مؤتمر «باريس ـ 2» تعود انطلاقته إلى «باريس ـ 1» وانعقاده في موعده تحدّ للتركيز الدولي على العراق

TT

صباح 27 فبراير (شباط) من العام الماضي، عُقد في قصر الأليزيه في باريس، بدعوة من الرئيس الفرنسي جاك شيراك اجتماع عمل ضم الى جانب الرئيس الفرنسي، رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ووزيري المال والاقتصاد فؤاد السنيورة وباسل فليحان وحاكم البنك المركزي رياض سلامة. وحضر من الجانب الفرنسي وزير المالية وقتها الاشتراكي لوران فابيوس فيما حضر رئيس البنك الدولي جيمس ولفنسون ونائبه للشرق الأوسط جان ـ لوي سربيب ونائب رئيس البنك الاوروبي فرنسيس مير.

الرئيس الحريري الذي قصد، عقب الاجتماع مباشرة، مقر السفارة اللبنانية للقاء مجموعة من الصحافيين، سارع للاعلان ان «اجتماعاً موسعاً جديداً سيعقد قريباً للنظر في كيفية دعم لبنان مالياً واقتصادياً. وفي باريس ايضا صدر بيان عن القصر الرئاسي جاء فيه ان الاسرة المالية الدولية (الممثلة في الاجتماع) «أبدت استعدادها لدعم الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة» للحكومة اللبنانية التي جاءت بها للانتخابات التشريعية اللبنانية (اواخر صيف العام 2000). واضاف البيان حرفياً: «ان اجتماعاً موسعاً سيعقد لاحقاً ويضم الاتحاد الاوروبي والمؤسسات المالية الدولية وشركاء لبنان وستؤدي فرنسا دوراً نشطاً» للتحضير لهذا الاجتماع.

هذا الاجتماع «الغريب» وفق وصف الحريري و«اللاحق» وفق البيان الرئاسي الفرنسي ظل على مدى عشرين شهرا ـ المدة الفاصلة بين الاعلان عنه وانعقاده السبت المقبل ـ الشغل الشاغل للحكومة اللبنانية ولرئيسها على وجه الخصوص. ولهذا الغرض، زار الحريري باريس والرئيس شيراك ثماني مرات في المدة عينها، آخرها زيارته في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، وذلك لوضع اللمسات الاخيرة على هذا المؤتمر الذي تأجل انعقاده اكثر من مرة سواء لأسباب فرنسية محض، او لأسباب لبنانية، او ايضا لأسباب تتعلق بالوضع الدولي وخصوصاً احداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001 وما تلاها من حرب على الارهاب.

المسؤولون والصحافيون اللبنانيون لم يتأخروا في ابتداع تسمية جديدة للمؤتمر الجديد سرعان ما تحول عنواناً متداولاً في كل الاوساط والمحافل. وهذه التسمية هي «باريس ـ 2». ومع التركيز على «باريس ـ 2» تقلص ذكر الاجتماع الاول الذي يندر من يصفه بـ«باريس ـ 1». ومع ذلك، فان «باريس ـ 1» اعطى اشارة الانطلاق الحقيقية والزخم اللازم لهذا المسعى لأنه نص على ان فرنسا «ستؤدي دوراً نشطاً» من اجل عقده وانجاحه. ولا جدال في ان لبنان يدين بهذا الاجتماع الذي يعوّل عليه الكثير من اجل الحصول على حوالي 5 مليارات دولار من القروض الجديدة بفوائد منخفضة تساعده على تحسين وضع مديونيته (البالغة 30 مليار دولار) ومعالجة عجز الميزانية، للرئيس شيراك شخصياً. ولم يسبق للرئيس الفرنسي، وفق احد المقربين منه، ان انغمس بهذا الشكل وبذل هذا القدر من الاتصالات على اعلى المستويات من اجل بلد آخر غير لبنان. وشيراك كان صاحب فكرة تعيين المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي ميشال كامديسو منسقاً عاماً للمؤتمر ومولجاً شؤون الاتصالات، خصوصاً مع الهيئات المالية الدولية التي يعرفها ويعرف اساليب عملها ووسائل اقناعها. فضلاً عن ذلك، فقد اخذ شيراك على عاتقه توجيه الدعوات باسمه الى الدول والهيئات المالية المشاركة، مما يعني انه وضع كل وزن فرنسا في الميزان لتوفير حضور متميز في المؤتمر ولضمان ان يحصل لبنان على الدعم الدولي المالي والاقتصادي الذي يحتاجه للخروج من الأزمة التي يعيشها.

