الحرب الأميركية ضد الإرهاب بدأت بحقيبة محشوة بثلاثة ملايين دولار وتعليمات لفريق الاستخبارات الأميركية بإحضار رأس بن لادن في صندوق

الأموال التي دفعها رجال الـ«سي.آي.إيه» اشترت آلافا من أنصار طالبان وحركت زعماء الحرب والقبائل الأفغان

TT

لعب المال الذي وزعته وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي آي إيه) دورا رئيسيا في الحملة لإطاحة طالبان وضرب تنظيم القاعدة في افغانستان. ويكشف كتاب «بوش محاربا» الذي ألفه بوب وودوارد مساعد مدير تحرير صحيفة «واشنطن بوست» والذي اشتهر ايام فضيحة ووترغيت بعض اسرار الحرب الخفية التي شنتها «سي.اي.ايه» هناك والاتصالات التي جرت في البداية مع تحالف الشمال والزعماء الافغان لكسبهم الى صف واشنطن والاعداد لوصول القوات الاميركية. واعتمد وودوارد في معلوماته على مقابلات في البيت الابيض ومع الرئيس الاميركي جورج بوش واجتماعات مجلس الامن القومي الاميركي. وينقل عن بوش اعتباره إنفاق 70 مليون دولار في افغانستان لاسقاط طالبان بأنها صفقة رابحة، مستغربا ما انفقه الاتحاد السوفياتي السابق في حربه المأساوية هناك والتي اسهمت في سقوطه.

عند الساعة الثانية عشر والنصف من منتصف ظهر يوم 26 سبتمبر (ايلول) عام 2001، كانت طائرة هليكوبتر من نوع «إم. آي ـ 17» روسية الصنع تملكها وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي. آي. إيه)، تنقل رجلا في التاسعة والخمسين من عمره على ارتفاع 15 الف قدم فوق ممر أنجومان متجهة الى وادي بانشير شمال شرق أفغانستان. كان ذلك الرجل وأسمه الأول غاري، أما لقبه فلم يستخدم، ضابطا سريا في الـ«سي. اي.ايه»، وقد كلف بتصدر الموجة الأولى من حملة الرئيس بوش ضد الإرهاب. وبصحبته كان هناك فريق من عناصر الوكالة السريين شبه العسكريين، وبحوزتهم معدات اتصال متطورة يمكنهم من خلالها التواصل بشكل مباشر وسري مع مقر الوكالة في منطقة لانغلي بولاية فيرجينيا. وبين ساقيه كانت هناك حقيبة معدنية محكمة الإغلاق بداخلها 3 ملايين دولار أميركي، عبارة عن أوراق نقدية بلا تسلسل من فئة المائة دولار. قبل تجربته تلك اعتاد غاري على الضحك وهو يرى مشهدا تلفزيونيا أو سينمائيا يتضمن تسليم أحدهم لآخر حقيبة صغيرة بداخلها مليون دولار. إذ كان يقول إن الحقيبة لن تكفي تلك الأموال.

خلال مراحل عديدة في مشواره العملي، قام غاري بحشو مليون دولار في حقيبة حملها خلفه، لكي يتمكن من الحركة وتسليمها لأناس يقومون بمهام أخرى. وهذه المرة تحمل مسؤولية الملايين الثلاثة كالمعتاد. لكن الفرق هنا إنه يستطيع توزيعها كما يحلو له.

غاري هذا بدأ مشواره المهني كضابط في إدارة العمليات بوكالة المخابرات المركزية، منذ 32 عاما، وهو من نوع أولئك الذين يعملون بشكل خفي لحساب الوكالة، ويعتقد العديد إنهم لم يعودوا يمارسون عملهم. فخلال السبعينات كان يشغل مهمة الضابط السري المسؤول عن طهران ثم إسلام أباد فيما بعد. وقد تمكن من تجنيد وتدريب ودفع المال والإشراف على عملاء نقلوا له معلومات من داخل الحكومات المعنية. وخلال الثمانينات، عمل رئيسا لمحطة الوكالة في أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، ثم عمل فيما بعد رئيسا لمحطة الوكالة في كابل. وعندما أغلقت سفارة الولايات المتحدة في كابل نظرا للغزو السوفياتي، كان يزاول عمه إنطلاقا من إسلام آباد.

