«مامونية» جطو و«سندس» اليوسفي.. ما أشبه مشاورات اليوم بالأمس

«الشرق الأوسط» تنشر يوميات شاهد عيان تابع مشاورات حكومة تأخر الإعلان عنها كثيرا

TT

نهاية الاسبوع الماضي ساد اعتقاد ان تنصيب الحكومة المغربية الجديدة برئاسة ادريس جطو بات وشيكا، وداخل قاعات التحرير في الصحف المحلية كان الكل يتوقع ان يتم الاعلان عن التشكيلة الحكومية الجديدة بعد انتهاء زيارة الرئيس المصري محمد حسني مبارك الى المغرب ودامت ثلاثة ايام. وبحكم وجود الملك محمد السادس وكبار معاونيه في مدينة مراكش فقد تحولت «المدينة الحمراء» الى عاصمة المغرب الفعلية، واليها نقل ادريس جطو مشاوراته مع زعماء الاحزاب السياسية الذين وجهت لهم دعوة حضورمراسم استقبال الرئيس المصري. وتحول فندق»المامونية»الفخم الذي يقيم به الوزير الاول المعين وكبار مسؤولي الدولة الى فضاء للتشاور. والى الفندق كان يحضر كبار المسؤولين الحزبيين والطامحين في الاستيزار لعلهم يفلحون في لقاء الوزير الاول المعين او على الاقل من سيشفع لهم عنده للاستيزارهم. وليست هذه مجرد صدفة فما اشبه اليوم بالامس مع اختلاف الظروف، فقد سبق لعبد الرحمن اليوسفي الوزير الاول المنتهية ولايته أن أقام هو الآخر في فندق «سندس» بالرباط عندما كان بصدد تشكيل حكومته عام .1998 وكان يتخذ من ذلك الفندق الذي كان آنذاك قد فتح للتو ابوابه، مركزا لكل مشاوراته التي كان ينهيها في بيت الوزير احمد الحليمي العلمي، وهو البيت الذي ولدت فيه حكومة التناوب المنتهية ولايتها. واذا كان اليوسفي قد اختار عام 1998 فندقا صغيرا يقع في قلب حي «اكدال» في الرباط نظرا لعدم توفره على سكن في العاصمة المغربية، ومن ثم كان لذلك الاختيار الاعتباطي دلالته، لعل اهمها القرب من نبض الشارع. لكن اليوسفي ما ان انتقل من فندق «سندس» الى مقر اقامة الوزير الاول في شارع الاميرات بحي السويسي الراقي حتى بدأت الفجوة تتسع بين حكومته وبين هموم الشارع التي حملت حزب القوات الشعبية ليتبوء المكانة الاولى في انتخابات عام .1997 ولم تكن هذه الفجوة ناتجة عن ابتعاد مقصود عن «معانقة هموم الشعب» كما كانت تقول ادبيات الاشتراكيين المغاربة ايام المعارضة، وانما فرضتها الظروف والإكراهات. لذلك عندما عين الملك محمد السادس جطو، وزيرا اول قبل 20 يوما ونيف نصحه بتشكيل حكومة تكون قريبة من الشعب.

والى ان ترى حكومة جطو النور يصعب الحكم على طبيعتها، لكن من خلال القراءة الدلالية للمكان الذي وجد جطو نفسه مضطرا الى اجراء مشاوراته مع الاحزاب، يمكن ان نستنتج ان جطو وهو رجل تكنوقراطي يبحث عن تشكيل حكومة «غير مصنفة»، اي حكومة اكثر من خمسة نجوم. حكومة يكون جذرها ضارب في اعماق تربة السلطة المركزية، وعروشها مشرئبة على كل الحساسيات السياسية القائمة في المجتمع المغربي. ومن يتأمل فندق المامونية يجد في بعض خصائصه ملامح تفصح عن حكومة جطو التي تترقب الانظار ولادتها بين الفينة والاخرى. والمكان هنا هو فندق «المامونية» الذي يعود بناؤه الى عام .1923 وهو في الاصل كان عبارة عن بيت وحديقة مساحتهما خمسة هكتارات، اهداهما السلطان سيدي محمد بن عبد الله الذي حكم المغرب في القرن الثامن عشر الى ابنه الرابع الامير مولاي المامون. وقد جرت العادة ان يهدي سلاطين المغرب الى ابنائهم بيوتا وحدائق خارج القصبات بمناسبة زواجهم، وسميت حديقة بيت الامير العريس آنذاك بـ «العرصة المامونية» حسب لغة اهل مراكش. ومن هنا جاء اسم اشهر فندق في المغرب الذي اقام فيه ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا الاسبق عام 1943، ودعا اليه الجنرال شارل دوغول بعد انتهاء مؤتمر انفا في الدار البيضاء الذي عقد في نفس العام وحضره الكبار الثلاثة: فرانكلين روزفيلت، الرئيس الاميركي، وونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، وشارل دوغول، قائد المقاومة الفرنسية آنذاك.

