفة عرفات، غير ان مساعديه كانوا يخشون ازالة المبنى التي تشير الى نهاية حقيقية.

وكان قائد في الجيش الاسرائيلي يقف وسط الركام على بعد 100 ياردة من مكتب عرفات، ورأى ان المدافع لن ترغم احدا في الداخل على الاستسلام. وقال «ان الضغط الحقيقي يأتي من البلدوزرات».

ويبلغ ارتفاع كل بلدوزر ضخم من طراز دي 9، ذي المقدمة التي تشبه الانف الافطس، 13 قدما، ولديه شفرة بارتفاع ستة اقدام واربع بوصات، وطول 14 قدما. وتبلغ كلفة الجهاز 500 الف دولار، وينفق الجيش الاسرائيلي 120 الف دولار اخرى لاضافة درع، وحجرة مضادة للرصاص للسائق الذي يتعين عليه تسلق سلم للوصول الى مقعده. اما الشفرة الموجودة في البلدوزرات من طراز دي 11، والتي تبلغ قيمتها 1.1 مليون دولار، فيبلغ ارتفاعها 11 قدما وعرضها 24 قدما.

ويعترف ممثلون من شركة كاتربيلر، التي تعتبر اكبر شركة في العالم لتوفير معدات البناء والتعدين الثقيلة، ان استخدام الاسرائيليين غير المألوف لهذه الاجهزة خلق اشكالا للشركة. وقال المتحدث باسم الشركة بنجامين كورداني، وهو يقرأ بيانا اعدته الشركة، ان «كاتربيلر تشارك العالم قلقه حول اضطراب الاوضاع في الشرق الأوسط، ومن المؤكد اننا نشعر بالتعاطف مع كل اولئك المتأثرين بالنزاع السياسي. غير ان ما يزيد على مليوني جهاز وماكنة كاتربيلر تعمل في كل بلد ومنطقة في العالم كل يوم. وليس لدينا حق قانوني ولا وسائل لمراقبة الاستخدام الفردي لتلك المعدات».

ورفض متحدثون باسم الجيش التحدث عن عدد البلدوزرات التي يملكها الجيش وعدد البلدوزرات التي يستخدمها في اطار عقود من شركات خاصة. كما لم يسمح الجيش باجراء مقابلات مع أي من سائقي البلدوزرات.

وقد كتبت الصحف الاسرائيلية عن قائدة وحدة البلدوزرات في مجمع عرفات، المرأة البالغة 23 عاما والتي تحمل رتبة ملازم أول، واشير الىها باسم تاليا. وقد وصفت هذه المرأة، التي صورتها الصحافة باعتبارها امرأة شابة مبتسمة، العمل باعتباره نموذجا للهندسة الدقيقة، وليس تدميرا وحشيا.

ولكن المعرفة التقليدية عن بلدوزر دي 9 ترسخت، على الاقل في اذهان جماعات حقوق الانسان والفلسطينيين، عندما تحدث جندي الاحتياط موشيه نسيم الى صحيفة «يديعوت احرونوت» في مايو (ايار) الماضي عن قيادته البلدوزر في جنين بعد ساعتين من التدريب فقط.

فقد ابلغ الجندي البالغ من العمر 40 عاما الصحيفة كيف انه تناول الويسكي ليبقى يقظا لفترة 75 ساعة، وقال انه «لمدة ثلاثة ايام كنت امحو وامحو. لقد دخلت جنين يدفعني الجنون، واليأس. ولم اشعر بالضيق من ازالة كل البيوت التي ازلتها، وقد ازلت الكثير. لقد حولتها الى مدرج وسط المخيم. واذا كنت آسفا على شيء، فعل عدم تهديم كل المخيم».

وقد رفض الجيش قصة نسيم باعتبارها تبجحا مبالغا فيه لجندي مخمور بائس. ولكن بالنسبة للنقاد العسكريين تكشف رواية نسيم الواسعة الانتشار عن نموذج الشخصية المجندة للجلوس على مقعد البلدوزرات من طراز دي 9.

كان بوسع حمد شتات رؤية الرجل الذي يقود بلدوزر دي 9 الذي دمر بيته. كان يرتدي ملابس مدفعية، ولكنه كان محميا بحجرة مضادة للرصاص مرتفعة كثيرا عن الارض.

وقد ادخر شتات وشقيقه موسى، البالغ من العمر 42 عاما، المال لمدة 30 عاما من اجل بناء هذا البيت في منطقة تقع تحت السيطرة الاسرائيلية جنوب مدينة الخليل. ولم يحصلا على رخصة بناء قال انه من المستحيل تقريبا الحصول عليها بسبب تقييدات السفر، ولكنهما قالا، ايضا، ان السلطات الاسرائيلية لم تحذرهما من ان بيتهما سيتعرض للازالة، وبالتالي لم تكن امامهما فرصة للاستئناف في المحكمة.

وقد جاءت البلدوزرات صباح يوم الثاني من سبتمبر (أيلول) الماضي مصحوبة باثني عشر من الجنود. اما ما تبقى فهو الحدود الخرسانية لأسس البناء، ركام من القضبان المعدنية الرابطة، والالواح الزيتية لأحجار الكلس التي استخدمت لاحاطة الباب الامامي.

قال موسى، الذي كان يرتدي قبعة البيسبول، المطرزة بالعلم الأميركي، والذي كان يسير على الارض التي كان بيته ينتصب عليها سابقا «شعرنا بالعجز والضعف. ان بلدوزر دي 9 اكثر ترويعا من الدبابة. فعندما يأتي، يعرف المرء انه قادم لتدميره».

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»