وخلال التسعينات عمل نائبا لرئيس محطة الوكالة في السعودية. وفيما بين أعوام 1996 وحتى 1999، شغل موقع رئيس محطة الوكالة في إسلام آباد، ثم نائب رئيس القسم الخاص بعمليات آسيا في المقر الرئيسي للوكالة بلانغلي.

يوم الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) من عام 2001، كان غاري على بعد أسابيع من التقاعد. لكنه تلقى مكالمة بعد أربعة أيام من كوفر بلاك، رئيس مركز مكافحة الإرهاب بالوكالة، يدعوه فيها للحضور إلى المقر الرئيسي. حينها قال له بلاك: «أعلم إنك تستعد للتقاعد، لكننا نريد إرسال فريق في الحال. وأنت الشخص المنطقي الذي يمكنه الذهاب». فغاري لم يكن فقط خبيرا بالمنطقة، بل إنه يتحدث باللغتين البشتو والداري، وهما أهم لغات أفغانستان.

تكونت المجموعة من عدد محدود من موظفي وكالة الاستخباارت المركزية وضباطها شبه العسكريين التابعين لقسم الأنشطة الخاصة شديد السرية التابع لإدارة العمليات. حينها قال غاري: «أجل، سأذهب». فعندما كان مسؤولا عن محطة إسلام آباد قام بالعديد من الزيارات السرية لأفغانستان، والتقى بزعماء تحالف الشمال المهترئ الذي ضم زعماء حرب ورجال قبائل كانوا يعارضون حكومة طالبان، وكان ينقل معه حقيبة مليئة بأموال نقدية ـ عادة ما كانت تبلغ 200 الف دولار أميركي ـ ليعرضها عليهم أثناء التفاوض.

قال له بلاك اذهب إذاً وقم بإقناع تحالف الشمال بأن يعملوا معنا وأن يعدوا الساحة في أفغانستان لاستقبال قوات أميركية، واتاحة المجال لها لكي تشن عملياتها، بحيث يقوموا بالمهمة بدون دعم بشري. إذ ستتوفر فقط مجاميع تتولى البحث والإنقاذ في حالة حدوث مشكلة ما.

بعد أربعة أيام لاحقة، وفي يوم 19 سبتمبر، دعا بلاك غاري للحضور إلى مكتبه. كما أطلق على المجموعة، التي سميت رسميا بفريق التنسيق مع شمال أفغانستان، اسم حركي هو «جو بريكرر» (كاسر الفك). وكان عليها التحرك في اليوم التالي، بإتجاه أوروبا ثم نحو المنطقة فأفغانستان بأسرع وقت ممكن.

كان أمام كاسر الفك واجب آخر. فقد وقع الرئيس على أمر استخباري جديد، كما تم خلع القفازات، وأصدر بلاك تعليماته للمجموعة قائلا: «اذهبوا وأعثروا على القاعدة واقتلوهم. سنقوم بإبادتهم. اقبضوا على بن لادن. اعثروا عليه. أريد أن أرى رأسه في صندوق... أريد أن تأتوني به لأريه للرئيس». حينها رد عليه غاري قائلا: «حسنا، لا يحتاج الأمر إلى مزيد من التوضيح».

غادر غاري واشنطن في اليوم التالي، وتم تجميع الفريق في آسيا. وقد مرت لحظات توتر بانتظار تأشيرات الدخول والموافقات اللازمة للوصول إلى أوزبكستان وطاجيكستان.