خلال الايام الاربعة الماضية تابعت «الشرق الاوسط» ما كان يجري داخل أروقة هذا الفندق التاريخي وخارجه من لقطات لها علاقة بتشكيل الحكومة الجديدة التي يعتقد ان اخراجها النهائي وضعت سيناريوهاته داخل نفس الفندق الذي يشهد اخراج افلام لكبار المخرجين مثل فيلم «اندار بالجنوب» لإيرك فون ستروهايم، و«المغرب» لمارلين ديتريتش و»الرجل الذي يعرف كثيرا» لألفريد هتشكوك، وكلها افلام اخرجت في بداية الخمسينات من القرن الماضي. وفيما يلي بعض من تلك اللقطات التي رصدتها «الشرق الاوسط»:

* مساء الاحد 27 اكتوبر (تشرين الاول) :

في الساعة التاسعة مساء، اخذ نزلاء الفندق اماكنهم في مطعم «مراكش امبريال» بينما حجزالمحظوظون منهم مقاعدهم في حديقة المطعم التي كان ينساب اليها من بعيد لحن عازف «الكونترباس» الذي جلس في مكان قصي تلفه عتمة المكان الشاعرية. فجأة يدخل عبد الرحمن اليوسفي، الوزير الاول المنتهية ولايته، وحيدا هذه المرة وليس كعادته صحبة زوجته او رفقة احد اصدقائه. وبحركة سريعة تشبه حركة الممثل الفرنسي لويس دوفنيس يشق طريقه بين الطاولات كمن يبحث عن شيء ضاع منه، وكما ظهر فجأة يختفي فجأة دون ان يلفت انتباه زبناء المطعم واغلبهم ذلك المساء من السياح الانجلوسكسون.

ومن عتمة الحديقة، من بعيد بالكاد، كانت بدت اربع شخصيات وقد انزوت بنفسها بعيدا عن فضول الآخرين، وكان واضحا بينها وجه ادريس جطو ، وهو في حديث مسترسل مع محمد اليازغي الرجل الثاني في حزب «الاتحاد الاشتراكي» ووزير التعمير والبيئة والسكنى في الحكومة المنتهية ولايتها.

والى جانبهما، وقف عمر عزيمان، وزير العدل، وعبد الرحمن السباعي الوزير المنتدب لدى الوزير الاول المكلف ادارة الدفاع الوطني. وخلف هذه المجموعة كان يقف غير بعيد منهم فؤاد عالي الهمة كاتب الدولة (وزير الدولة) في الداخلية، مثل احدى الشخصيات التي خرجت لتوها من فيلم «الرجل الذي يعرف كثيرا».

* ظهر الاثنين 28 اكتوبر :

اعضاء الحكومة يأتون تباعا الى القصر الملكي في مراكش لاستقبال الرئيس محمد حسني مبارك، الذي سيصل في الساعة 12 و30 دقيقة. اول الواصلين الى القصر الملكي، كان مولاي اسماعيل العلوي، الامين العام لحزب «التقدم والاشتراكية»، ووزير الزراعة في الحكومة المنتهية ولايتها. وقف وحيدا بين رجال البروتوكول وبعض الضباط الذين كانوا يسهرون على حراسة المكان في انتظار وصول زملائه، وبعد لحظة كان أغلب الوزراء قد حضروا باستثناء ادريس جطو ومن كانت لهم مهام لاستقبال الرئيس المصري في المطار.

تفرق الوزراء جماعات وفرادى. كان اليوسفي يمشي وسطهم وحيدا غير آبه بما يجري حوله، مر من امام المصورون الذين كانوا ينتظرون وصول الموكب الملكي، حيا احدهم اليوسفي او العكس هو الذي حصل، فطلب منه المصور الصحافي ان يلتقط له صورة، استجاب اليوسفي بطواعية فطلب منه الآخرون ان يلتقطوا صورا تذكارية معه. احد المصورين طلب منه ان يأخد معه صورة وهما يتصافحان، استجاب اليوسفي وهو يبتسم لعين الكاميرا. اقتربت من اليوسفي فحييته، سألني عن الصحافة، وسألته عن السياسة، فرد عليَّ قائلا «ماذا تريد مني ان اقول لك، انتم الصحافيون تملكون من الاخبار ما لا نملك، انتم اصحاب خيال» الححت على اليوسفي بأدب لمعرفة ما يدور في رأسه فرد عليَّ «هل تعتقد ان ما سأقوله لك سيكون مفيدا، ليس عندي ما يفيد قراء صحيفتك».