ولغاية التاسع والعشرين من الشهر الماضي، يوم اعلن الحريري في ساحة الاليزيه، بعد اجتماع مطوّل مع شيراك، عن ان موعد انعقاد باريس ـ 2 هو 23 الشهر الحالي، كان الكثيرون يشككون بامكانية عقد هذا المؤتمر بالنظر لاستفحال المسألة العراقية واحتمالات توجيه ضربة عسكرية اميركية للعراق، مما يجعل «باريس ـ 2» مسألة لا تستأثر بالاهتمام الأول. مؤتمر «باريس ـ 2» كاد يذهب ضحية تعقيدات الوضع العراقي. ويقول احد المطلعين على هذا الملف ان اختيار تاريخ 23 نوفمبر (تشرين الثاني) كان مقصوداً منه «تمرير» اجتماع «باريس ـ 2» قبل الوصول الى اي استحقاق عسكري حقيقي في العراق، مع انتهاء مهلة الشهر التي اعطيت لبغداد لكي تعلن عن برامجها النووية والبيولوجية والباليستية. ووفق هذا الرأي، فان العاملين على ملف «باريس ـ 2» وجدوا ان ثمة «نافذة» يمكن استغلالها. والتزم قصر الاليزيه جانب الحذر عندما اعلنت مصادره انه يعود لكل بلد مدعو او هيئة مالية ان يحدد مستوى تمثيله. وكمحصلة لكل هذه الاتصالات، فان مؤتمر السبت المقبل سيكون فريداً من نوعه لأنه سيضم مجموعة الدول الصناعية الكبرى (الولايات المتحدة الاميركية واليابان والمانيا وكندا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا)، اضافة الى اسبانيا وبلجيكا والمفوضية الاوروبية وماليزيا، والدنمارك التي ترأس الاتحاد الاوروبي حتى نهاية العام الحالي. وستنضم الى هذه الدول بلدان مجلس التعاون الخليجي الست (السعودية والامارات وقطر وعمان والبحرين والكويت) اضافة الى اكبر ثلاث مؤسسات مالية دولية هي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك الاوروبي للاستثمار. وستحضر الى جانب هذه المؤسسات، الهيئات المالية العربية الرئيسية اي صندوق النقد العربي والصندوق السعودي للتنمية والصندوق الكويتي للتنمية والصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

اجواء التفاؤل السائدة حول المؤتمر، خصوصاً في اوساط المسؤولين اللبنانيين بلغت حد اعتباره الترياق الشافي لكل الامراض والعلل، الا ان مصادر قريبة من الملف تدعو الى «التحفظ» في التفاؤل بانتظار موافقة عدد من المؤسسات المالية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي على نتائجه. وهذا الصندوق لا يزال يطرح تساؤلات حول برنامج الاصلاح الاقتصادي اللبناني ومدى نجاحاته، وقدرة الحكومة على السير قدما به وتنفيذه، وحول خطة الحكومة للتعامل مع موضوع اعادة هيكلة الديون. وبعد ان كان صندوق النقد يصر على خفض قيمة الليرة ـ وهو ما رفضته السلطات اللبنانية ـ فانه يضع الاصبع اليوم على المديونية الداخلية بما لها من تعقيدات على علاقة الدولة بالمصارف اللبنانية التي تمسك بالجزء الاكبر من هذه المديونية.

وبأي حال، فان لبنان سيخرج من هذا المؤتمر ليس فقط بقروض ميسرة ووعود مالية وربما هبات، بل ايضا بدعم سياسي لخطة الاصلاح الاقتصادي لا سابق له الامر الذي سيعكسه مستوى المشاركة الدولية في المؤتمر حيث من المقرر ان يحضر، حتى الآن، رؤساء دول وحكومات كل من ماليزيا وكندا وايطاليا واسبانيا وبلجيكا اضافة الى الرئيس شيراك الذي سيشرف على اعمال المؤتمر، إضافة الى الامين العام للأمم المتحدة كوفي أنان. وهذا المستوى من الحضور سيعكس مستوى المسؤولية والآمال المعقودة على الحكومة اللبنانية في سعيها لاعادة اقتصاد البلاد الى سكة العافية.