أما الآن وقد أصبح على متن طائرة الهليكوبتر، فإنه شعر بالقلق طوال وقت الرحلة إلى أفغانستان والتي استغرقت ساعتين ونصف الساعة. في ذلك الوقت كان عميل تابع لوكالة الاستخبارات المركزية في طشقند بأوزبكستان على اتصال مستمر مع تحالف الشمال بواسطة الراديو، حيث ابلغهم إن المجموعة في الطريق إليهم. لكن خط الإتصال لم يكن مأمونا، ورغم افتراض إن منطقة تحليق الهليكوبتر تعد تحت سيطرة تحالف الشمال، الا إنه كان بإمكان جندي يتبع طالبان أو القاعدة ويتمركز فى مكان مرتفع، ان يطلق صاروخا من نوع ستينغر أو قذيفة مضادة للطائرات من نوع زد ـ 23، نحو المروحية ويسقطها على التو.

حطت هليكوبتر كاسر الفك في حقل هبوط على بعد قرابة 70 ميلا شمال مدينة كابل، في قلب المنطقة التي يسيطر عليها تحالف الشمال، عند حوالي الثالثة من بعد الظهر بالتوقيت المحلي. كان الفريق يتكون من عشرة رجال ـ هم غاري ونائبه وضابط شاب مختص لدى إدارة العمليات أمضى أربعة أعوام في باكستان ويجيد التحدث باللغتين الفارسية والداري، إضافة إلى ضابط إتصال ميداني خبير سبق له العمل في أماكن وعرة، وعميل سابق في البحرية الأميركية شبه عسكري، وخبير طبي لدى وكالة المخابرات المركزية، وقائدي طائرة الهليكوبتر وخبير صيانة. كانت أعمارهم تتراوح بين الثلاثين عاما وقد تنوعت أشكالهم وأحجامهم. كما ارتدوا ملابس خاصة برحلات المخيمات وإرتدوا قبعات رياضة كرة البيسبول الأميركية.

كان في استقبالهم اثنان من مسؤولي تحالف الشمال يرافقهما حوالي عشرة رجال آخرين. وقد وضعوا ما بحوزتهم في عربة نقل وتحركوا قرابة مسافة ميل بإتجاه دار ضيافة يقع في قرية صغيرة. كانت القرية محاصرة بنقاط تفتيش في أطرافها. وشعر مسؤولو التحالف بالقلق كما أرادوا اخفاء المجموعة الأميركية عن الأنظار.

وعند حوالي السادسة من مساء ذلك اليوم، قاموا بتشغيل نظام اتصالاتهم المأمون. حيث بعث غاري ببرقية سرية طالبا بعض الأشياء الإضافية. وابتهاجا بسلامة الوصول وباستيعاب طلب بلاك المتعلق برأس بن لادن، أضاف جملة في البرقية يرجو فيها إرسال بعض الصناديق الورقية المتينة وبعض الثلج المجفف، وإن أمكن بعض الرماح.

* انطباعات بمليون دولار

* كان أول لقاء عقده غاري خلال تلك الليلة مع المهندس محمد عارف سواري، الذي تزعم جهاز الأمن والمخابرات التابع لتحالف الشمال. وقد تعرف الأخير على غاري خلال شهر ديسمبر (كانون الاول) السابق، عندما التقى، بصفته نائب رئيس الشعبة خلال زيارته لباريس، بأحمد شاه مسعود، زعيم تحالف الشمال الذي قتل عشية هجمات الحادي عشر من سبتمبر،. ويبدو ان محمد عارف شعر بالارتياح عندما تعرف على غاري.

حينها وضع غارى حزمة من المال فوق الطاولة: كانت تساوي نصف مليون دولار موزعة على عشر لفافات من فئة المائة دولار. فقد اعتقد ان هذا المبلغ سيترك انطباعا أفضل من مبلغ الـ200 الف المعتاد، وانه أفضل طريقة للقول بأننا هنا، وإننا جادون، وها هو المال الذي نعلم انكم بحاجة اليه.