* في الساعة السابعة والنصف مساء من نفس اليوم في فندق المامونية الوزراء والمستشارون يستعدون للذهاب الى العشاء الرسمي الذي يقيمه العاهل المغربي على شرف ضيفه الرئيس المصري. بهو الفندق الفخم يعج بكبار الشخصيات وهم يرتدون جلاليبهم البيضاء، بينما وقف الحراس الشخصيون للشخصيات الرسمية المصرية التي تنزل في نفس الفندق في وضع متأهب، ففي احدى قاعات الفندق كان احمد ماهر، وزير خارجية مصر، واسامة الباز المستشار السياسي للرئيس المصري يعقدان مؤتمرا صحافيا صحبة محمد بن عيسى، وزير خارجية المغرب، خاصة بالصحافيين المصريين المرافقين للرئيس. بينما كان صفوت الشريف يقف مع السفير المصري لدى المغرب اشرف زعزع في بهو الفندق ينتظران خروج زملائهما لمرافقتهم الى حفل العشاء. خرج الجميع وكان الصحافيون المصريون فرحون بما غنموه من حصاد، خاصة ان مسؤوليهم رفضوا الحديث عند نزولهم من الطائرة مما اقلق الصحافيين الذين لم يجدوا ما يكتبوه.

اغلب المسؤولين الذين قابلتهم ذلك المساء كانوا يبادرون الى السؤال عن العلاقات المغربية ـ المصرية، طبعا لتفادي الحديث عن اخبار الحكومة المغربية. كان جطو آخر من نزل من غرفته. كان مسرعا كمن يخشى مصافحة اي احد.

الاسئلة التي كانت تدور ذلك المساء، تتمحور حول من سيحافظ من الوزراء على حقيبته ومن سيذهب الى حال سبيله. الوزراء الاكثر ثقة في انفسهم لا يتحدثون ولا يسألون.

في نفس المساء شوهد عبد الرحمن اليوسفي وعقيلته يتجولان في ساحة جامع الفنا التاريخية، مما اثار انتباه زوار الساحة فالتفوا حول الوزير الاول يحيوه، بينما استأذن البعض منه لالتقاط صورة تذكارية معه.

تأخر الاعلان عن الحكومة الجديدة كان ايضا يشغل بال المصريين، وعندما سئل صفوت الشريف وزير الاعلام المصري عن مستقبل العلاقات الاقتصادية بين بلده والمغرب اجاب : «فلننتظر حتى تتشكل الحكومة، عندها يمكن ان تجتمع اللجنة العليا المشتركة لبحث مثل هذه القضايا».

* مساء الثلاثاء 29 اكتوبر:

في نهاية زيارته الرسمية الى المغرب كان الرئيس المصري محمد حسني مبارك على موعد مساء يوم الثلاثاء، في مقر اقامته الرسمية بقصر «الستينية» مع رئيسي مجلس النواب ومجلس المستشارين المغربيين ومع الوزير الاول عبد الرحمن اليوسفي. كان ذلك آخر لقاء يجريه اليوسفي قبل انتهاء ولايته مع رئيس دولة. دام اللقاء 25 دقيقة. وعندما خرج اليوسفي صرح للصحافيين عندما سئل عن مستوى العلاقات بين بلده والمغرب بالقول «ان ما تحقق من اتفاقات بين البلدين خلال فترة ولايته التي استمرت اربع سنوات ونصف يوازي ما ابرم من اتفاقات خلال الاربعين سنة الماضية. وكان في هذه العبارة اشارة الى ما هو اعمق في كلام اليوسفي الذي كان دائما يلجأ الى لغة الاستعارة.

الاخبار التي كانت تنتشر مثل النار في الهشيم عن كون الحكومة ستنصب يوم الاربعاء، اصبحت تتبدد مفسحة المجال لمزيد من التكهنات والتخمينات.

* صباح الاربعاء 30 اكتوبر:

جميع اعضاء الحكومة المغربية غادروا مراكش باستثناء عمر عزيمان وزير العدل المرافق الرسمي للرئيس حسني مبارك، ونزهة الشقروني وزيرة المرأة والطفولة المرافقة الرسمية لسوزان مبارك.

بهو فندق «المامونية» يعج بالحركة في انتظار خروج الوفد الرسمي المصري في اتجاه المطار، فطائرة الرئيس ستقلع في الساعة الثانية عشرة ونصف ظهرا.

بعد اقلاع طائرة الرئيس المصري، سربت من جديد اشاعة عن كون الحكومة ستنصب غدا (الخميس)، بعد استقبال العاهل المغربي لوزير الخارجية الفرنسي دومنيك دوفيليبان، وفي الرباط كانت الاحزاب السياسية الكبرى المشاركة في الحكومة تعقد اجتماعات هيئاتها التنفيذية لوضع قيادتها في الصورة.

* مساء نفس اليوم:

صمت كبير يلف ردهات فندق المامونية وقد خلا من رواده باستثناء بعض السياح الذين كانوا يعبرون البهو الكبير على عجل. اما حديقة الفندق فخيم عليها سكون تام. وخارج الفندق بدت المدينة وكأنها استيقظت لتوها من نوم عميق. ساحة جامع الفنا تعج بروادها كدأبها منذ غابر العصور، ومن بعيد كان صوت فيروز يصدح «غدا يوم آخر».