وقال لهم: «ما نريدكم أن تفعلوه هو استخدام المال. يمكنكم شراء الطعام والسلاح وما تريدونه لتجهيز قواتكم». كان المال مخصصا أيضا لعمليات جمع المعلومات والدفع لمصادرها وللمتعاونين. كان هناك المزيد من المال المتوفر ـ الكثير جدا. وفي القريب العاجل سيتسنى لغاري مطالبة مقر وكالة الاستخبارات المركزية بتوفير عشرة ملايين دولار نقدا وسيحصل عليها. حينها قال محمد عارف لغاري إن تحالف الشمال يرحب بكم.

قال غاري إن الخطة تتضمن التمهيد لوصول قوات أميركية. وأوضح: «لا ندري كيف ستحضر إلى هنا وكم قوامها، لكننا نبحث الأمر مع قوات العمليات الخاصة، فكما تعلمون، إنها مجاميع صغيرة تضم أناسا يمكنهم الوصول وتنفيذ عمليات ومساعدتكم في تعزيز جيشكم ثم التنسيق بين قواتكم والقوات الأميركية التتي ستأتي وتهجم على جيش طالبان. ونحن بحاجة للتنسيق بهذا الخصوص». حينها أجابه محمد عارف بالقول: عظيم.

وعند حوالي منتصف نهار اليوم التالي، يوم 27 سبتمبر (أيلول)، بالتوقيت المحلي في وادي بانشير، جلس غاري على الأرض مع الجنرال محمد فهيم، القائد العسكري لقوات تحالف الشمال، وعبد الله عبد الله وزير خارجية التحالف. حيث عرض عليهما مليون دولار، موضحا لهما انهما يستطيعان إنفاق المبلغ كما يحلو لهما. وقد قال فهيم إن لديه قرابة 10 آلاف مقاتل، معظمهم يفتقرون للعتاد.

حينها قال غاري: «الرئيس مهتم بمهمتنا، ويريدكم أن تعلموا ان القوات الأميركية قادمة واننا نريد تعاونكم، كما انه مهتم شخصيا بهذا الأمر». كان يعتمد على نظام إتصالات مأمون، وقد هول من المسألة قائلا: «كل ما أبعثه إلى هناك يطلع عليه (الرئيس). ولذا فالأمر مهم». وبدون مبالغة أضاف: «إنها ساحة دولية». أجابه فهيم بالقول: «إننا نرحب بكم يا جماعة. وسنبذل قصارى جهدنا». لكنه طرح أسئلة مفادها «متى ستبدأ الحرب؟ ومتى ستأتون بالرجال؟ ومتى ستبدأ الولايات المتحدة بالفعل بالهجوم؟». قال غاري: «لا أعلم. لكن الأمر سيتم قريبا. يجب أن نكون مستعدين. يجب أن يتم نشر القوات. ويجب أن نجمع الأشياء معا. سيدهشكم الأمر. إذ لم يسبق لكم مشاهدة شيء يشبه ما سنوجهه نحو العدو».

* ما يمكن وما لا يمكن عمله

* وزع غاري العديد من رجاله على إقليم تاكار، الجبهة الفاصلة بين تحالف الشمال وقوات طالبان. وقد توجهوا شمالا، على بعد قرابة 60 ميلا شرق قندز. وهناك وجدوا قوات تحالف الشمال منضبطة، وتم تنظيف ملابسها وأسلحتها. لكن صمامات أمان البنادق كانت مستخدمة، في إشارة إلى أن تلك المنطقة لم تكن ساحة قتال ساخنة. اصطفت القوات بشكل منتظم واستعرضت تدريباتها العسكرية. كان هناك تسلسل قيادي. لكن لم تكن أعداد القوات وأسلحتها كافية للتحرك ضد طالبان، التي كانت تتربص بها في الجانب الآخر.

لقد علم غاري ان مقر وكالة المخابرات المركزية يعتقد إن طالبان ستكون خصما صلبا في المعركة وان أي هجوم أميركي سيلهب مشاعر المتعاطفين مع طالبان في أفغانستان وفي المنطقة، خاصة في باكستان، حيث سيحتشدون حول زعيم طالبان الملا محمد عمر.

لكن غاري كان له رأي مختلف. فقد إعتقد إن قصف جبهة طالبان بقوة هائلة ـ «يعد شيئا رائعا بالفعل»، كما وصفه ـ وسيؤدي إلى تفكك طالبان وتعديل الصورة. وفي يوم الأول من أكتوبر (تشرين الأول) بعث إلى مقر الوكالة بتقرير سري كتب فيه «في هذه الحالة، قد يتم التعجيل بإنهيار طالبان، حيث سيتضاءل العدو ويصبح عبارة عن مجموعة محدودة من نخبة مؤيدي الملا عمر، خلال الأيام أو الأسابيع الأولى من الحملة العسكرية». وقد تلقت واشنطن التقرير بشيء من التشاؤم الذي عبر عنه البعض في إدارة العميات، حيث قلل الفطاحل والخبراء علانية من شأن ما طرحه غاري. لكن مدير الوكالة جورج تينيت نقل البرقية للرئيس بوش، الذي قال: «أريد المزيد من هذا».

ويوم الأربعاء الثالث من اكتوبر (تشرين الاول) 2001، بحث غاري عن ساحة للهبوط الجوي يمكنها إحضار التموين لمنطقة تحالف الشمال. وقد عثرت المجموعة على المطلوب في منطقة تدعى غولبهار استخدمها البريطانيون خلال عام .1919 وقد طلب من محمد عارف، مسؤول مخابرات التحالف، مسح منطقة يمكن تحويلها إلى منفذ جوي، ثم قدم له مبلغ 200 الف دولار أميركي إضافي. واشترى ثلاث عربات من نوع جيب مقابل 19 الف دولار ثم أنفق مبلغا إضافيا آخر قدره 22 الف دولار في شراء عربة نقل بها خزان ووقود للهليكوبتر، ووعد عارف بشراء عربة نقل من دوشنبيه بطاجيكستان، ثم توصيلها عبر الجبال إلى فريق «سي. آي. إيه»، لكن هذه العربة لم تصل قط.

في ذلك اليوم التقى رئيس العمليات الخاصة التابعة لشعبة مكافحة الإرهاب لدى «سي. آي. إيه»، واسمه هانك (أخفي أسم عائلته) في مدينة تامبا بولاية فلوريدا، بالجنرال تومي فرانكس، مسؤول القيادة المركزية لجيش الولايات المتحدة، والذي سيتولى مسؤولية الحرب. وبإستخدام خرائط لأفغانستان، أوضح هانك كيفية عمل فرق «سي. آي. إيه» شبه العسكرية مع مجاميع من قوات المعارضة بما يمكنها من المضي قدما إلى الأمام. بحيث تتولى قوات المعارضة، وبدرجة رئيسية تحالف الشمال، معظم المهام، القتالية الميدانية. فلو كررت الولايات المتحدة أخطاء الاتحاد السوفياتي المتعلقة بتنفيذ الغزو بقوات برية هائلة، فإنها ستهلك.

وقد تقرر أن تستخدم فرق العمليات الخاصة التابعة للجنرال فرانكس في تحديد الأهداف التي يمكن قصفها بعنف عن طريق الجو. وميدانيا قد تتيح المعلومات التي تم جمعها بواسطة أفراد، عن أهداف ما، مزيدا من دقة التصويب للقذائف الموجهة.

ووفقا لتعليمات مدير الوكالة أوضح هانك ان المجاميع شبه العسكرية ستعمل تحت إمرة فرانكس، وبناء عليه وفي أسلوب مخالف لما أتبع مؤخرا، ستتيح «سي. آي. إيه» لفرانكس ولقادة قوات العمليات الخاصة التابعين له التعرف على كل ما تحتفظ به الوكالة في أفغانستان، على قدراتها، ومواقعها وعلى تقييمها لكل ذلك، بحيث يعمل الجيش و«سي. آي. إيه» كشركاء في تنفيذ المهمة.

من حيث المبدأ وافق فرانكس على الخطة. وقد كشف عن ان حملة القصف الجوي من المقرر أن تبدأ في أي وقت اعتبارا من يوم السادس من أكتوبر، أي بعد ثلاثة أيام.

لقد أتت الأموال ثمارها في أفغانستان، كما قال هانك، وقد توفرت لديهم الملايين على هيئة أموال سرية للعمل. وعند نقطة ما، يمكن لوكالة الاستخبارت ان تقدم المال من أجل شراء الطعام والبطانيات، وما يواجه الطقس البارد إضافة إلى الدواء، مما يمكن القاؤه من الجو. ويمكن شراء زعماء والصف الثاني من القادة العسكريين ممن يسيطرون على عشرات أو مئات المقاتلين بمبالغ نقدية قد تصل إلى 50 الف دولار أميركي، حسبما قال هانك. وأضاف قائلا إننا إذا ما أنجزنا المهمة بشكل صحيح، فسيتسنى لنا شراء المزيد من أنصار طالبان مقارنة بمن سيتوجب علينا قتلهم. وهو ما وافق عليه الجنرال فرانكس حتى منتصف شهر اكتوبر، كانت عملية كاسر الفك ما تزال تمثل الحضور الأرضي الأميركي الوحيد في أفغانستان. فقد كانت المجموعة المكلفة بتنفيذها تحاول تحديد أهداف القصف الجوي.

قال فهيم لغاري: «فقط اقصفوا لي الخطوط الأمامية». واقصفوا طالبان والقاعدة في الجانب الآخر، مضيفا «أستطيع السيطرة على كابل. وأستطيع السيطرة على قندز إذا ما حطمتم خط المواجهة أمامي. إن رجالي مستعدون». كان فهيم قصير القامة وممتلئ، وقد بدا كالسفاح، ويبدو إن أنفه قد كسر ثلاث مرات. وقد حصلت قواته على أزياء نظيفة، على افتراض انها تنتظر القصف التمهيدي للبدء بالهجوم.

قام غاري بزيارة القائد الميداني التابع لفهيم والمسؤول عن سهل شومالي، وهي منطقة تقع شمال مدينة كابل، حيث اضطرت قوات التحالف وطالبان لمواجهة بعضها البعض. وكان القائد الميداني يشعر بمزيد من الرعونة، حيث قال إن التحالف يستطيع السيطرة على كابل خلال يوم، متى ما تم اختراق الخطوط الأمامية بالقصف الأميركي. أما القصف الذي شمل أنحاء البلاد فلم يؤت ثماره، كما أضاف هذا القائد العسكري. كان رجاله قد استطاعوا اعتراض بعض الإتصالات التي كانت تجريها طالبان التي أشارت إلى أن الحركة لم يدهشها ما حدث. أما القائد العسكري فقد شعر بخيبة الأمل، حيث أشار إلى خطوط طالبان، وقال: انظروا، هناك يتمركز العدو. فقصف بعض المستودعات في قندهار لم يلحق بهم ضررا كبيرا».

وقد استنتج غاري إن القصف قد يكون لقي ترحيب هيكل القيادة في واشنطن، لكنه لم يؤت ثماره. وعند الساعة العاشرة وعشرين دقيقة من مساء يوم 19 أكتوبر، وضع طاقم كاسر الفك علامات في منطقة هبوط بسهل شومالي. وأخيرا كانت أولى مجاميع قوات العمليات الخاصة الأميركية المحمولة جوا، وأطلق عليها مجموعة ثلات خمسات «555»، في طريقها إلى ساحة القتال بعد تأجيلات عدة بسبب حالة الطقس. وفي الوقت نفسه لم تتمكن طائرتا هليكوبتر ـ 53 جي، التي تعد أضخم ما لدى سلاح الجو من هذا النوع، من التعرف على موقع الهبوط بدقة، وحطت كل منهما في مساحة تبعد عن الأخرى. وحينها اندفع كبير ضباط الصف ديفيد دياز ومجموعته المكونة من 12 شخصا، خارج المروحية.

وقد شكلوا المجموعة الرئيسية التي تولت تحديد الأهداف ميدانيا للطيارين الأميركيين لكي يقصفوا الخطوط الأمامية. وتحمل كل منهم مسؤولية التموين الميداني، بما في ذلك المعدات المطلوبة لتحديد الأهداف بأشعة الليزر.

وخلال الأسبوع التالي لذلك اليوم، استخدمت مجاميع قوات العمليات الخاصة علامات تحديد الأهداف بأشعة الليزر لتوجيه القصف الجوي الأميركي. ومع إن تلك المجموعة حققت نجاحات أولية، الا إن غاري أمكنه بيان انهم أخطأوا إصابة الأهداف. وحينها تم توجيه القاذفات الأميركية بقصف أهداف أخرى محددة بدقة. ولو لم تصب القاذفات أهدافها أو لسبب ما لم تحدث التفجير المطلوب، فإنهم كانوا على استعداد للتوجه إلى الخطوط الأمامية ومهاجمة مقاتلي طالبان هناك.

على إن غاري عايش العديد من الوقائع التي تسنى خلالها لمجموعة تحديد الأهداف للعثور على قافلة من عربات النقل التابعة لطالبان أو للقاعدة، ففي إحدى المرات ضمت القافلة 20 عربة نقل، تم دعوة القاذفات مرارا للقصف لكن دون جدوى. فقد كانت الطائرات منهمكة في قصف الأهداف الثابتة المحددة بدقة.

وذات يوم جلس غاري أمام واحد من أجهزة الكومبيوتر وكتب برقية لمقر وكالة الاستخابرات قائلا ذا لم نبدل اسلوبنا فإننا سنخسر هذا الشيء. فحركة طالبان لم تقصف بشدة على الإطلاق. إنهم يعتقدون إن بإمكانهم النجاة. أما تحالف الشمال فمستعد. إنهم يرغبون في المضي قدما، وهم على أهبة الاستعداد، لكنهم يفقدون الثقة. يعتقدون إن ما يشاهدونه هو كل ما نستطيع القيام به. إذا ما قصفنا طالبان بالقنابل بشكل متواصل لثلاثة أو لأربعة أيام، فإن جيل الشباب من طالبان سيتفكك.

بعث غاري بالبرقية، التي كانت عبارة عن صفحتين فقط. وحينها قرر تينيت أخذها للبيت الأبيض في اليوم التالي.

ذهب هانك إلى أفغانستان لتقييم خطوط المواجهة الأمامية برفقة عدد من مجاميع «سي آي إيه» شبه العسكرية. وقد تبين له إن ملايين الدولارات من الأموال السرية التي كانت فرق العمل توزعها هنا وهناك، أتت ثمارها المدهشة. وأجرى حسبة شملت الآلاف من أعضاء حركة طالبان الذين تم شراء ولائهم. فتحالف الشمال كان يحاول تشجيع الناس على التخلي عن طالبان نفسها، لكن «سي آي إيه» جاءت وعرضت المال أيضا. جرت العادة أن تبقى أموال الوكالة مخبأة مع بدء التفاوض، حيث يعرض على كبار القادة العسكريين ومن يتبعهم من مئات المقاتلين مبلغ 50 الف دولار أميركي، فيما يعرض على القادة من مستويات أدنى مبلغ 10 آلاف دولار.

وفي إحدى الحالات تم عرض 50 الف دولار على أحد القادة العسكريين لكي ينشق عن طالبان، لكنه قال: دعوني أفكر بالأمر. حينها وجهت مجموعة القوات الخاصة الأولى قذيفة موجهة من نوع جي ـ دام بالقرب من مقر القيادة التابع لذلك القائد. وفي اليوم التالي، تواصلوا مع القائد مجددا وعرضوا عليه فقط 40 الف دولار فوافق على تسلمها.

تمركزت مجاميع وكالة الاستخبارات الاميركية وقوات العمليات الخاصة في أنحاء مزار الشريف، المدينة التي يقطنها 200 الف وتقع في سهل ترابي على بعد 35 ميلا من الحدود الأوزبكية. وقبل اسبوع من ذلك اليوم، تمكن ضابط في القوات الخاصة بصحبة خمسة أشخاص آخرين من التسلل في المنطقة ليتمكنوا من تنسيق مهام المجاميع الأولى. فتلك المجاميع كانت توجه قذائفا حارقة من الجو باتجاه خطى دفاع طالبان الأماميين حوالي المدينة القديمة.

وقد توزعت إحدى المجموعات إلى أربع وحدات تدعم القصف الجوي، تنتشر في مساحة تزيد على 50 ميلا من المناطق الجبلية الوعرة. ذلك إن غياب الأهداف الثابتة المحددة سلفا أدى إلى إمكانية توجيه القاذفات الأميركية لقصف إهداف حددتها الوحدات الموزعة هنا وهناك، والتي أمكنها استخدام القنابل وكأنها قذائف مدفعية. لقد لحقت بخطوط تموين وإتصالات طالبان أضرار بالغة خلال القصف التمهيدي. فقد تم تدمير المئات من العربات والمخابئ، كما قتل الالاف من جنود طالبان أو تم أسرهم أو فروا بعيدا.

وقد أمكن في نهاية المطاف تنسيق الهجوم العنيف الذي نفذته الولايات المتحدة. وفي يوم التاسع من شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، سقطت مدينة مزار الشريف. وبعد أيام ثلاثة تالية، تلقى البيت الأبيض معلومات بأن طالبان تخلت عن العاصمة كابل. ويوم السابع من شهر ديسمبر (كانون الأول) انهارت مدينة قندهار المعقل الحصين لحركة طالبان، الأمر الذي أتاح عمليا لتحالف الشمال ولحلفائه من قبائل البشتون وللولايات المتحدة تولي زمام الأمر في ذلك البلد.

وبشكل إجمالي، بلغ إجمالي القوى التي خصصتها الولايات المتحدة للإطاحة بطالبان قرابة 110 من كوادر «سي آي إيه» إضافة إلى 316 فردا من قوات العمليات الخاصة، يدعمهم قصف جوي هائل.

كان تينيت، مدير «سي آي إيه» فخورا للغاية بما حققته الوكالة. فالأموال التي أمكن لها توزيعها بعيدا عن ضوابط الإنفاق المألوفة حركت القبائل. وفي بعض الحالات، تم تحديد مواصفات الأداء بدقة: حيث صدرت التعليمات للمعنيين بالتحرك من النقطة ألف إلى النقطة باء، إذا ما أرادوا عدة مئات من آلاف الدولارات. وأثبتت النقود التي استخدمت خلال التفاوض إنها ما تزال لغة عالمية. فلقد تمكن رجاله الذين انتشروا في أنحاء أفغانستان من جعل المهمة ممكنة الحدوث، إنجاز عملاق مقابل سنوات من الاستثمار في مجال تهيئة الكوادر البشرية للقيام بمثل هذه المهام الإستخبارية.

جاء في حسابات وكالة المخابرات المركزية إنها أنفقت فقط 70 مليون دولار على هيئة أموال مباشرة تم دفعها ميدانيا في أفغانستان، وإن بعض تلك الأموال أنفقت لإقامة مستشفيات ميدانية. وفي مقابلة صحافية مع الرئيس بوش قال: «كانت تلك صفقة رابحة»، وأعرب عن دهشته البالغة مما أنفقه السوفيات في حربهم المأساوية في أفغانستان والتي أسهمت في انهيار الاتحاد السوفياتي.

* اشترك مارك مالسيد في إعداد هذا التقرير

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»